تدريس الفلسفة في الجزائر

من "أم العلوم" إلى "أرذل العلوم"

ياسين سليماني

[email protected]

الحديث عن تدريس الفلسفة في الجزائر حديث ذو شجون، ومن واقع التجربة التي مررت بها طيلة السنوات الماضية وصلت إلى قناعة أنّ هذا النوع من الدراسة ينظر إليه نظرة استهجان على أساس أنّها رمز للصعوبة والغموض والتعقيد وأنّ هذه النظرة لن تتغير ما دام القائمون عليها من أساتذة ودكاترة لم يغيروا طرقهم ومناهجهم في توصيل المادة الفكرية إلى التلاميذ والطلبة، وتشكّل دراسة الفلسفة في المرحلة الثانوية منعرجا مهمّا - كي لا نقول خطيرا ويصفنا البعض بالمبالغين- فهي تحدّد إلى حدّ كبير ما يكون عليه الطالب عندما يذهب إلى الجامعة، وكما يعرف الجميع فإنّ مادّة الفلسفة في هذا الطور تدرّس فس قسمين هما " الآداب والعلم الإنسانية " و " العلوم الطبيعية " وكان قسم ثالث وهو " آداب وعلوم شرعية " يدرسها أيضا، وشطبت بتشطيب القسم نفسه في طار الإصلاحات التي يدّعي وزير التربية السيّد أبو بكر بن بوزيد ويزعم أنّها إصلاحات، ولم نتعلّم - في ذلك الوقت الذي كنّا فيه تلاميذ في الثانوي- من أساتذتنا ولم يغلب علينا هاجس أكبر من هاجس العلامة التي سننالها في امتحانات البكالوريا الذي تمثل الخيبة في مادة الفلسفة أهمّ سبب للفشل فيه لدى طلاب قسم الآداب خاصّة فلا أهميّة للفارابي وابن رشد وبن خلدون وغيرهم من أساطين الفلسفة في التاريخ الإنساني إلاّ حسب الموضوع الضيّق الذي يفيدهم في النجاح، كانوا حين يحدثوننا عن هذه الدراسة بمنطق النفعيين فقط، وفهمنا بطريقة أو بأخرى أنّ آخر عهدنا بالفلسفة سيكون ذلك العالم، أما في الجامعة فأي مجنون سيفكر في اختيارها للدراسة؟

 ولذلك كان أغلب التلاميذ ضيقي النظرة ممّا أدّى إلى الحيلولة دون استيعاب الكثير من مواضيعها الشائقة. سيضحك الكثير من التلاميذ وحتى طلبة الجامعة حين يقرؤون كلمة " شائقة " ليتساءلوا ساخرين: أي تشويق في مادة خشبية وجافّة مثل الفلسفة؟ ولو وجدوا من يعلّمهم بأنّها " ليست شيئا بعيدا عن الحقيقة، بل هي شيء مرتبط بمسائل الحياة اليومية مدرستها العالم وموضوعها ظواهر الكون، هي الفكر موجها للعالم الذي حولها وإلى كلّ مظاهره ..." كما يقول "رابوبرت" صاحب الكتاب المهمّ " مبادئ الفلسفة " الذي لم يكلف أساتذة الثانوي أنفسهم عناء تعريفنا به وحثنا على قرائته، ولا فعلوا ذلك مع غيره، لو كان التلاميذ قد عرفوا هذا عنهم لفكّروا في أهميتها وأعادوا النظر في تصورهم عنها، لا شكّ أن طريقة تدريس الفلسفة يجب أن تتغير ، أي أنّه ليس أيّ واحد حامل لليسانس في هذا الجانب يمكنه شغل منصب أستاذ ولا أعرف كيف يسمح هؤلاء لأنفسهم أن يسيئوا لمجال معرفي عظيم مثل هذا يظهرون لتلاميذتهم أنّ لا همّ لهم سوى إتمام البرنامج الوزاري وقبض مرتب آخر الشهر. إذ وجب أن يكون الغرض الأول من تدريسها هو الارتباط الفكري والدربة في التحليل والنقد والتركيب، واكتساب الحرية في الإقدام على التفكير والتخلّص من التبعية، وعدم الضيق من الاستماع إلى ما يخالف رأيه من آراء الآخرين المتعدّدة، فيحترم اجتهاد المجتهدين وإن خالفوا اجتهاده كما يقول أستاذنا الكبير " عمار طالبي " في كتابه الممتع " مدخل إلى عالم الفلسفة " الذي أدعو شبابنا المحب للمعرفة ليطلع عليه ففيه فوئد جمّة تصحح نظرة الذين يقولون باللاجدوى من دراسة الفلسفة. فإشعار التلاميذ أنّ دروسها لا تمتّ للواقع بأيّ صلة يجعلهم أبعد ما يكونون رغبة عن تعلّمها.

 وهذه النظرة يكون تصحيحها بوجوب إعطاء الوجبة اليومية من التدريس بقلوب تنبض بحبّ هذا المجال، والتشجيع على قراءة النصوص من المصادر والمراجع وأنا أدرك تمام الإدراك أنّ تلميذا في الثانوي لا يمكنه في الأغلب أن يقرأ الأخلاق لأرسطو والمدينة الفاضلة للفارابي، ويفهمها جيّدا، ولكن لو كان الأستاذ صاحب إطلاع عميق وبمعلومات كافية وأسلوب جيّد لاستطاع تحبيب هاذين الكتابين وعشرات غيرهما لقلوب الشباب قبل عقولهم و يجعلهم لا يستطيعون عنها حولا.

 أما في الجامعة فالوضع أكثر بؤسا، أتحدّث هنا عن قسم الفلسفة في الجامعة الجزائرية وعن اللاإحترام الذي يقابل به هذا الفرع المعرفي ليس فقط من عموم طلبة الجامعة وإنّما من طلبة الأساتذة ذاتهم، ونحن كنّا في هذا القسم كثيرا ما نسمع أقوالا من مثل " الفلسفة شرّ، والمنطق مدخل الفلسفة، ومدخل الشرّ شرّ " أو قول أحدهم " الفلسفة عجوز شمطاء تبحث عن قطّة سوداء في ليلة حلكاء ". وما زال هناك مفاضلة بين دراسة هنا ودراسة هناك، وأكثر ناقصي علم يعتبرون أن الطبّ والفيزياء ارفع شئنا من الفلسفة، ويعجبني ما قاله " عزمي بشارة " الدكتور في الفلسفة أنّ " المجال الجيّد هو المجال الذي تبدع وتبرع فيه " بغضّ النظر عن ماهيته، ويتخذ الأمر شكلا أكثر سوءا حين نعلم أنّ نسبة حضور الطلبة للمحاضرات لا تصل إلى خمسين في المائة يعود ذلك إلى في جزئه الأكبر إلى الأساتذة الذين يجعلون من الجالس أمامهم يشعر بالندم الكبير على الحضور بسبب الملل الذي يتملّكه، فقد كنّا نأتي من ولايات أخرى إلى قسنطينة مبكرا ونحضر محاضرة على الثامنة صباحا رغم الإرهاق في الطريق، في حين لا نحضر المحاضرة على الثانية مساء ولو كنّا في قمّة النشاط، لسبب واحد هو اختلاف الأستاذ الأوّل عن الثاني في جذب الدارس وجعله يشعر بأن ذلك الموضوع هو موضوعه، ويهمه هو بذاته.

 من هنا يجب علينا إعادة النظر في هؤلاء الأساتذة الذين يساهمون في تضييع مستقبل أجيال كاملة من الطلبة مستمتعين بمناصب ومرتبات مغرية وبعثات إلى الخارج لا يكون في كثير منها فائدة للجامعة الأم، وتحضرني تلك الأستاذة التي قالت أنّها لو سمعت عن مكتبة في الصحراء لذهبت ركضا إليها، غير أنها لا تعرف التفريق بين معنى " الروح " و معنى " النفس " في القرآن الكريم و تتسبب في رسوب الطالب الذي جادلها في هذا الموضوع، ويجب كذلك المطالبة بأن تأخذ الفلسفة حقها كاملا غير منقوص من حيث الأهميّة عند تلاميذ شعبة العلوم الطبيعية، وتعميمها على الشعب التقنية التي لا تدرّسها، وحيث أنّ المعامل le confession في علوم الطبيعة لا يزيد عن اثنين(2) يجعل أّيّ تلميذ يعدّ الفلسفة آخر اهتماماته موليا كلّ العناية إلى مواد الفيزياء والرياضيات ذات المعامل (5) وأذكر هنا طالبا نال علامات جيّدة في المواد العلمية، ولم ينل في الفلسفة سوى (5) نقاط من أصل عشرين ورغم ذلك انتمى إلى كليّة الطبّ، لذلك فيرجى النظر من جديد في أهميّة هذه المادّة ورفع معاملها إلى مصاف الرياضيات والعلوم الطبيعية، وسيرفض تلاميذ الثانوي هذا مستنكرين الموضوع أشدّ الاستنكار، لكن لماذا الكيل في الجزائر بمكيالين، حيث في إطار برنامج الإصلاح المزعوم رفع معامل الفلسفة في شعبة الآداب من (5) إلى (7) وهو أمر جيّد، لكن لم يعمّم على كلّ الشعب، وبقي في شعبة العلوم بالمعامل ذاته.

 أمر آخر يجب لفت النظر إليه والمطالبة به، وهو إعطاء الأولوية للالتحاق بالفلسفة بالنسبة للناجحين في البكالوريا للشعب العلمية لا الأدبية، فالتصاق العلوم بالفلسفة أجدى من التصاق الأدب بها رغم أهميّة الأخير، حيث تكون أنجح عند العقول الرياضية والعلمية أكثر من العقول الشاعرية.

بقي في الأخير أن نقول أنّ العامّة قد ألفت الحديث في كلّ شيء حتى في المجالات التي ليس لها صلة بها، ومن ذلك الفلسفة، مثلما حكى لي الدكتور" عبد الله بوقرن " أستاذ فلسفة التاريخ بجامعة قسنطينة عندما كان في المملكة العربية السعودية ووجد كتابا في الفلسفة عند بائع كتب مستعملة ورأى أنّ ثمنه غال، فلمّا ذكر أنّ الكتاب فلسفي لا يصل ثمنه إلى ذلك الثمن تفاجأ الرجل لسماعه كلمة " فلسفة " وأخذ الكتاب من يده ومزّقه!! فلا يجب أن يأخذ أحد بكلام الدهماء في مجالات وأمور مثل هذه، وينبغي إن نعود بالسؤال إلى ذوي الاختصاص والمعرفة الذين نستطيع الإفادة منهم، وما دون ذلك فلن تزيدنا العامّة إلاّ تشويشا.