أنقذوا المعلم الفلسطيني

تحسين أبو عاصي

أنقذوا المعلم الفلسطيني

من تحت الركام

تحسين أبو عاصي

– غزة فلسطين –

[email protected]

لا تقل سيكولوجية المعلم الفلسطيني عطاءً في أعماقها المبدعة عن سيكولوجية المعلم الألماني ، أو المعلم الياباني أو الأمريكي أو السنغافوري ، ولكنه يحتاج إلى جهات فلسطينية حاضنة وراعية ، لكل الأدمغة المكتشفة والمخترعة من جيش المعلمين ، والتي أصبحت مغمورة لا يعرفها أحد ، فالمدرس في اليابان لا تسمح له حكومته عند بلوغ سن التقاعد أن ينزوي في بيته ينتظر الموت ، أو يقضي جل وقته بين كبار السن الذين نخر العجز عظامهم ، وأجلسهم الجهل على قارعة الطريق ، بل تعتبره الحكومة اليابانية مرجعا خصبا ، ومنهلا عذبا ، يستقي منه العاملين الجدد كل معاني التوجيه والإرشاد ، في مجال التربية والتعليم إن كان مدرسا ، أو في مجال الصحة إن كان طبيبا ، أو في مجال الزراعة والصناعة والسياسة والقانون ، كل حسب مجاله وتخصصه ، ويوفرون له جميع الإمكانيات ، لكي يفيد غيره من واقع خبراته الطويلة ، كما يهيئون له المناخ الصحي لكتابة مذكراته ، لتعتبر مرجعية مكتوبة حية ، من خلال مبنى يتم إعداده وتجهيزه بشكل خاص ، لكل أولئك أصحاب التجارب والعقول ، وهذا ما جعل أطفال اليابان أكثر تفوقا من باقي أطفال العالم في التصنيع ، فشرائح الحاسوب وألعاب الأطفال وغيرها من صنع الطفل الياباني ، الذي لا يزال شعبه يعاني القصف النووي الأمريكي على بلاده ، علما بأن الشعب الياباني استلم اليابان من الأمريكان بعد الحرب ، وهو يفتقر إلى أدنى الإمكانيات  التي تؤهله للزراعة والتصنيع ، بسبب ما ألحقته القنابل النووية من دمار كان له تأثيرا كبيرا على التربة والصحة الوراثية ، وهو الآن ينافس أكبر اقتصاديات العالم ، والمعلم الفلسطيني يملك من القدرات ما لا يقل عن زميله الياباني لو وجد التربة الصالحة التي تطور إبداعاته  .

وفي بريطانيا أقامت الحكومة مبنيا ضخما على رقعة أرض تزيد مساحتها على عشرة آلاف دونما وسط لندن ، جعلته الحكومة خاصا بالمبدعين والمكتشفين والمخترعين من المعلمين ، في جميع مجالات العمل والإنتاج والحياة ،على الصعيدين النظري والتطبيقي ، وزودتهم بكل الإمكانيات وقدمت لهم كل التسهيلات وعوامل التشجيع والنجاح ، فمتى يأتي الوقت على المعلم الفلسطيني لكي يفرغ كل طاقاته الكامنة في غرف البحث والاختراع ؟ .

وفي سنغافورة ، يصنع تلاميذ المرحلة الأساسية جميع ألعاب الأطفال والتي تصدر منها الدولة إلى كثير من دول العالم ، وتلاميذ الصف التاسع الأساسي يقدمون بحثا علميا عن الحاسوب ، كما يقف المعلمون هناك وراء كل تطور اقتصادي ، فلماذا لا يشارك المعلم الفلسطيني في تطوير اقتصاد بلادة ؟

وفي أمريكا ، بعد أن أطلق الاتحاد السوفيتي ( سابقا ) أو ل سفينة فضاء ،  اجتمع الرئيس الأمريكي مع قادة التعليم ، وطلب منهم وضع خطة خمسية يتم على أساسها إطلاق أول سفينة فضاء أمريكية ، وقد تم ذلك بالفعل ، فافتحوا المجال أمام المعلم في فلسطين ؛ من أجل الخلق والتطوير .

وفي نيكاراغوا والسفادور وغواتيمالا ، كان الثوار معلمين ، يعلمون بالنهار ويقاتلون في الليل ، ويقطعون الأدغال والمستنقعات والغابات حفاة وشبه عراة ، ولم تلن لهم إرادة ، وكثير من المعلمين الفلسطينيين أمضوا كثيرا من أعمارهم في سجون المحتل ، وكثير منهم من سقط شهيدا وهو يؤدي واجبه .

وأكثر من ذلك فإن هناك دول أعدت حكوماتها مرا كزا متخصصة في علم النفس ، هدفها الوحيد هو مراقبة ودراسة حركات وانفعالات وطرق التفكير لجميع العاملين في سلك الدولة ، وخاصة فيما يتعلق بالأمن القومي لتلك الدولة ، مثل مركز دانيال زيف للأبحاث في إسرائيل ، ووظيفته دراسة نفسية المفاوض الفلسطيني ، وتقديم النصائح للحكومة الإسرائيلية في هذا الشأن ، والذي يشرف عليه معلمون .

في كثير من دول العالم ، لا بد من أن يقضي كل مواطن ساعة على الأقل في اليوم في مجال القراءة ، في غرفة مكتبته التي يعتز بها ويطورها بنفسه ، ويخصص مبلغا من دخله ولو يسيرا لشراء الكتب .

المدرس في كثير من دول العالم الغربي لا يعمل أكثر من عشر سنوات ، وبعدها لا تُقبل له شهادة في محكمة ، بحكم انتهاء صلاحية استعماله .

كثير من قادة شعوب وثورات العالم كانوا معلمين ، مثل وزير الدفاع اللبناني الأسبق ، ورئيس وزراء العراق الحالي ، ورئيس رومانيا السابق ، كما كان صلاح خلف وخليل الوزير معلمين  (رحمهما الله ) .

المعلم الفلسطيني مقهور، يعطي بصمت وبدون شكوى ، لا يكل ولا يمل ، تخرّج على يديه الأجيال ، وأنار العقول والقلوب ، لا يشكو لأحد مصائبه وهمومه التي حلت بساحته .

القليل من المعلمين من يترك عمله وبعد عطاء طويل بدون عاهة صحية مزمنة ،  من شلل وأمراض قلب وسكر وضغط وكلية وكبد وغير ذلك ..... وهو يعيش محاصرا من كل الجهات مضغوطا مكبلا  .

أننا معشر المعلمين منا القادة ومنا المفكرين ومنا الأدباء ومنا أصحاب القرار ، منا من سقط شهيدا في ميدان القتال ، فإذا أردنا ثورة فعلينا بالمعلمين ، وإذا أردنا تقدما ونهوضا وإنتاجا فعلينا بالمعلمين ، وإذا أردنا تغييرا وأمنا فعلينا بالمعلمين ، وإذا أردنا سلما مجتمعيا أو دولة واستقرارا فعلينا بالمعلمين .

أما إذا كان المعلم يسير على قدم واحدة ، فهيهات لنا ، فكيف لو كانت قدمه الوحيدة تلك قدما عرجاء ؟ .

فما معنى أن يبلغ المعلم من العمر ستين عاما ، ثم يكون نصاب حصصه مثل نصاب حصص معلم تخرج حديثا ، أو أن يُسند له تعليم الصفوف الدنيا ؟ وما معنى أن يصرف كل مرتبه على تعليم أبنائه في الجامعات ؟ أليس جديرا بإعفاء أبنائه من الرسوم الجامعية تكريما له ؟ وما معنى أن يعمل المعلم في عمل آخر بعد انتهاء دوامه المدرسي ؟ .

ما معنى أن يعيش ويموت الكثير من المعلمين على هامش الحياة ، قتُطمس معالم إبداعاتهم ، وتموت معهم خبراتهم ؟ .

إن المعلم الفلسطيني يستحق كل تكريم وتقدير ، فهو الذي يمسك بيد أصبع الطباشير وبيده الأخرى البندقية ، فارحموا المعلم وأنقذوه من تحت الركام .