القرار الذي لم يصدره مؤتمر القمة
القرار الذي لم يصدره مؤتمر القمة
أ.د/
جابر قميحةما أكثر الغرائب والعجائب والتساؤلات والمناقشات التي دارت في وكالات الأنبياء وبين المواطنين من المصريين، ومن العرب حول مؤتمر القمة الأخير الذي عقد في دمشق، ولسنا هنا في مقام تقييم شامل، أو حتى موجز لمعطيات هذا المؤتمر العجيب، ولو على سبيل التكثيف والتركيز، ولكني أنقل ما جرى بيني وبين أحد الأصدقاء حول هذا المؤتمر الغريب:
قال صاحبي : لقد انتهى مؤتمر القمة و"الهمة" فما القرار الذي كنت تتمنى أن يصدره المؤتمرون؟!
أجبته قائلاً: سأجيب على سؤالك ولكن بعد أن تسمع الأبيات الآتية،وهي موجهة للكبار جدا ....حكامنا الأشاوس ... فقد تستشف منها الإجابة:
يـا كـبارًا , ولستمو كـم كبيرٍ في بوله راحَ يحبو وصـغيرٍ قد عظَّمته المعالي يـا كبارَ المقامِ، هنتم وبعتم فـالـذي بـاع شعبَهُ مستهينًا هـل أمِنتُم مكرَ اليهودِ إذَا مَا فاحذروهم، إن فاجئوكم نيامًا لـستُ أدري ما يفعلونَ ولكنْ مَـن يهنْ يسهلُ الهوانُ عليه | بكبارٍإنَّ بـالـعقلِ يُعرفُ زعَّـمَـتْهُ الأنطاعُ والأغبياءُ عَـزْمـةٌ حـرُّةٌ نَمَاها الإباءُ! لـم يـعد للشعوبِ فيكم رجاءُ هـو والـغاصبُ العدوُّ سواءُ أنـكـروكم، وحلَّتِ البَغضاءُ فـي هناءٍ فَلاَتَ حين نَجاءُ! يمسكُ البوحَ عن لساني الحياءُ مـا لـجـرحٍ بميِّتٍ ضرَّاءُ | الكُبراءُ
ثم واصلت كلامي فقلت: أعتقد أنك قد اقتربت جدًّا من الإجابة السديدة:
هو قرار واحد ووحيد، وهم لا يحتاجون إلى قرار آخر معه، وبه تنتهي كل مشكلات الشعوب العربية سياسيًّا، وعسكريًّا، واجتماعيًا، واقتصاديًّا، وتعليميًا... الخ بشرط أن ينفذ القرار بدقة، وأمانة، ونص القرار:
"نحن حكام الشعوب العربية , بناء على تجربتنا في حكم هذه الشعوب، وبعد اكتشافنا إخفاقنا الذريع في قيادتها , واكتشافنا أننا لا نملك ـ نحن الحكام ـ من القدرات والإمكانات والطاقات العقلية، والوعي السياسي والتاريخي.. ما يمكننا من تحقيق أي انتصار في أي مجال من المجالات؛ ولأننا فرضنا أنفسنا على هذه الشعوب فرضًا متذرعين بأغلبية متوهمة لا وجود لها إلا في خيالنا , وبعد مشاورات مكثفة في جلسات مغلقة , قررنا ـ بصفة نهائية ـ إعفاء شعوبنا من حكمنا الغاشم الاستبدادي , واعتزال الحكم بعد شهر من هذا القرار , ليتمكن كل شعب من انتخاب الحاكم الذي يريده انتخابًا حرًا نزيهًا ديمقراطيًّا".
***
وقال صاحبي : دعك من هذا الآن . فإني سائلك : ما مستقبل الأمة العربية في ضوء ما قرره رجال القمة في مؤتمر دمشق؟
قلت: اقرأ تفاصيل المناقشات التي ثارت في الجلسات , واقرأ البيان الختامي , وستكتشف أنهم لم يصلوا إلا إلى عموميات لا تغني، ولا تسمن من جوع , فهو إذن كلام فضفاض ... ساقط المضمون , ومن المستحيل أن يقودك إلى معرفة أبعاد حاضره أو أبعاد مستقبليَّـة.
ثم سألني صاحبي عن أهم مفاجآت هذا المؤتمر, فأجبت : طبعًا كلمات "الأخ القائد" معمر القذافي الخارجة عن الأصول، وعن الحد الأدنى من الفهم الواعي الدقيق للواقع ,والمواضعات السياسية على المستويين المحلي والعالمي , فهو ما زال يردد رأيه الغريب في أننا يجب أن نعمل على إنشاء دولة واحدة من فلسطين وإسرائيل، نسميها "إسراطين"، أو "فلس إيل". وذلك هو الحل النهائي الأبدي الحاسم لمشكلة فلسطين . (!!!!!)
ولا ننسى أن غريبته في الاجتماع السابق كانت "السيجار الأمريكاني" الذي أخذ القذافي يدخنه بعمق، وكأنه يتحدى حكام العرب بهذه الملعونة الهيفاء البيضاء، ويقول لهم بلسان الحال: أردتم أو لم تريدوا أمريكا لها حضورها هنا فلا تغالطوا.
***
وسألني صاحبي لماذا تنجح مؤتمرات أعدائنا نجاحًا باهرًا , وتخفق مؤتمراتنا إخفاقًا ذريعًا ؟ . قلت لأنهم لا يعقدون مؤتمراتهم إلا وفي جعبتهم كل وسائل النجاح وعوامله , أما نحن فلا يعقد حكامنا مؤتمراتهم إلا وهم مصرون عمليًا على الإخفاق والسقوط , ورفع أصواتهم الصاخبة بالتطاحن والمعارضة والمخالفة حرصًا على خطف الأضواء، وإثبات الوجود الذاتي.
***
قال صاحبي : أعتقد أن مشكلة الفلسطينيين حاليًا وخصوصًا في غزة، ورفح هي ضعف التمويل , بعد نسف البيوت والقبض على أرباب الأسر من الشباب والرجال.
قلت لصاحبي: أنا معك , وحل هذه المشكلة ليس بالصعب أوالمستحيل لو أن حكوماتنا ـ رسميا وشعبيا ـ قامت بعملية التمويل المتواصل . ولكن حكومتنا المصرية ـ على سبيل التمثيل ـ تصادر هذه الأموال، وتعتقل النشطاء الذين تطوعوا للقيام بهذا العمل الإنساني , مدعية أنهم يجمعون هذه الأموال للإنفاق على جماعة الإخوان المحظورة.
قال صاحبي: لكن مصادر هذا التمويل الشعبي محدودة وسيأتي وقت تتوقف فيه عن العطاء.
قلت: إن إعمال الفكر الحصيف يقود إلى ابتكار مصادر تمويلية جديدة، كالدعوة مثلاً إلى التبرع بثمن حلوى المولد النبوي، وشراؤها يكلف المصريين سبعة مليارات جنيه . ومن ذلك بيع ماء زمزم في علب كعلب المشروبات الغازية "العلبة بجنيه أو دولار" وتسوَّق للبلاد العربية والإسلامية , ويرصد ثمنها للشعب الفلسطيني .
وقد رأيت في الولايات المتحدة علبًا مشابهة مكتوب عليها "هواء أورشليم المقدس" يدفع في الواحدة دولار لصالح الدولة المصدرة وهي إسرائيل، يفتح المشتري العلبة فينطلق منها الهواء المضغوط , وبه رائحة عطر خفيف فمتى نفكر ونحسن التفكير ؟ .
***
إن الكلام في هذه المسائل يحتاج إلى تفصيل وإسهاب لا يتسع له المقام، ولكن الذي أحب أن أؤكده، وأركز عليه هو: أن هؤلاء الرجال المجتمعين في مؤتمر القمة , وكذلك الحكام الذين تغيبوا عنه ـ بقصد أو بدون قصد ـ كان عليهم أن يأخذوا أنفسهم بقرار واحد فقط، يعلنونه بشجاعة وعن رضا، تقديرًا لشعوبهم، وحرصًا على بقاء الأمة العربية، وسيرها في طريقها الصحيح، إنه القرار الذي صَدَّرتُ به هذا المقال، فهل هناك من يسمع؟ ... ومن يعي؟ ... ومن ينفِّـذ؟ ... علم ذلك عند الله.