الطب والأدب
د. نعيم محمد عبد الغني
يلاحظ أن عددا لا بأس به من الأطباء اشتغلوا بالأدب ونبغوا فيه منذ القدم وحتى الآن، وقد يكون ذلك مستساغا في القديم عندما نعلم أن العلماء كانوا يميلون إلى الموسوعية أكثر من التخصصية؛ فلا غرابة أن تجد الفيلسوف طبيبا، أو الطبيب أديبا، كابن سينا مثلا الذي كان فيلسوفا وشاعرا وأديبا أيضا، وكتب كتابه الشهير في الطب القانون، وكتاب الشفا، وله رسائل في الطب علمت الغرب الذي رجع إليها وترجمها واستفاد منها وكانت لبنة من لبنات أولى شيد عليها صرح النهضة الغربية الحديثة.
لكن الغريب أن نجد هذه الظاهرة في الأدب الحديث؛ حيث نجد أطباء أدباء؛ فهناك من الشعراء المعروفين مثلا الدكتور إبراهيم ناجي والدكتور أحمد تيمور، ومن كتاب القصة نجد الدكتور يوسف إدريس كما نجد مثلا الروائي علاء الأسواني طبيب الأسنان. ولا يخفى علينا بطبيعة الحال الدكتور مصطفى محمود الذي جمع بين الأدب والفلسفة والطب وكذا الدكتور زكي مبارك الذي حصل على دكتوراه في الطب والقانون والأدب والفلسفة، وكانت له إسهامات في كل تخصص معجبة غاية الإعجاب؛ حتى إنه استطاع توظيف ذلك كله في مؤلفاته التي تحس فيها بعمق التخصص وشمولية المعرفة ودقة التناول؛ فكتب كتابه الشهير (ليلى المريضة بالعراق) استلهمه من قصة قيس وليلى، وأطلق عليه هذا الاسم وذيله بتعليق: (أول كتاب يشرح عاطفة الحب)، وعلق عليه علي الجارم في حينها وقال: "لقد استطاع زكي مبارك نقل عاطفة الحب من الشعر إلى النثر". وعنوان زكي مبارك يحمل كما نرى بعد أدبيا وفلسفيا وطبيا، وقد نتطرق إليه في حكاية طبية قادمة إن شاء الله. وأيضا نرى من الأدباء العالميين، الأديب الروسي أنطون تشيخون الذي طغت شهرته أديباً وكاتباً عل شهرته كطبيب.
إننا إذا بصدد ظاهرة تحتاج إلى تفسير، فما سر تفوق الأطباء في الأدب وما العلاقة بين الأدب والطب؟
وبنظرة متواضعة أستطيع القول بأن بين الطب والأدب خيط رفيع هو الذي يربط بين هاتين المهنتين إن جاز التعبير، ذلك الخيط هو الإحساس؛ فالطبيب يحس بآلام الناس ويحاول معالجتها، وكذا الشاعر يحس بآلام الناس وآمالهم. وهذا الإحساس هو الذي يجعل الطبيب في قمة وعيه وتركيزه؛ حيث ينقب عن موطن الداء ليصف الدواء المناسب، وكذا الشاعر أو الأدب يأخذ مواطن الألم فيصفها بعبارة أدبية تختلف باختلاف الوسيط الأدبي فتكون مفصلة في الرواية ومقتضبة في القصة القصيرة، وشديدة الكثافة واللطف في الشعر. والطبيب كالأديب في علاقتهم بعامة الناس؛ فالناس يشعرون بالألم ولا يستطيعون تشخيصه وإن استطاعوا توصيفه فلا يستطيعون علاجه، والأطباء بما أوتوه من تجربة وخبرة وموهبة يستطيعون التشخيص ووصف العلاج، وكذا العامة لا يستطيعون التعبير عن مشاعرهم بصورة أدبية؛ فيلقطها الأديب في صورة مبدعة وهذا ربما يعبر عنه الجاحظ بقوله: "المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، والقروي والبدوي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ".
إذا فبرأيي أن عنصر الإحساس هو الذي يربط الأدب بالطب، وربما تكون هناك تفسيرات أخرى نرجو أن يشركنا القارئ فيها. وإلى لقاء في حكايات طبية أخرى إن شاء الله.