معالم تركية في قصائد عربية
د. نعيم محمد عبد الغني
تتردد معالم تركية بعينها في كثير من القصائد العربية في سياق التغني بأمجاد الماضي الذي كانت الأمة فيه موحدة تحت راية الخلافة العثمانية، أو في سياق ذكر حادثة معينة ارتبطت بالمكان، أو في سياق المدح والهجاء.
ولا يذكر الشعراء كثيرا من المعالم التركية، بل ذكرهم كان لأعلام محدودة في قصائد كثيرة، فنجد كما كبيرا من تردادٍ لقصر يلدزا ومضيق البسفور وآيا صوفيا وأنقرة واستانبول كمعالم طبقت شهرتها الآفاق فذاعت على الألسنة وانتشرت؛ لتصبح من بعد خيطا في نسيج الشعر العربي قد يكون مستغربا لقرائه بعد مضي قرابة ثمانين عاما على سقوط الخلافة العثمانية وتغير كثير من معالم الجغرافيا، وأحداث التاريخ.
وفي قراءة لعينة من الشعر العربي لعدد من الشعراء في القرن العشرين يلاحظ أن قصر "يلدزا" أكثر تردادا ثم البسفور، ثم تأتي بعد ذلك المعالم التركية بنسب متقاربة في الذكر، فأما قصر "يلدزا" فهو قصر كان مقراً للحكم العثماني، وقد جعله شوقي في مصاف قصري الخورنق والسدير من حيث مكانتهما التاريخية المشهورة عنهما في الإبداع وحسن العمارة، حتى جُعلا من عجائب الدنيا؛ فالخورنق قصر بناه النعمان وقتل "سنمار" ذلك المعمار الرومي الذي ضرب به المثل في شدة الإخلاص والإبداع فقتل حتى لا يبدع قصرا مثل الخورنق لغير النعمان فيقال: "جزاء سنمار"، والسدير قصر في الحيرة ذو ثلاث قباب، وكان ذا استحكامات جاهزة ويعتقد أن المنذر بناه لأحد ملوك العجم. يقول شوقي ذاكرا يلدزا عندما بكى الخلافة العثمانية في قوله:
سل "يلدزا" ذات القصور
هل جاءها نبأ البدور
لو تستطيع إجابة
لبكتك بالدمع الغزير
أحنى عليها ما أناخ
على الخورنق والسدير
ويذكره معروف الرصافي في سياق انخداعه بما فعله حزب الاتحاد والترقي من إسقاط السلطان عبد الحميد بأنه كان قصرا في عنان السماء وأن هؤلاء الذين أسقطوا السلطان عبد الحميد جعلوا هذا القصر في أسفل سافلين فيقول:
وحَطُّوا قصر يلدز عن سماء
له فانحط أسفل سافلينا
وأصبح خاشع البنيان يغضي
عيونا عن تطاوله عمينا
أما حافظ إبراهيم فيصف إخراج السلطان عبد الحميد من هذا القصر بقوله:
وأخرجه من يلدز رب يلدز ... وجرده من سيف عثمان واهبه
وأصبح في منفاه والجيش دونه ... يغالب ذكرى ملكه وتغالبه
وكل الشعراء تقريبا يذكرون قصر يلدزا في هذا السياق ولا يرسمون صورة له كما فعل البحتري عندما وصف إيوان كسرى، وقد نجد تبريرا لذلك بأن هؤلاء الشعراء لم يزوروا تركيا غير أننا لا نجد تفسيرا لذلك في شعر شوقي الذي عاش في تركيا حينا من الدهر ودخل ذلك القصر. واستقبل بحفاوة في الأستانة وهو لقب آخر لقصر يلدزا. لكنه وصف لنا المناظر الطبيعية التي رآها وهو متوجه إلى الأستانة بقوله:
ولقد تمر على الغدير تخاله والبنت مرآة زهت بإطار
حلو التسلسل موجه وخريره كأنامل مرت على أوتار
أما مضيق البسفور فإنه كان أوفر حظا من قصر يلدزا حيث نال وصفا من عدد من الشعراء، وهو يسمى أحيانا بمضيق اسطنبول ويمتد طوله قرابة 32 كيلو مترا، أما عرضه فإنه يتراوح ما بين 500 متر تضيق وتتسع على امتداده، فهو مضيق ملتوٍ، ويفصل بين آسيا وأوربا وعلى جانبيه ترى القصور البديعة، والدور الخشبية التي تنطق آثارها بأحداث التاريخ، وهو مزار سياحي في اسطنبول، يحكي عنه محمد المخزنجي بقوله: "عندما تركب باخرة تبحر بك من بحر مرمرة متجهة إلى البحر الأسود عبر مضيق البوسفور فإنك تحس بثقل التاريخ وهول الجغرافيا، وتحس أكثر بجلال الطبيعية وجمال الكون في إحدى أجمل بقاعه".
وفي مضيق البسفور تسمع الحكايات والأساطير منها أسطورة تقول: إن أيوا كانت معشوقة لزيوس الذي كان متزوجا امرأة تسمى "هيرا" وكانت شديدة الغيرة على زوجها، فخاف زيوس على أيوا من بطش زوجته هيرا، فحولها إلى بقرة، لكن هيرا عرفت الأمر فأرسلت لها نحلة لتفزعها حتى أصبحت البقرة محشورة في هذا المضيق، فسمي مضيق البسفور بمخاض البقرة نسبة إلى هذه الحكاية.
ولقد وصف البسفور بعض الشعراء كمعروف الرصافي في قصيدته " خليليّ قوما بي لنشهد للربى" فيذكر بأن على جانبي هذا النهر أسرار التاريخ التي ينبغي أن تتفكر فيها العقول، ثم يصف سحر الطبيعة في هذا المكان الخلاب فيقول:
خليليّ قوما بي لنشهد للربى بجانبي البسفور مهد أسرار
أجِيلا معي الأفكار فيها فإنها مجالُ عقول للأنام وأفكار
ثم يصف جمال الطبيعة على ضفاف البسفور فيقول:
سفوحُ جبال بعضها فوق بعضها مكللة حافاتهنّ بأشجار
ويشرع في رواية رحلة له كانت في البسفور، واصفاً الشمس وهي تنعكس على مياه البسفور، مشبها إياها بالدنانير المتبعثرة، فيقول:
نزلنا بها والشمس من فوق أرسلت على منحنى الوادي ذوائبَ أنوار
وقد ظل من بين الغصون شعاعها يوقِّع ديناراً لنا جنب دينار
ويترك القارئ ليتخيل كيف يتسرب النور من الشجر الملتف فيرسم لوحة طبيعية من زرقة الماء وخضرة الزرع وبياض النور، وألوان الزهور المتباينة، فيقول:
كأن التفافَ الدوح والنور بينها جيوب من الأنوار زرت بأزرار
ويختم الشاعر معروف الرصافي رسمه للوحة مضيق البسفور بقوله:
مشاهد في تلك الرُّبى ومناظر تجلت على أطرافها قدرة الباري
ولا نجد مثل هذه الصورة عند كثير من الشعراء، فشوقي رغم كثرة ترداده للبسفور في تغنيه بأمجاد الترك وبكائه على أطلالهم لا يصف لنا هذه اللوحة الجميلة ولم أعثر لها على أثر في شعره، فهو لم يذكر هذه الملامح إلا عرضا في قصيدة يعتب فيها على الأمة تفرقها بعد وحدتها، وضعفها بعد قوتها ليصف السلطان عبد الحميد الذي انتزع من ملكه، ففي قصيدة (إلام الخلف بينكما إلاما ...وهذه الضجة الكبرى علامَ) يقول:
هذا يحنُّ إلى البسفور محتضراً وذاك يبكي الغَضا، والشيحَ، والبانا
واستنانبول التي يقع فيها نهر البسفور مدينة اختلف حول اسمها، فهناك من يكتبها (اسطنبول) وهناك من يكتبها (استانبول)، مع خلاف بالطبع في نوع همزتها بين الوصل والقطع، ويقولون إن استانبول ربما تكون محرفة عن إسلام بول التي تعني مدينة الإسلام، أما (اسطنبول) فكلمة أصلها يوناني وتعني (أنتم في المدينة)، وهي مدينة بها ثلاثة بحار، وتقع في قارتي آسيا وأوربا. وقد ساهم هذا الموقع في صنع إمبراطورية قوية.
وبعض هذه المعالم نجدها في قول شوقي الذي يلحظ فيه تأثر ببعض الكلمات التركية ككلمة (ألوكي) التي تعني الرسالة، فيذكر القرن الذهبي وبحر مرمرة الذي يوصل بالبحر الأسود عن طريق مضيق البسفور، فيقول:
إن جئت (مرمرة) تحث الفلك في
بهج كآفاق النعيم ضحوك
وأتيت (قرن التبر) ثَمَّ تحفه
تحف الضحى من جوهر وسلوك
فاطلع على دار السعادة وابتهل
في بابها العالي وأدِّ ألوكي
وآيا صوفيا معلم الشهير في تركيا الذي كان كنيسة وتحول إلى مسجد على يد السلطان محمد الفاتح ثم جاء أتاتورك وحول المسجد إلى متحف يضم كثيرا من آثار تركيا، وله طراز بيزنطي، ومظهر إسلامي في أربعة مآذن، وقبة يبلغ ارتفاعها قرابة 60مترا، وقد فإن حافظ إبراهيم رغم أنه أفرد له قصيدة إلا أنه لم يصف لنا من هذا المعلم شيئا؛ لأنه قال القصيدة حين خاف على الأستانة أن تمتد إليها يد الحلفاء وتنزعها من يد الأتراك، وقال فيها:
(أيا صوفيا) حان التفرق فاذكري
عهود كرام فيك صلوا وسلموا
والذي أنتهي إليه بعد استقراء عدد كبير من قصائد الشعر العربي أن وصف المعالم التركية لم يكن كثيرا، كما فعل كثير من الشعراء في وصف الحضارات المختلفة كوصف قصور فارس، وسحر الطبيعة في الأندلس...إلخ، وتعليل ذلك عندي أن كثيرا من شعراء النهضة لم تتح لهم رؤية تركيا، ليتأثروا بجمال طبيعتها الساحر، ومع ذلك نرى أثر التاريخ التركي في الشعر العربي في ملامح أخرى تكون حديثاً قادماً إن شاء الله.