وحصحص الحق

شريف قاسم

[email protected]

ليس لنا أن نلومَ مَن ضلَّت دعاواهم في سعادة المجتمعات في العالم الرأسمالي الغربي ، ولا نوجه اللوم لأقرانهم في العالم الشيوعي الشرقي  ، ولا على العلمانيين الذين أوغلت أوهامهم في مدارات التباب ، فهؤلاء وأولئك لم يذوقوا طعم الإيمان بالله ، ولم يشعروا بلذة الأخذ من شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ودعاواهم في إسعاد البشرية هُراء وتزييف ،وادِّعاؤُهم بالقدرة الخارقة لتخطِّي ناموس الكون عجرفة خسيسة هابطة ، وحين أجملوا فكرتهم الضَّالة الخبيثة في قولهم : ( إنَّ الله والأديان ... وكل القيم التي سادت المجتمع السابق ليست إلا دمى محنطة في متاحف التاريخ ) إنما عبَّروا عن عجزهم في مواجهة المد الإسلامي ، وحقدهم على تألُّق وتفوُّق المؤمنين الأوفياء للإسلام بدعوتهم الأثيرة للرجوع إلى القرآن الكريم ، وإلى السُّنَّة النبوية المطهرة ، وإلى سِير أهل الفضل والإحسان ، أهل التقوى وقيام الليل وصيام النهار ، أهل الخشوع والسجود لله وحده ، الذين سعد بهم المجتمع وعمَّ بجودهم وبركاتهم الخير العميم ، وأثمرت بساتين السعادة تظلل الناس بالطيبات الدانيات ، ولا عجب بعد حسدهم وحقدهم إذا قالوا : ( نحن لسنا بحاجة لإنسان يصلي ويركع خاشعا ذليلا ، بل نحن بحاجة إلى إنسان اشتراكي ثائر ، يؤمن بالإنسان أنه الحقيقة المطلقة ) !!!.

والحمد لله ، ثم الحمد لله ... حيث تداعت جدران الشيوعية الصهيونية على قواعدها . وانهارت أعمدة الرأسمالية المادية منقلبة على عقبها . وحيث كانت نتائج الثورة الصناعية شؤما وقلقا على أهلها ، بعد أن أوجدت وسائل التدمير والخراب للإنسانية ، بدلا من السعادة المنشودة لفقراء العالم ومحتاجيه ومعذبيه . ووجم أهل القول المذموم والفكر المهزوم مخذولين مدحورين أمام انجلاء الغُمَّة ، وظهور نتائج العبث البغيض بمقدرات البشرية . وتبيَّن للعميان كما تبيَّن للمبصرين أن مَن أوجد واختلق تلك المذاهب والأفكار إنما هم صهاينة اليهود ، أعداء الله أعداء الأنبياء وأعداء الشعوب ... وليس لنا أن نلومهم أو نردعهم ، فهم أعداء ديننا وأمتنا ، ولكننا نوجه اللوم لأبناء جلدتنا وأوطاننا الذين ركبوا حمير الذين غضب الله عليهم ولعنهم ، وظنُّوها خيولا ضمرا يمكن أن يفوزوا من خلالها بالسباق ، ويقدموا لأمتهم الجوائز الثمينة من سعادة وخير وطمأنينة ولكن !!! .

أبناء جلدتنا هؤلاء لم يتربوا في محاريب الهداية الربانية ، ولم يشعروا بمكانتهم التاريخية التي أرادها المولى تبارك وتعالى لهم في هذه الحياة الدنيا ، فكانوا أذنابا لأشرار الخلق ، وأتباعا لمنظومة الشيطان التي استفحل خطرها في العقود الأخيرة ... فكانت غفلتهم وبالا عليهم وعلى مجتمعاتهم ، بل ترجموها حُمقا وظلما وصلفا ذاقت الشعوب منه المرارة والقهر والحرمان ولا تزال .، وباؤوا بسخط الله عليهم وحُرموا ثمرات العمل لأنه كان للهوى وللشيطان ولم يكن لله . وفساد الأعمال يودي بأصحابها وبمَن يعولون مِن شرائح مجتمعاتهم ، أو مَن يحكمونهم إن وصلوا إلى كراسي الحكم والمسؤولية . إنَّ مشاهد الهوان والجوع والقلق والضَّجر ، ومناظر التقهقر والانهزام ، وأضابير التبعية والتآمر ، وحيثيات الانتكاسات المتتالية ، والتَّرهل على مقاعد اليأس والإهانة ... إلى آخر برامج الهزائم في شتى الميادين ، هي ماوصلت إليه النخب التي اختارت لنفسها هذا الطريق في غيابٍ متَعَمَّد عن الحضور الشعبي الذي لايرضي مطلقا بغير الشريعة الإسلامية منطلقا للتجديد ، وراية لرصِّ الصفوق وتوحيد الأمة التي طال بعدها عن ربِّها وهَدْيِ نبيِّها صلى الله عليه وسلم . ولذا كان ماكان ، وهجم الفقر المدقع والقلق المفزع والمآسي والأوجاع النفسية والجسدية على أبناء الأمة ، ويزداد رصيدهم منها يوما بعد يوم !!!

وهنا حصحص الحق ، وانكشف الباطل ، وخسئت وقاحة المفلسين ، وبارت تجارة السماسرة المحتالين فتناقضت أهدافهم ، وتنابزت مصالحهم الدنيئة ، وانكسرت شوكة استكبارهم ، ولم يبق لهم إلا مانوَّه عنه الأثر المحمود في سوق الزمان البائر : ( إذا لم تستح فاصنع ماشئتَ ) . لقد توقدت أنوار الفطرة الإلهية في قلوب المسلمين ، وتوهجت جُذاها في صدورهم ، وانطلقت ألسنتُهم رغم كل المرارات تهتف أن : ( لا إله إلا الله ) . عنوانا للعقيدة الصافية، ومنهجا للحياة البشرية السعيدة ، ومفتاحا لخيري الدنيا والآخرة ، ورداء للعزة وتاجا للكرامة ، وسيفا مصلتا على الطغاة والعتاة والجناة  ، ووثيقة لكل مَن آمن بها تؤكد أنه حرُّ ، وأن له حقوق لايهضمها إلا ظالم مستبد ، بل جعلت هذه العقيدة الحق حتى لمَن فُرضت عليه الجزية إذا عجز أن يعامل معاملة المسلمين . جاء هذا في الصلح الذي أقامه القائد العظيم سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه مع أهل الحيرة وكانوا مسيحيين ، فأقر لهم التأمين الاجتماعي إذا كبروا أو مرضوا أو أصابهم الفقر ، بل إنه رفع الجزية عمَّن أمسى في مثل هذه الحالات ، وجعل له نصيبا من بيت مال المسلمين . فتبًّا للملحدين أعداء منهج ( لا إله إلا الله ) ، وسحقا للظالمين الذين عظَّموا شأنهم الحقير واستهانوا بعظمة ( لا إله إلا الله ) وبعدا للأفاكين وأدعياء الثقافة التي جاءت للأمة بهذا السيل الجارف من الزنادقة وهذه الأرتال المهينة من أهل الغناء والتمثيل والزنى والخمر والفجور ، والموبقات والإباحية والسفور .،أهذه هي دعواهم في أن الإنسان هو الحقيقة المطلقة ،أُجزم بأنهم لايعقلون !!!

الإنسان هو محور الإعمار في الأرض ، وعليه مدار الاستثمار والتنمية ، وهو ــ بإذن الله ــ صاحب القدرة والفكرة ، وصاحب النهضة المبنية على تعاليم الدين الإسلامي الحنيف ، لترتقي به الأمة وينعم بمآثره المجتمع الذي يعيش فيه ، وهذا الإنسان ذو ضمير حيٍّ ، وذو إيمان راسخ ، وذو سلوك يترجم قيم الرحمة والتآخي والتواد ، وهو بهذا يُدير دواليب التَّحول المنشود للأفضل والأسمى ، في ظلال انعتاقه من حب الذات الذي يزرع الأنانية ويوجِد البخل ، و يكون عاملا عند الله الذي يعلم مصلحة عباده ، منفذا لأحكام ربه التي لايعتريها الخلل ، فهي جليَّةٌ واضحة ، يلين جانبه للناس فلا بغضاء ولا شحناء ، وإنما هي المودة والإخاء والتكافل ،فيأتي المسلم بشق تمرة لأخيه يحقق بها التضامن الاجتماعي ، فإن لم يجد فبكلمة طيبة يشرق بها وجه المحتاج أُنسا وطمأنينة ، وهذه الجوانب الراقية تؤكد على وحدة الأمة ، وتآخي أبنائها على البر والتقوى والإحسان ، وردِّ الظلم وكبح جِماح الفاقة والحرمان ، ولا يزال العلم والتَّعلم مطلوبين لأنهما لسان العالم والمرشد والناصح ، ولأنهما ضالة الجاهل التي يبحث عنها ، ولا تزال الدعوة وسيلة لتحرير الناس من الجهل ، ولا تزال مصادر التكافل والتضامن في هذا المقام ضرورة ليكتمل صرح النهضة المباركة ، ويعلو صرح الخير ألا وهو جانب الإنفاق من ، ومنها الزكاة والصدقات والنذور والتبرعات والوقف الخيري ... وغيرها تحقق التكافل الذي يشمل العديد من الجهات التي تحتاج للإنفاق كالمساجد والمدارس والمستشفيات ، ورعاية الأيتام والأرامل والمحتاجين ، وإيجاد المرافق العامة التي تخدم الناس ، فهل عند الأفاكين كما عند شريعة الله رب العالمين !!!

دعواهم في إشباع العمال والفلاحين وسد حاجاتهم كذَّبها العمال والفلاحون بعد أن صفَّقوا لها ، وطافت مسيراتهم شوارع الأمة ملتهبة بالصٌّراخ والطبول والصَّفير ، ولكن وجدوا في نهاية المسيرة الجوع والفاقة ، وغضَّوا أبصارهم عن النوازل والمصائب والهزائم ، لأن أصحابهم أشغلوهم بلقمة العيش ، وألهوهم بالأغاني والراقصات وبالمتع الحيوانية التي تعج بها دور السينما والفضائيات وأشرطة الفيديو و و و ... هيهات ماهكذا تورد الإبل أيها الناس ، لابد لكم من العودة إلى محتدكم الأصيل من هذا التغريب ، لقد حصحص الحق فلا مجال للتملص ، كونوا شجعانا واعترفوا بالحقيقة ... إنها حُلوة وليست مرَُّة ،والأمة على موعد لقيادة البشرية من جديد ، لأنها أهل لذلك بما وهبها الله من عقيدة وتشريع ، وبما وعدها من سعادة وأمن وطمأنينة ، هذا تاريخها حافل بمآثرها وإنجازاتها وسُمُو مقاصدها ، لقد كان مجتمعها تمتد فيه معاني التآخي والتعاون والإيثار ، فتغطي جميع مساحاته القاصية والدانية ، حيث لايرضى الإسلامُ أن يهين الفقر مسلما لفقره وفاقته ،أو يرفع المال فاجرا لثرائه ،ولا أن يستغل القويُّ الضَّعيفَ ، ولا صاحب السلطة أن يفعل ماتمليه عليه نزواتُه ومصلحته .إن الله أكرم الإنسان ، وجعل التقي الذي يترجم في سلوكه قيم الهدى والنَّدى والخير هو الأفضل وهو الأكرم ، وجعل الله عزَّ وجلَّ أبواب الخير ميسرة أمام الغني والفقير ، وأمام القوي والضعيف وأمام الحاكم والمحكوم ... وحسب الإنسان المسلم أن يعيش بهديه إيجابيا في تصرفاته ، منصفا في معاملاته ،لايترفع عن إخوانه المسلمين إذا أصابه الغِنى ، ولا يحقد على أحد إذا ما ابتلاه الله بالفقر ، ولا يشعر بالكِبر والأنفة إذا ملك المال والجاه والسلطان ، أو يشعر بالذلة والهوان إذا ما أصابه العوز ... فالمجتمع الإسلامي غنيٌّ بأبنائه البررة ، في تعاملهم وفي تعاضدهم وفي تكافلهم ، إن فيهم مَن لاتعلم شمالُه ما وضعت يمينُه في يد يتيم أو أرملة أو محتاج ،والتعاون على البر والتقوى مزية ماكانت لغير الأبرار الأتقياء ،يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَن كان معه فضل ظهر فليعد على مَن لاظَهر له ، ومَن كان له فضل زاد فليعد به على مَن لازاد له ) . قال راوي هذا الحديث الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : ( ... فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصناف المال ماذكر حتى رأينا أنه لاحق لأحد منا في فضل ) رواه مسلم . سبحان الله !!! أين أبناء جلدتنا الذين غرَّبوا وشرَّقوا بحثا عن السعادة الاجتماعية ، وبين أيديهم أسمى وأجل القيم في هذا المجال !!!

دعاني للكتابة في هذا الجانب الخيري الاجتماعي ، وفي هذه المقارنة بين النظام الإسلامي الرباني ، وبين النظم الأرضية المخالفة للدين الإسلامي هو اعتراف محدِّثي : ( بأن ماكنا فيه وما عشنا عليه من ضلالات واوهام كله هراء وتهريج ... وأكتفي من كلامه بهذا ) لأنه اعترف بأمور أخرى ليست بخافية على أحد ، وقال : صليت الجمعة مضطرا مع والدي الذي لا أستطيع عصيان أمره ، وكانت خطبة الجمعة عن التكافل الاجتماعي في الإسلام ،وكان الخطيب رغم تحفظه على بعض الألفاظ إلا أن ماذكره كان كفيلا بإلهاب ضميري حين ذكر الحديث النبوي : ( أفضل الأعمال إدخالُ السرور على المؤمن : كسوْتَ عورتَه ، أو أشبعتَ جوعتَه ، أو قضيتَ له حاجة ) وتابع الخطيب ذكر آيات وأحاديث عن رسولنا عليه الصلاة والسلام ، أيقنت وأنا أسمعها أنني ومَن معي فقدنا ألذَّ وأحلى مايمكن للأذن أن تسمعه ، ذكر منازل الساعي على الأرملة واليتيم ومن يقوم بكفالة الأيتام وتحدث عن منازل الجنة ... فلم أخرج من المسجد إلا وأنا أشعر قد دخلت في دين الإسلام من جديد ، واغرورقت عينا محدثي بالدموع ، فقلت له : أبشر والله بالقبول والرضا ، ولا يلقاها إلا ذو حظ عظيم !!!

وحصحص الحق ، وظهر أمر الله ، وانتصرت قيم الإسلام ليس في هذا الجانب الاجتماعي الكبير ، و إنما في كل جوانب الحياة الأخرى من اقتصادية أو ثقافية أو علمية أو سياسية أو جهادية ... والسِّرُّ في ذلك حُسن الصِّلة بالله ، وعبادة الله بصلاة ذات خشوع ، وصيام ذي سُمُو وصبر ،وبذكر وقراءة قرآن ، وبكل الأعمال التي تقرب العبد إلى الله ، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يقول ربُّكم : يابن آدم تفرَّغْ لعبادتي أملأْ قلبَك غِنى ، وأملأ يديك رزقًا ، يابن آدم لاتباعد مني أملأْ قلبَك فقرا وأملأ يديك شغلا ) رواه الحاكم . فالمجتمع الإسلامي مجتمع عابد لله ، يؤثر ماعند الله على كل مافي دنيا الناس من متاع ، فيه أقوياء وفيه ضعفاء ، وفيه أغنياء وفيه فقراء ، ولكن لايطغى القوي على الضعيف لضعفه ، ولا يتطاول الغني على الفقير لغناه ، وإنما الجميع على بساط العبودية لله سواء لافضل لأبيض على أسود ولا لعربي على أعجمي ولا لرئيس على مرؤوس إلا بالتقوى ، وبها كان الفتح والخير ، وفي ظلالها كانت السعادة ، وهنا حصحص الحق ، فهل يؤوب السفهاء والمفترون !!! .