في ذكرى معركة ميسلون 3

شمس الدين العجلاني

في ذكرى معركة ميسلون :

هي معركة لن تنتهي حتى يرحلوا

3 من 4

شمس الدين العجلاني*

[email protected]

تحمل صفحات التاريخ و الذاكرة الشعبية القصص الكثيرة ، عن أيام الاستعمار الفرنسي ، و تحفل بطون الكتب و الجرائد ببعض الحكايا النادرة عن الجنرال غورو القائد الفرنسي الذي أعطى الأمر باحتلال دمشق ، و كان أول مندوب سامي فرنسي على سورية :

يوم في القصر يعادل باريس :

يروى أن الجنرال غورو عندما حل على دمشق محتلا نزل بادئ الأمر في بناء العابد الواقع في ساحة المرجة حتى الآن ، و من ثم اتخذ مقرا له قصر ناظم باشا و هو القصر الجمهوري القديم الآن القريب من ساحة ( آخر الخط ) أو ساحة ( ذي قار ) ، و عندما دخل غورو مع ضباطه هذا القصر أول مره  وما كادت تطأ قدماه أعتاب القصر حتى أبهرته روعته و نفائسه، فجالت عيناه بسرعة البرق متنقلة من قاعة إلى قاعه و من الأرض إلى الجدران و الأسقف  ، و يداه تتنقل بخفة اللصوص بين  نفائسه و كنوزه، و لم يستطع أن يخفي إعجابه عن ضبط ما في نفسه من رغبة في السطو والاستئثار بهذا القصر و نفائسه ، ولم يتمالك أعصابه و اخذ  يتمتم بصوت خافت : " إن يوماً في هذا القصر يعادل عمراً في باريس "

كيف يكون الغضب :

بعد أن استقر الجنرال غورو بدمشق ، قام بزيارة إلى القاهرة ، فأقامت له المفوضية الفرنسية هناك حفل استقبال فخمة دعت إليه الجالية الفرنسية و أعيان القاهره و وجهت الدعوة أيضاً إلى الجاليتين السورية و اللبنانية على أساس أن كلا البلدين تحت الانتداب الفرنسي و ذلك على صفحات الجرائد القاهرية                                  .

و كان هنالك عدد من الشبان المتحمس من اللبنانيين قد أسسوا في القاهرة جمعية باسم " لبنان الفتى " لمناهضة السياسة الفرنسية الاستعمارية في الشرق العربي ، فهالهم أن يحضر الاحتفال فريق من مواطنيهم بعد ما بدر من الفرنسيين في سورية و لبنان من قتل و إرهاب .. فدفعتهم غيرتهم الوطنية و حماستهم و نزوة شبابهم إلى القيام بعمل يشعرون به هذا القائد المحتل أن في مصر قوة هائلة تتربص به.. و تفتحت قريحتهم على رأي يقضي  بإرسال مئات برقيات الاحتجاج عليه و على سياسته في التعامل مع البلاد السورية و ذلك أثناء الاحتفال

و فعلا بدأ الاحتفال ، و ذهب عدد من أعضاء جمعية " لبنان الفتى " إلى مركز البريد في القاهرة ، و بدأ كل واحد منهم يخط برقية احتجاج   فأرسلوا في ساعة واحدة أو أقل أربعاً و أربعين برقية مستعجله تحمل كلها أسماء جمعيات و هيئات و مؤسسات وهمية لا وجود لها بل اخترعوا هم أسماء للتمويه و التهويل : جمعية اليد السوداء ، جمعية الانتقام ، جمعية الاستقلال ، لجنة التحرير السورية اللبنانية ، لجنة الدفاع عن لبنان ، لجنة محاربة الاستعمار ، إلى غير ذلك من الأسماء

 كانت البرقيات تصل تباعا إلى المفوضية الفرنسية  بالتتابع فتسلم إلى الجنرال و هو جالس في مقعده الوثير أو واقف بين مدعويه يستعرض بطولات جيشة ؟ فكان يقرأها البرقية تلو الأخرى و يدسها في جيبه بحركة عصبية ظاهرة و يتجهم وجهه ... ثم أسرع فجأة إلى الوزير الفرنسي المسيو جايار الذي كان حاضرا في الحفل  و قال له بلهجة متهدجة متأثرة : قلت لي أمس يا سعادة الوزير إن الجالية السورية و اللبنانية ستشترك في استقبالي لأنها راضية بما حدث و لكنني لا أرى من بين الحاضرين غير أفراد معددوين في حين أن البرقيات تنهال علي بمعدل واحدة كل 5 دقائق ! فإذا كان هذا هو الرضا فكيف يكون الغضب ؟!

هي معركة ولن تنتهي حتى يرحلوا :

يروى أيضا أن غورو أقام مأدبةٌ عشاء بعد دخوله دمشق بعده أيام ( يوم 8 آب عام 1920 م )  في مقر إقامته بدمشق دار الملك فيصل ( مبنى القصر المهاجرين القديم الآن)  ، و دعا إليها  رئيس الحكومة التي كانت قائمة آنذاك علاء الدين الدروبي  و الوزراء جميل الالشي و عطا الأيوبي و فارس الخوري و جلال الدين زهدي و بديع المؤيد و يوسف الحكيم ، وعددٌ كبير من أعيان و وجهاء دمشق على رأسهم الشيخ تاج الدين الحسيني و عبد الرحمن اليوسف . جلس الجميع إلى مائدة الطعام ، فأخذ غورو القائد الفرنسي الشرس ، يساير الحضور فامتدح جمال و عراقة  مدينة دمشق و روعة غوطتها ، و هواءها العليل ، ثم جال بنظره في القاعة التي يجلسون فيها، و أراد التهكم والاستخفاف بالحضور و بالملك فيصل الذي طرده الفرنسيون من دمشق بعد احتلالها  فقال: "أهذا هو القصر الذي سكنه فيصل؟" فساد الصمت القاعة و لم يتكلم احد و اخذوا يحركون رؤوسهم مثل الزرافة ..  فأجابه فارس الخوري بصوته الجهوري و باللغة الفرنسية قائلا : "نعم، يا صاحب الفخامة، هذا هو القصر الذي سكنه الملك فيصل، وقد بناه والٍ عثماني اسمه ناظم باشا، ثم حلَّ فيه جمال باشا، ثم الجنرال اللمبي ، والآن تحلُّونه فخامتكم. وجميع مَن ذكرتُهم أكلنا معهم في نفس القاعة، وكلهم رحلوا، وبقي القصر وبقينا نحن." فنزلت كلماته على مسمع الجنرال غورو  كالصاعقة فصمت، و صمت ووجم كلُّ مَن كان حول المائدة، ولم ينطق أحد بكلمة حتى انتهاء المأدبة... و انتهت مأدبةٌ عشاء و خرج الجميع من القصر ، فالتفت الشيخ تاج الدين الحسيني الذي كان حاضرًا هذه المأدبة إلى فارس الخوري معاتبا و خائفا علية قائلا : "منذ هذا اليوم انتحرت، ولن تقوم لك قائمة مع الفرنسيين." فكان رد فارس الخوري على الشيخ تاج سريعا " و قد اشتهر الخوري بسرعة البديهة " : "وأنا أيضًا لم أرغب أن تقوم لي قائمة، وإنما هي معركة ولن تنتهي حتى يرحلوا. "

المراجع :

كتاب فارس الخوري: حياته وعصره لجورج حداد وحنا خباز بيروت 1952.

          مجلة الاثنين و الدنيا الصادرة يوم 7-10-1946 م .                 

               

* صحفي وكاتب