سنة التدافع وعوامل النصر (13)
عمر حيمري
الشرط الثاني : القائد :
القيادة هي مجموعة من الصافات الخلقية والخلقية ، كالشجاعة والزعامة والصبر على الشدائد ورباطة الجأش والقوة البدنية والقلبية والإرادية والقدرة على التواصل وعلى الاستماع للآخر وعلى الإقناع والقدرة على السيطرة والتحكم وحسن التخطيط والإدارة وحسن الأخلاق والمعاشرة والأمانة والتواضع ، إلى جانب كل ذلك امتلاك الذكاء والحنكة ... وهذه أمور تكون للجينات الوراثية والفطرة فيها حظ كبير ، لأنه لا يملك الجبان أن يكون شجاعا ، ولا يملك العاجز أن يكون قويا ، ولا غير الموهوب أن يكون موهوبا ... وإن كان للتنشئة الاجتماعية والتربية دور في صقل هذه الصفات المذكورة وتنميتها وتطويرها منذ الصغر ، والرسول صلى الله عليه وسلم قدر الله سبحانه وتعالى له أن يتربى ويترعرع في قبيلة بني سعد بن بكر من بادية الحديبية بالقرب من مكة لتصفو نفسه انطلاقا من صفاء الصحراء ، ويطهر جسده انطلاقا من طهارة جو الصحراء، وينطلق لسانه انطلاقا من فصاحة لغة أهل البادية ، ويتشبع من شجاعة القبيلة ، التي لا تعرف الجبن ولا الخيانة ، وهذه صفات اكتسبها النبي صلى الله عليه وسلم من البادية ، لتكون مساعدة له على القيام بمهمة القيادة ، التي تنتظره ، إلى جانب ما ورثه عن جديه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، من عقيدة سليمة صحيحة ، ومن صدق وإيمان بالله سبحانه وتعالى ، ومن صفاء الدم ونقائه ومن نبوة على الناس مصداقا لقوله تعالى [ إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل عمران على العلمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ] ( سورة آل عمران آية 33- 34 ) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم { خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي ولم يصبني من سفاح الجاهلية شيء } وقوله صلى الله عليه وسلم { ما زلت أتنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات } . إن العيش في البادية في السنوات الأولى من حياته صلى الله عليه وسلم كان ضروريا ومهما ليزيده الله بسطة في الجسم ، والعلم بلسان العرب وبأسلوبهم في الحياة وطريقة عيشهم ... وهذه أمور ضرورية للفرد القائد ، لكي يصبح قادرا على التأثير في من حوله وقادرا على دفعهم إلى تطبيق تعليماته وتوجيه سلوكياتهم مع اكتساب القدرة على المواجهة وتحمل المسؤولية كاملة عن كل قرار يتخذه . والقيادة في النهاية هي اختيار من الله تعالى ، وموهبة يضعها في من يشاء من عباده بدليل قوله تعالى : [ وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ] ( سورة البقرة آية 247) انطلاقا من هذه الآية الكريمة ، يتبين لنا أن القيادة الصالحة المؤمنة مرتبطة أساسا بالعلم وامتلاك الخبرة والتجربة في تقييم نوعية المحاربين الموجودين تحت إمرتها ، كما هي مرتبطة بالكفاءة والمعرفة بفنون الحرب ومكائدها وبالمجال النفسي وبالقدرة على اختبار الجند لمعرفة مدى امتثالهم للأوامر وولائهم وإخلاصهم للقائد وعزيمتهم على المواجهة ، قبل وأثناء الحرب ، حتى لا يفاجئ القائد بتخاذل جنده أو فرارهم من المعركة والتولي يوم الزحف ، إن امتلاك القوة الجسدية والصبر في الحرب والمعرفة العلمية بأساليب القتال هي أساس ومصدر الاستحقاق القيادي ، كما هو الشأن بالنسبة للقائد طالوت عليه السلام الذي أثنى عليه الحق سبحانه وتعالى ، فابتعثه ملكا على بني إسرائيل .
إن القيادة ، هي ظاهرة اجتماعية ، تنبثق من بين أفراد الجماعة بهدف تنظيمها والمحافظة عليها والعمل على تماسكها وتحقيق أهدافها ، وهي ليست خاصة بالمجتمع الإنساني ، فعلماء الاجتماع الحيواني يتحدثون عن القيادة في العالم الحيواني : فالضأن والماعز والبقر والقرود والأسود والذئاب ... تتخذ لنفسها قائدا تسير خلفه . وقد تستبدله من حين لآخر حسب حسب الضرورة والكفاءة ، و نجد نظام القيادة كذلك سائدا في عالم الطيور ومملكة النحل والنمل وهي شبيهة بمؤسسة فيها التزام بالدور المناط لكل عنصر من عناصر المجوعة ومن خالف الأوامر يعاقب بالقتل أو الطرد بما في ذلك القائد .
إن فن القيادة هو ظاهرة اجتماعية تسوس الناس وتقودهم إلى تحقيق أهدافهم المنشودة ، والقيادة تتمثل دائما في شخص له نفوذ قوي على الكثرة ، التي تخضع له ولا تعصي له أمرا ، حتى وإن كانت هذه الكثرة غير مقتنعة أو غير متحمسة للأوامر أو أفكار القائد .
إن القيادة النموذجية المتميزة ، برزت وتشكلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمناسبة كانت غزوة بدر المباركة ، إذ لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم مستبد في رأيه ولا متسلطا ولا مستعل على جنده ، ولم يكن فظا غليظ القلب عليهم ، كان صلى الله عليه وسلم يعاملهم بلطف ورقة ويحنو عليهم ويحرص عليهم أكثر مما يحرصوا على أنفسهم وهو بهم رءوف رحيم ، كان يشاورهم { أشيروا علي أيها الناس } ويستمع إلى مشورتهم ويعمل بها ، ولولا هذه الصفات الأخلاقية العظيمة ، وهذه الخصائص والصفات القيادية الناذرة ، التي اتصف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لانفظ الناس من حوله ، ولما قام سعد بن معاذ بإلقاء خطبته المشهورة ، التي قال فيها رضي الله عنه نيابة عن الأنصار : "" والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال أجل . قال : فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك ن فوالذي بعثك بالحق ، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء . لعل الله يريك ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله . "" ولما قال المقتاد بن عمرو رضي الله عنه نيابة عن المهاجرين قولته الشهيرة "" يا رسول الله ،امض لما أمرك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى [ فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ] ولكن إذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى نبلغه "" ويأتي الجواب الحاسم من رسول الله صلى الله عليه وسلم الواثق بوعد الله سريعا : { سيروا وأبشروا ، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم .}
هذه الجلسة الاستشارية والتشاورية بين القائد وجنده ، هي التي هيأت النفوس للمواجهة ، ورفعت معنويات الجندي والقائد على السواء ، وبينت من جهة ، مدى استعداد الجندي للقتال وإصراره على المواجهة ، ومدى سلامة عقيدته وإيمانه الصادق بقضيته وإخلاصه وطاعته لقائده ، كما بينت من جهة أخرى للجندي عظمة أخلاق قائده ومستوى كفاءته . ومن عيه صلى الله عليه وسلم بسؤولية القيادة ، حرصه على معرفة عدوه معرفة دقيقة والحذر منه ولذلك سأل الغلامين الأسيرين من قريش عن مكان معسكرها ، وعن عدد جيشها وعدد ما ينحرون كل يوم ، واستنتج من ذلك صلى الله عليه وسلم بخبرته وحنكته . أن جيش قريش يتراوح ما بين التسعمائة والألف ، ولم يكتف بهذه المعلومة ، بل سأل عن كبراء قادة قريش وأشراف مكة ، ليعرف عدوه بدقة ويعرف كيف سيتعامل مع خططه الحربية ومكره وخداعه ، وهو الذي خبرهم عن قرب وعانى من مكرهم ولؤمهم الشيء الكثير . فسأل صلى الله عليه وسلم الغلامين قائلا :{ أخبراني عن قريش قالا : هم وراء هذا الكثيب الذي ترى ، بالعدوة القصوى ، فقال لهما رسول صلى الله عليه وسلم : كم القوم ؟ قالا كثير ، قال : ما عدتهم ؟ قالا : لا ندري ، قال كم ينحرون كل يوم قالا : يوما تسعا ويوما عشرا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القوم فيما بين التسعمائة والألف ثم قال لهما : فمن فيهم من أشراف قريش ؟ قالا : عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن نوفل ... فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها } وهذه بشارة بالنصر وإشارة إلى قتل صناديد وطغاة قريش وتحريض على توجيه ضربة عسكرية قاسية وسريعة لا تقوم معا لقريش بعدها قائمة .
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كقائد متواجد في الميدان ، لم يترك التوجيه والتحريض للفئة المؤمنة معه ومشاورتها ، ولا استغنى عن جمع الاستخبارات والمعلومات المتعلقة بالعدو رغم إيمانه القطعي ويقينه المطلق بوفاء ربه لوعده إذ أوحي إليه ، أن إحدى الطائفتين ستكون له ، ومع كل هذا الاستعداد وهذا اليقين بالنصر فإنه صلى الله عليه وسلم استقبل القبل ومد يده وقال : اللهم أنجز لي ما وعدتني ز اللهم ائتني ماوعدتني . اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبدا فما زال يستغيث ويدعوا حتى سقط رداؤه } ( رواه ابن عباس عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ) لأنه يعلم صلى الله عليه وسلم ، أن النصر لا يكون إلا من عند الله ، وهذه حقيقة مطلقة في كل زمان ومكان وهي من عوامل النصر ، أقرها النبي صلى الله عليه وسلم ، وأكدها ربه إذ أجابه لدعائه فقال : [ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ] ( سورة الأنفال آية 9- 10 ) . ( يتبع )