الوطن والمواطنة في صحيفة المدينة 5
د.خالد الأحمد *
تمهيد :
يبدو لي أن مصطلحات ( وطن ، ومواطن ، ومواطنة ) جديدة على كثير من الدعاة المسلمين ... وكي نمر بسـلام في هذه الدنيا إلى الآخرة دار القرار نحتاج وطنـاً نعيش فيه ، وسيكون لنا فيه جيران ، وشركاء ، وقد لايكون في مقدورنا انتقاء هؤلاء الجيـران وهؤلاء الشـركـاء ، ننتقيهم كما نريد ونرغب ، بل يفرض وجودهم فرضاً بطبيعة الواقـع ، كما هو واقع المسلمين منذ فجر التاريخ حتى هذه الساعة ، وفي كل مكان ، كنت تجد المسلمين مع ( غير المسلمين ) يعيشون في وطن واحد ...
يقول الدكتور يوسف القرضاوي يحفظه الله :
قرر فقهاء المذاهب المختلفة جميعاً : أن غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، وهم الذين يعبَّر عنهم في الاصطلاح الفقهي بـ (أهل الذمة) يعدُّون من (أهل دار الإسلام). فهم من (أهل الدار) وإن لم يكونوا من (أهل الملَّة).
وفي اجتهادي: أن كلمة (أهل الدار) هذه تمثِّل مفتاحا للمشكلة، مشكلة المواطنة، لأن معنى أنهم (أهل الدار) أنهم ليسوا غرباء ولا أجانب، لأن حقيقة معناها: أنهم أهل الوطن، وهل الوطن إلا الدار أو الديار؟
بل أقول: إن الاشتراك في الوطن يفرض نوعاً من الترابط بين المواطنين بعضهم وبعض، يمكن أن نسمِّيه (الأخوة الوطنية) فكلُّ مواطن أخ لمواطنه، وهذه الأخوة توجب له من حقوق المعاونة والمناصرة والتكافل ما يستلزمه معنى (الأخوة) أي الانتماء إلى أسرة واحدة.
والأخوة الوطنية دليلها من القرآن الكريم ، عدة آيات تصرح بالأخوة في الوطن، منها قوله تعالى :{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:106]، وأمثالها كثير .
انتهى كلام القرضاوي .
فقد قبل رسول الله r اليهود مواطنين في المدينة المنورة ، وعقد معهم عهداً عرف باسم ( صحيفة المدينة ) تحدد مالهم وماعليهم ، ولانـجد ميزات للمسلمين على غير المسلمين ، فحرية الدين للجميع ، ولكل عبادته لله عزوجل – كما يعتقد – والجميع يدافعون عن المدينة المنورة ، إذا غـزاها العـدو .
ومن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي ودرعـه مرهونة عند يهودي ، أي أن اليهود كأفراد بقي بعضهم في المدينة ، وإنما أخرج اليهود كقبيلة وككيان سياسي أو تجمع ، أما الأفراد ، وربما من اليهود العرب ، فلم يخرجهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد التقى الخليفة عمر بن الخطاب مع أحدهم ، كما مر معنا في الحلقة الرابعة ، كما لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب حدث هام مع أحدهم سنراه في هذه الحلقة ، وسيتبين أن الخلفاء ( عمر وعلي ) رضي الله عنهما – وقد فهما صحيفة المدينة – كانوا يحافظون على حقوق غير المسلمين في المدينة كاملة غير منقوصة ، كما رأينا في الحلقة الرابعة ، وكما سنرى اليوم في هذه الحلقة الخامسة :
فقد وجدت في حلية الأولياء - (ج 4 / ص 140) سنداً لهذا الحدث الذي أحفظه منذ شبابي ، وقد تلقيته عن أساتذتي في الجماعة جزاهم الله عني خيراً كثيراً ، والنص موجود في جامع الأصول حيث نقله عن حلية الأولياء ، وإليك النص :
حدثناه محمد بن علي بن حبيش قال ثنا القاسم ابن زكريا المقري قال ثنا علي بن عبد الله بن معاوية بن ميسرة عن شريح قال لما توجه علي إلى حرب معاوية افتقد درعاً له فلما انقضت الحرب ورجع إلى الكوفة [ وفي مرجع آخر إلى المدينة ] ، أصاب الدرع في يد يهودي يبيعها في السوق فقال له علي: يا يهودي هذه الدرع درعي لم أبع ولم أهب فقال اليهودي درعي وفي يدي فقال علي نصير إلى القاضي فتقدما إلى شريح فجلس علي إلى جنب شريح وجلس اليهودي بين يديه فقال علي لولا أن خصمي ذمي لاستويت معه في المجلس سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول صغروا بهم كما صغر الله بهم [ والذي أعلمه من مرجع آخر سأبحث عنه أن شريحاً قال يا أمير المؤمنين ، فاعترض علي وقال : هذا أول جور في حكمك ، نادني باسمي كما تنادي خصمي باسمه ، فقال شريح : ياعلي بن أبي طالب .....]، فقال شريح قل يا أمير المؤمنين: فقال نعم إن هذه الدرع التي في يد اليهودي درعي لم أبع ولم أهب فقال شريح ما تقول يا يهودي: فقال درعي وفي يدي فقال شريح يا أمير المؤمنين بينة قال نعم قنبر والحسن يشهدان أن الدرع درعي، قال شريح : شهادة الابن لا تجوز للأب، فقال علي: رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته!!! سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، فقال اليهودي أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه وقاضيه قضى عليه!!! أشهد أن هذا للحق أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن الدرع درعك كنت راكباً على جملك الأورق وأنت متوجه إلى صفين فوقعت منك ليلاً فأخذتها، [ وفي المرجع الآخر أن علياً رضي الله عنه قال : أما وقد اسلمت فإني أهبها لك ] وخرج ( اليهودي بعد إسلامه ) يقاتل مع علي الشراة بالنهروان فقتل يرحمه الله .
*كاتب سوري في المنفى باحث في التربية السياسية