ذكرى وعد بلفور وجرائم بريطانيا
د. ماهر الجعبري
مع ذكرى وعد بلفور التي توافق الأحد 11/2، علقت صحيفة القدس في 2014/11/1 على الموقف البريطاني بالقول "وتختلف الذكرى هذا العام عن سابقاتها؛ لحدوث نوع من التطور الأكثر إيجابية في الموقف البريطاني تجاه القضية الفلسطينية... حيث صوت البرلمان البريطاني بأغلبية ساحقة لصالح الاعتراف بدولة فلسطين... وعلى الرغم من أن هذا القرار لا يأخذ الصفة الإلزامية إلا أنه يشكل نوعا من التغيير الإيجابي في الموقف البريطاني...".
وفي سياق متصل، اعتبرت بعض الفصائل الفلسطينية أن "وعد بلفور يذكر بمسؤوليات بريطانيا تجاه ما حل بالفلسطينيين" (وكالة معا)، وربطت بعضها الذكرى بحق عودة اللاجئين (فلسطين اليوم).
***
إن أحداث التاريخ بعد مرورها لا تكون من السياسة إلا ما كان لها أثر باق في الشأن الجاري، وذكرى وعد بلفور المشؤوم ومؤامرة بريطانيا الحاقدة على فلسطين هي تاريخ، ولكنها في الوقت نفسه شؤون سياسية تشغل الأمة الإسلامية، لأنها لا زالت ذات أثر باق سيئ في واقع الأمة.
وإن موقف بريطانيا في منح فلسطين لليهود لم يكن معزولا عن القوى الاستعمارية، بل إن عقلية الحروب الصليبية ظلت مسيطرة على الممالك في أوروبا قديما، وعلى الدول الأوروبية حديثا، وهي عقلية لا يمكن أن تزول من الساحة الدولية بل تتصاعد في صراع حضارات عالمي يتجدد عبر ما يسمونه "الحرب على الإرهاب".
لذلك تم إقرار وعد بلفور من قبل فرنسا وإيطاليا عام 1918، وتلتهما أمريكا عام 1919. وهذا التوافق والإقرار يكشف عن تآمر غربي قديم نحو نزع فلسطين من المسلمين، وأن بريطانيا كانت رائدته. وإن ما يسمى تطور الموقف البريطاني ما هو إلا نتيجة طبيعية لتبني بريطانيا لحل الدولتين وتخليها عن رؤيتها السابقة بحل الدولة الواحدة متعددة الطوائف، التي حملتها خلال عقود طويلة، وذلك بعدما أسلمت بريطانيا موقفها لحل الدولتين مع تشكل اللجنة الرباعية.
وإن السياق التاريخي والسياسي لقضية فلسطين يقتضي تلازم استذكار الموقف البريطاني المتآمر على فلسطين مع موقف دولة الخلافة العثمانية في حفظها لفلسطين وتبعيتها للأمة، حيث رد السلطان عبد الحميد رحمه الله سماسرة يهود وصفعهم صفعة تاريخية لا تنسى. وكما يذكر الزعيم اليهودي هرتزل في مذكراته تعقيبا على مقابلته للسلطان: "ونصحني السلطان عبد الحميد بأن لا أتخذَ أية خطوة أخرى في هذا السبيل، لأنَّه لا يستطيع أن يتخلى عن شبرٍ واحد من أرض فلسطين؛ إذ هي ليست ملكًا له، بل لأمته الإسلامية التي قاتلت من أجلها، وروت التربة بدماء أبنائها، كما نصحني بأن يحتفظ اليهود بملايينهم..."
فالخلافة ترفض التخلي عن شبر من فلسطين، والدول الاستعمارية تمنحها بكل بساطة لليهود!
ولذلك فإن التآمر على الخلافة من قبل بريطانيا هو أيضا من التاريخ المتصل بالسياسة الجارية، إذ إن بريطانيا تآمرت عبر ما سميّت "الثورة العربية الكبرى" للقضاء على الخلافة، التي مهدت لاحتلال فلسطين.
لذلك يجب أن يرضع أبناء المسلمين حليب الغضب ضد بريطانيا وتاريخها وسياستها العدائية، لا أن تمتدح مواقفها إعلاميا، ولا أن تستجدى من قبل فصائل تحسب نفسها على فلسطين وثورتها ومقاومتها.
ولا بد أن تتلازم في عقلية الأمة أن تحرير فلسطين منوط بالعمل لعودة الخلافة لا باستجداء تلك الدول الاستعمارية لتطبيق حل الدولتين الذي يشرّع كيان يهود فوق جل فلسطين، والذي يحول قضيتهم إلى قضية عودة اللاجئين لأرض تحت الاحتلال.
إن العودة الحقيقية هي عودة الأرض للناس، بتحريرها من اليهود، وهذه العودة لا تمر عبر أروقة المحافل الدولية ولا عبر نوافذ السفارات الاستعمارية، بل هي عودة عسكرية مبينة في وعد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود» (مسلم).
وإن من حقائق التاريخ أن تحرير فلسطين هو قضية عسكرية جهادية، ولا يمكن أن تكون قضية سياسية بحتة، وإن فلسطين مرتبطة بعقيدة المسلمين وبتاريخهم وإن احتلالها ظل في كل مرة مرتبطا بتشرذم المسلمين وبفرقتهم وبضعف الخلافة أو تمزقها أو القضاء عليها وبوجود متآمرين بين المسلمين، فيما كان تحريرها مرتبطا بالعمل على وحدة البلاد وتوحّد العباد.
ولذلك لا بد للمسلمين وهم يستذكرون وعد بلفور أن يستذكروا حقد بريطانيا وعقليتها الصليبية، وأن يدركوا أن فلسطين تمثل إحدى ساحات الصراع الحضاري مع الغرب الاستعماري.
وإن الحكام والإعلام يشتركون في تضليل أهل فلسطين والأمة الإسلامية حول الخلفية التاريخية لقضية فلسطين، وخصوصا ما كان منها شأنا سياسيا جاريا. وهم يصورون للأمة أن مواقف بريطانيا يمكن أن تتطور وأن تكون إيجابية وأن تتحمل مسؤولياتها، والله سبحانه يقول: ﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى﴾.