عفواً.. البوصلة لا تعمل
د. صالح الشاعر
البوصلة تهديك السبيل وتوضح لك الاتجاهات وتجعلك ترى طريقك حتى في الظلام، ولكن ذلك كله مشروط بشرط واحد، أن تبقى البوصلة حرة، ولا تخضع لقوى مغناطيسية توجهها، ولا لوضعية غير متوازنة تعيق حركتها الحرة!
ولأن طبيعة الحياة تأبى الاتجاه الواحد، بل تتناقض معه تناقضًا كلِّيًّا، كان لا بد من وجود الشيء ونقيضه، والاتجاه وعكسه، والكل متاح على السواء، لتكون لإرادة الإنسان معنى، ولاختياراته قيمة، ولأفعاله قابلية للحساب وترتب الثواب والعقاب، وبالمبدأ نفسه يمضي عالم الماديات، فلولا القوة والمقاومة لما كان للرافعة معنى ولا وجود ولا تأثير.
والموضوعية هي بوصلة الفكر، هي المقياس والميزان الذي توزن به الأفكار، وحين يختل الميزان يعاني المجتمع بكامله فقدان المصداقية، وانعدام الإبداع، وانتشار النفاق والكذب والرياء.
فالإبداع لا يتنفس حسب التوجيهات، ولا يعمل لحساب أشخاص بعينهم ورؤاهم الثاقبة وعلومهم الغزيرة وأفكارهم المستنيرة، ولهذا تكثر جملة "حسب توجيهات معاليه"، و"وفق تعليمات سيادته" في المجتمعات المتخلفة فحسب، فهي تتفنن في تغطية عجزها وتشوهاتها بتلك الأقنعة الملطخة بنفاق السادة والكبراء، حتى تستمر عجلة الانتفاع والانتفاخ والخداع الذاتي.
ولذا فمجتمعاتنا ومؤسساتنا في خطر شديد، غياب البصيرة والرؤية الموضوعية يعطي تلك النتيجة، نحن نؤله مَن نتفق معهم في الرأي بحيث قد نقبل منهم ونمضي وراءهم في اتجاهات كارثية، وفي المقابل نشَيطِن مَن يخالفوننا الرأي بحيث نرميهم بكل بلية ونحاول كتم أصواتهم للأبد، وليست هذه شيم مجتمعات تسعى للبناء والبقاء والخلود.
إن مجرد تهميش فرد فاعل في المجتمع أو مجموعة من المجموعات يعني تعطيل عضو متحرك في جسد مشلول، وما ذلك من الحق في شيء، ولن تقرأ مثله في كتاب سماوي أو أرضي، والأمم التي سبقتنا بأشواط في مضمار السباق الحضاري تعرف ذلك وتطبقه، ولولا ذلك لما كان لأحد منا موطئ قدم في دولة أوروبية، والحال أن كثيرًا من أفراد مجتمعاتنا يعمل ويبني في هذه البلاد ويسهم في تقدمها، ثم يعود فنشكك في ولائه لوطنه حتى نجعله يستمرئ الغربة في بلاد الله!
تصور معي أن القانون يأخذ مجراه مع الناس كلهم على السواء، ستكون الرؤية واضحة في تلك الحالة، ولن نضطر إلى التوجس من أدياننا ومذاهبنا وتوجهاتنا الفكرية والدينية والاجتماعية، لأن المسار واضح وشفاف ولا يحابي أحدًا، أقبل منك ما يتفق ومصلحة وطني، وأعاقبك لو طرحت ما يضاد هذا الاتجاه أو يعلي من شأن مجموعتك الفكرية أو السياسية أو الا جتماعية فيما يخالف مصلحة الوطن، فالاتجاه الواحد لا يصنع إنجازًا، وقديمًا قال الشاعر: "فإن الخوافي قوة للقوادم"!
وفي الحقيقة إن ذلك ينسحب على واقعنا من جميع اتجاهاته، فالحياة الثقافية لدينا مزورة بالكامل، الناس لم تتعود القراءة الحرة، لكنهم تعودوا الوثنية الثقافية، فأيما صنم نصبته أجهزة الإعلام وسلطت عليه الأضواء وسخرت له سدنة الحظيرة وكهان المعبد الثقافي كان له من اهتمام الناس النصيب الأوفر، وما لم يدخل تلك الماكينة لم يعره أحد اهتمامًا، عفوًا، البوصلة لا تعمل إلا بالتوجيه وبفعل فاعل، وهكذا نعيش التزوير بأوضح ملامحه سياسة وثقافة ودينًا.
وليس ذكر الدين هنا إقحامًا في غير محله، فالتوجيه يهيمن على كل المجالات، وهو في مجتمعاتنا كالشمس و"قفا الفلاح"، فربما تطرح قولا شاذا لأحد الخوارج فتفاجأ أن الجميع يعرفه ويسمع عنه ويوافق أو يعترض، في حين تبحث وسط الناس فتجد قامات في العلم لم يسمع عنها أحد! لأن إعلامنا حين يقدم شخصيات دينية لا يبحث إلا عن "الكاركتر"، ولا علاقة له بمستوى العلم أو نفع الناس فهذا آخر ما يبحثون عنه، المهم "اللزمات" اللفظية والحركية، والملابس و"الراكور"، ولا بأس ببعض الورد أو الريحان أو أي شيء يصنع لضيف الشاشة شخصية وملامح تميزه!
ويظل المجتمع تحت رحمة هذه الآلة الموجهة التي هي أخطر من الجهل المطبق، فالجاهل حين تعلمه يتعلم، وحين تقدم له الصواب يتقبل، أما المحشو دماغه دجلاً فتتربى لديه عقدة التعالم، وخصلة الجدال، والمنطق المعوج الذي يناطح به أعلم علماء الدنيا، حتى يصبح نقل الهرم أسهل من تعليمه حرفًا.