اللغة وفهم الحديث الشريف-1
اللغة وفهم الحديث الشريف
(1)
د. نعيم محمد عبد الغني
الرسول –صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، ومن ثم كانت أقواله قسما مهما من سنته التي تمثل المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، ومن ثم نرى العلماء درسوها من نواحي متعددة، منطلقين من تحليل لغوي دقيق لأقواله صلى الله عليه وسلم، وأسوق من صحيح البخاري أمثلة على ذلك في سلسلة مقالات تبدأ بهذه المقالة إن شاء الله.
والحديث الذي أبدأ به هذه السلسلة أسوقه من صحيح البخاري في كتاب الأيمان والنذور وفيه يقول عليه الصلاة والسلام: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر)؛ حيث نلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الرجل بالذكورة فقال فلأولى رجل ذكر.
وهنا نتساءل أما كان يكفي أن يقول النبي –صلى الله عليه وسلم-:
· فما بقي فلأولى ذكر
· فما بقي فلأولى رجل
ويؤيد هذا ما قاله ابن حجر في فتح الباري بقوله: "وسقط لفظ ذكر من رواية الأكثر وأثبتها الكشميهني، وهي في رواية سعيد بن منصور".فيكون الافتراض الثاني قد ورد في بعض الروايات. وهذه آراء العلماء في فهم هذا الحديث:
أولا: لخص السهيلي المسألة في كتاب الفرائض، فقال: إن في الحديث إشكالا، تلقاه الناس أو أكثرهم على وجه لا تصح إضافته إلى النبي عليه السلام؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- قد أوتي جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصارا، والذي تأوله عليه الناس أن قوله: لأولى رجل ذكر أي أقرب الرجال من الميت وأقعدهم، وأن قوله ذكر نعت لرجل، وهذا التأويل لا يصح من ثلاثة أوجه:
أحدهما: عدم الفائدة في وصف رجل بذكر، إذ لا يتصور أن يكون رجل إلا وهو ذكر ويُجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أن يتكلم بما هو حشو من الكلام ليس فيه فائدة، ولا تحته فقه، ولا يتعلق به حكم.
الوجه الثاني: أنه لو كان كما تأولوه لنقص فقه الحديث ولم يكن فيه بيان لحكم العربي الرضيع الذي هو ليس برجل وقد علم أن الميراث يجب للأقعد، وإن كان ابن ساعة، ولا يقال في عرف اللغة رجل إلا للبالغ، فما فائدة تخصيصه بالبيان دون الصغير؟
والوجه الثالث: أن الحديث إنما ورد لبيان من يجب له الميراث من القرابة بعد أصحاب السهام فلو كان كما تأولوه لم يكن فيه بيان لقرابة الأم والتفرقة بينهم وبين قرابة الأب فبقي الحديث مجملا لا يفيد بيانا، وإنما بعث عليه السلام؛ ليبين للناس ما نزل إليهم.
ثم بين معنى الحديث فذكر أن قوله (أولى رجل ذكر) يريد القريب الأقرب في النسب الذي قرابته من قبل رجل وصلب لا من قبل بطن ورحم، فالأولى أولى الميت فهو مضاف إليه في المعنى دون اللفظ إضافة نسب، وهو في اللفظ مضاف إلى السبب وهو الصلب، وعبر عن الصلب بقوله: (أولى رجل)؛ لأن الصلب لا يكون ولدا، وأفاد قوله: أولى رجل يريد القريب الأقرب ونفي الميراث عن الأولى الذي هو من قبيل الأم كالخال؛ لأن الخال أولى الميت ولاية بطن لا ولاية صلب، وأفاد بقوله ذكر نفي الميراث عن النساء، وإن يكن من الأولين بالميت من قبل صلب، لأنهن إناث فذكر نعت لأولى، ولما كان مخفوضا في اللفظ حسب أنه نعت لرجل، ولو قلت: من يرث هذا الميت بعد ذوي السهام؟ لوجب أن يقال لك: يرثه أولى رجل ذكر بالرفع؛ لأنه نعت للفاعل، ولو قلت: من يعطى المال؟ لقيل: لك أعطه أولى رجل ذكرا بالنصب؛ لأنه نعت لأولى، فمن هنا دخل الإشكال.
ومن وجه آخر هو: أن (أولى) على وزن (أفعل)، وهذا إذا أريد به التفضيل كان بعض ما يضاف إليه، فإذا قيل: هو أحسن رجل، فمعناه أحسن الرجال، وكذلك إذا قيل: أعلم إنسان فمعناه أعلم الناس؛ فتوهم أن قوله: أولى رجل أي: أولى الرجال وليس الأمر كذلك، وإنما هو أولى الميت بإضافة النسب، وأولى صلب بإضافة السبب كما تقول: أخوك أخو الرخاء لا أخو الشدة وهم أقربوك أقارب الطمع وإخوان الضرورة والناس يقولون: هم إخواني ولكن إخوان الضحك، وكذلك يقال: هو مولاي مولى عتق، فالأولى في الحديث كالمولى، فإن قيل كيف يضاف إلى الواحد وليس بجزء منه قلت: إذا كان معناه الأقرب في النسب جازت إضافته، وإن لم يكن جزءا منه. ثم بين فائدة الإطالة برجل، فقال: لولا قوله: أولى رجل لورث الخال؛ لأنه ذكر.
ثانيا: قال ابن مفلح الحنبلي في كتابه المبدع : "وقوله: ذكر هو تأكيد أو احتراز من الخنثى أو لاختصاص الرجال بالتعصيب"
ثالثا: قال الخطيب الشربيني في كتاب الإقناع: " فإن قيل ما فائدة (ذكر) بعد (رجل) أجيب بأنه للتأكيد؛ لئلا يتوهم أنه مقابل الصبي، بل المراد أنه مقابل الأنثى، فإن قيل: لو اقتصر على (ذكر) كفت فما فائدة ذكر رجل معه؟ أجيب بأنه حتى لا يتوهم أنه عام مخصوص"
ومن هذه الآراء يظهر أن النعت ذكر هنا جاءت للتوكيد، وأن (رجل) تؤكد قرابة الوارث الصلبية لا قرابة الوارث من ناحية الرحم كما قال السهيلي، والله أعلم.