أزياء

رغداء زيدان/سوريا

[email protected]

أرادت ابنتي شراء ملابس لها, فطلبت مني مرافقتها إلى السوق, وبما أن هذا المشوار ليس من المشاوير التي أحبذها أو أرغب بها, بل إنها بالنسبة لي هم ثقيل بكل معنى الكلمة فقد تعودت أن أتملص منها ما استطعت إلى ذلك سبيلاً, غير أنني هذه المرة لم أستطع ذلك وذهبت مرغمة مع ابنتي لتشتري ما تريد.

عادة عندما أذهب للسوق أحاول جعل زيارتي قصيرة قدر المستطاع, فمن الممكن أن أشتري من أول محل أراه أمامي, غير أنني عرفت منذ زمن بعيد أن هذه الخصلة لا توجد في بنات حواء الأخريات, فهن يرغبن في التجوال والسؤال ودخول المحلات, ويطلبن من البائع عرض كل ما عنده حتى يستقر رأيهن على قطعة فريدة بعد طول تردد ومشاورات.

ابنتي ليست كأمها, بل هي مثل بنات حواء تتردد كثيراً قبل أن تشتري, وبالطبع فهي لا تستمع لرأي أمها صاحبة الذوق المتردي غالباً بنظرها!

 استعنت على الشقا بالله وذهبت مع ابنتي, وحتى أخفف عن نفسي هم المهمة الشاقة هذه قررت أن يكون هذا المشوار مشوار ملاحظة واختبار لأشكال الأزياء والملابس المعروضة في المحلات وتلك الملبوسة من قبل النساء المتواجدات في السوق.

 كانت الألبسة رغم تنوعها يمكن تصنيفها إلى شكلين:

ـ لباس المحجبات: وبدوره ينقسم على قسمين الأول نساء يلبسن الجلباب الطويل (وأنا منهن) وهو متنوع الألوان (ولكنه يشبه بتصنيفه الملابس الموحدة التي يرتديها العمال والطلاب والعسكريون من حيث أنه يجعل النساء فرقة معينة, فكما نعرف الطالب من لباسه مثلاً صار الجلباب يعرّف بفئة معينة من النساء المحجبات! ) وهو بالمناسبة لباس غير مريح وليس عملياً, إلا أنه والحق يقال لباس اقتصادي, فأنا أشتري واحداً وألبسه كل السنة (لا يهم أن يكون ما تحته يشبه ما كان يلبسه الممثل أسامة الروماني تحت جلبابه من أسمال بالية في مسرحية غربة!).

والقسم الثاني من المحجبات هن اللواتي لا يلبسن الجلباب واخترن اللباس العادي كالبنطال والبلوز والتنورة مع محافظتهن على الحجاب فوق رؤوسهن.

ـ لباس السافرات: وهو لا يختلف كثيراً عن لباس القسم الثاني من النساء المحجبات فيكون الفرق بين القسمين هو غطاء الرأس فقط, إلا أن هناك بعض السافرات يلبسن لباساً قصيراً أو قمصاناً وبلوزات بنصف كم أو بلا أكمام......إلخ, مما لانجده عند المحجبات.

 الملاحظ أن هذه الألبسة جميعها سواء كانت للمحجبات أم للسافرات تتفق مع ما يسمى "صيحات الموضة" فنجد كل فترة شكلاً ما أو لوناً ما يطغى على لباس النساء, (وكلمة "صيحة" تذكرني بالأمر العسكري الذي يجب تنفيذه دون سؤال أو تفكير). وهذه الملابس كلها تتفق أيضاً مع اللباس الغربي, عدا طبعاً الجلباب الذي أطلق عليه بعضهم اسم الزي الإسلامي, وكأن المرأة إذا لبست غيره من أزياء تحقق شروط اللباس في الإسلام من كونها لا تصف ولا تشف يكون زيها غير إسلامي!.

 الملاحظ اختفاء اللباس الوطني الجميل والمتنوع في مدننا, وفي كثير من قرانا, والأدهى أن من تلبسه اليوم يُنظر إليها نظرة استخفاف واحتقار وتوصم "بالتخلف" وعدم مواكبة "التطور", مع أن أزياءنا الوطنية كانت جميلة ومحتشمة وتتماشى مع متطلبات البيئة والجو الاجتماعي العام والوظيفة التي تقوم بها المرأة, إلا أن مرض استلابنا للغرب وربط "التقدم والتخلف" بمدى تقليد الغرب شكلياً أدى إلى غياب هذا الزي الجميل وتراجعه, وحلت محله ملابس غير مريحة وليست عملية ولا تناسب بيئتنا وجونا المناخي وليست جميلة!.

 بل إن نساءنا ورجالنا أيضاً عندما تركوا اللباس الوطني تسببوا في اندثار صناعات جميلة جداً كانت قائمة في بلدنا, كصناعة الأقمشة المتنوعة, والتطريز المبدع والتفصيل الفريد الخاص بكل شخص على قياسه. وصارت الألبسة تصنّع في معامل تُقص بمقصات ضخمة وبمواصفات موحدة لا تراعي التنوع والاختلاف في أشكال الأجساد وأحجامها, فاليوم نرى كثيراً من النساء يلبسن ملابس لا تتناسب مع حجم أجسادهن واختلافاتها, (نحن نعرف أن أجساد النساء تختلف بأحجامها, فهناك السمينة والنحيفة وهناك ذات الورك العريض والأكتاف الضيقة أو ذات الخصر الرهيف والأكتاف العريضة.....إلخ) فإذا كانت المرأة سابقاً تخيط ثوبها بما يناسب شكل جسمها الخاص, وتبدع شكله حسب ذوقها, وتطرزه بيدها, فإننا اليوم نجد ملابس متشابهة لا إبداع فيها ولا تنوع وليست مناسبة للكثيرات منا.

 الملابس التي نراها اليوم مظهر واضح من مظاهر استلابنا للغرب, أدى إلى تخلينا عن لباسنا الوطني الجميل واحتقارنا له, وأدى إلى اختلال النظرة الجمالية عندنا فصرنا نطلق صفة الجمال على ملابس لا تناسبنا فقط لكونها تقترب من الذوق الغربي, وأدى هذا الاستلاب أيضاً إلى موت الإبداع الخاص بتصاميمنا فمعامل الملابس اليوم تتلقف ما تنتجه الماكينة الغربية بغض النظر عن خصائصنا ومميزاتنا.

 سيقول قائل إن اللباس يتغير ويختلف بين عصر وآخر, وعصرنا اليوم هو عصر العولمة, فالعالم اليوم صار قرية صغيرة! وأرد: بأن اللباس يحقق بالدرجة الأولى وظيفة إجتماعية ويجب أن يناسب الجو البيئي والاجتماعي في كل بلد, وهو بالتالي يدل على الذوق العام لأهل البلد, وكما أن المناخ يختلف بين منطقة وأخرى من العالم فكذلك العادات الاجتماعية مختلفة وكذلك الأذواق.

 بالمناسبة, بلاد الشام ومصر هي أكثر البلاد العربية استلاباً للغرب من جهة اللباس, فالسودان والصومال وموريتانيا ما زلنا نجد أهلها متمسكين بلباسهم الوطني الجميل, ونرى أن المسؤولين في تلك البلاد يحضرون المحافل الدولية بلباسهم الوطني, ولا يوجد من يحتقر هذا اللباس الوطني الخاص بهم, ذلك أنهم هم أنفسهم يحترمونه, أما نحن فلا يمكن أن نجد رجلاً أو امرأة يلبسون لباساً وطنياً ويحضرون به مناسبة إجتماعية خاصة فضلاً عن حضورهم به في المحافل الدولية, فاحتقار اللباس الوطني عندنا لا يمكن تفسيره إلا إذا لمسنا مدى تغلل مرض الاستلاب للغرب في العقل الباطن الجمعي لأفراد مجتمعاتنا.

 ابنتي تلك لم يعجبها المعروض من الملابس, ربما لأنها في سن المراهقة, وفي هذه السن تحب المراهقة التميز والفرادة, وهي وجدت أن أي شيء ستشتريه سيجعلها غير متميزة عن طابور النساء والبنات ذوات اللباس الموحد المنتشر بيننا. فضلاً عن أنها لم تجد ما يناسب شكل جسمها وما يناسب ذوقها.

بعد أن ساقتني إلى كل الأسواق المعروفة للباس طلبتُ استراحة فوافقت شفقة بي, فأخذتها إلى قصر العظم وهناك في جناح الألبسة الوطنية قالت ابنتي: كم كانت أزياؤنا الوطنية فريدة! أين اختفى هذا التطريز المبدع, وهذه الأقمشة الجميلة؟ قلت لها قضى عليها مرض الاستلاب يا عزيزتي! نظرت إلي نظرة عدم إعجاب وقالت دعينا نرجع للسوق!.