المدخل العلمي لدراسة الشخصية الانسانية

سامي احمد الموصلي

سامي احمد الموصلي

يقوم العلم التجريبي المعاصر ، من فيزياء وكيمياء وبايلوجيا ، ومن ذرة وجزيء وخلية،على أسس من الصحة والمصداقية والحقيقة لم تصل إليها البشرية في سابق تاريخها ،حيث أنها كانت تقف عند حدود الفكر العقلي التأملي والفلسفي مستخدمة المنطق واللغة للوصول إلى الصحة أو الحقيقة ، هذا العلم بتفرعاته العديدة لكل تخصص فيه  استطاع اليوم أن يقيم مختلف التقنيات المتطورة بناء على تفاعل كل تخصص مع التخصص الآخر ،

فالفيزياء كذرات والكيمياء كجزيئات والبايلوجيا كخلايا تتداخل معطيات كل منها عبر توظيفات التقنيات والتكنلوجيا بدءا من الالكترونيات الدقيقة وحاسباتها القوية والبايوالكترونكس وانتهاء بالمركبات الفضائية ومن ثم الطب الالكتروني والنانوتكنلوجي وغيرها ، كل ذلك يدور ويحصل عن طريق هذه التفاعلات ، وبالتالي فكل العلم التجريبي اليوم يقوم على هذه التخصصات وتفرعاتها ، فإذا أردنا أن نتحدث عن أي قضية علمية فلا بد لنا من اللجوء إلى هذه التخصصات .

ولما كانت معطيات هذه العلوم تنطبق على الأشياء كطبيعة مادية مباشرة إلا أنها تنطبق بنسبة لا بأس بها أيضا على الظواهر النفسية والاجتماعية بشكل غير مباشر ، فالعلم التجريبي هو منهجية عقلية تستخدم التجربة أداة للتحقيق وللوصول إلى الحقيقة ، فالمنهجية هي شمولية للأشياء والظواهر ، للمادة وتمظهراتها اللامادية ، فإذا كان العلم التجريبي يتحدث كأشياء مادية عن الدماغ مثلا فإنه يستطيع أن يمد استطالاته إلى العقل أيضا ، وإذا كان يتحدث عن الجسد كخلية بايلوجية فإنه يستطيع أن يمد استطالاته إلى الظواهر السلوكية للجسد سواء كانت سلوكا فرديا أو جماعيا .

وكما أن العلم التجريبي حينما يريد قياس حركة الأشياء في الطبيعة يستعين بالرياضيات التي هي معطيات عقلية غير تجريبية ،كذلك يستطيع هذا العلم أن يتحدث عن الظواهر النفسية المنعكسة كسلوك ظاهر –أو بنسبة اقل-كاستبطان داخلي مشترك –ولا يكون بذلك قد ابتعد عن منهجيته العلمية في دراسته التجريبية .

ولو تعمقنا أكثر لوجدنا أن الميكروفيزياء والميتافيزياء تتقاربان أحيانا بابتعادهما عن الملاحظة التجريبية المباشرة لعدم قدرة الحواس البشرية مع مساعداتها التكنلوجية على وضع معطيات الميكروفيزياء تحت النظر حتى مع وجود التقنيات النانوتكنلوجية الدقيقة جدا ، إلا ان هذه المعطيات تبقى خارج قدرة الحواس البشرية على التقاطها ، وبذا تقترب معطيات الميكروفيزياء –عقليا- من معطيات الميتافيزياء من جانب واحد .

على أن العلم التجريبي يبقى هو ومنهجيته العلمية ومعطيات العلوم الثلاثة –فيزياء كيمياء بايلوجيا-هو أساس كل العلوم والتقنيات المعاصرة سواء كانت تبحث عن أشياء مادية أو شبه مادية أو حتى لا مادية بالمفهوم الفيزيائي الضيق

من هنا  فإذا أردنا أن نتحدث عبر هذا العلم وأدواته ومنهجيته ومعطياته عن الشخصية بالمعنى المفتوح للكلمة ،فإننا لابد لنا أن نستعين بمعطيات التجريب العلمي الدقيق وبما قدمته وتقدمه مختبرات هذا العلم من تفرعات تطال كل شيء يخص الشخصية ، ولن نقف عند حدود التعريفات الضيقة للشخصية سواء كانت من جانب علماء النفس او الاجتماع او الانثربولوجيين، وإنما نبدأ أساسا بالشخصية كمعطى بايلوجي –ذي أرضية فيزيائية-كيميائية –في الجسد الإنساني –الوجود المادي لافرازاتها وسلوكها وتمظهرها –.

إننا نتحدث إذن عن الذرة والجزيء والخلية ، وبذلك يكون حديثنا علميا وفق مواصفات العلم التجريبي .

ولاشك أن الأشياء المحيطة بنا سواء كانت طبيعية او صناعية ، شجرة او كرسي تعكس معنى ما في عقولنا ، ونحن نتعامل معها على هذا الأساس ، كذلك الجسد الإنساني كمادة طبيعية حينما يمارس وجوده في الحياة ، يعطي معنى خارج هذه المادية ، إنه الشخصية الإنسانية متحققة في المكان عبر الزمن المعين او السنين التي تستغرقها هذه الشخصية في تمظهرها الحي عبر السلوك الذي تختاره للتعبير عن وجودها التاريخي هذا ،

فالشخصية بهذا المعنى إيقاع زمني على وجود مكاني ،والناتج هو معنى هذه الشخصية بخصائصها الظاهرة .

إن الجسد البشري كائن مادي ، في حين أن الشخصية هي كينونة معنوية له ، فإذا أردنا أن ندرس إيقاع هذا الكائن المادي على الزمن المخصص له نكون قد درسنا الشخصية دراسة علمية تجريبية مناسبة ، وبذلك لا نضيع في متاهات الفكر الفلسفي والنفسي والاجتماعي  الذي يستغرق معطيات العقل أكثر من أن يستغرق معطيات الدماغ .

إن الجسد البشري هو فيزياء وكيمياء وبايلوجيا ، هو ذرات وجزيئات وخلايا ووظائفيات لهذه الذرات والجزيئات والخلايا يستخدمها الجسم سواء لبقائه حيا كنشاط صحي ومناعي داخلي أو لديمومة استمرار نشاطه الخارجي كممارسة إنسانية سلوكية فردية واجتماعية .

ولما كانت الذرة الفيزيائية هي نفسها في كل الكون، والجزيئة هي نفسها في كل جسم حي أو غير حي والخلية هي نفسها في كل جنس الحياة ، مما قد يضيع وصف الخصوصية الإنسانية في الأشياء ..إلا أن التخصص الذي يفرز الإنسان عن غيره من كل الكائنات والأشياء هي الكينونة التي يحققها في سلوكه ، هي الشخصية المتميزة عن كل تشيؤات الكائنات الأخرى ، هذا التخصص هو الذي ندرسه هنا ، فكيف تتعامل الذرة والجزيئة والخلية في جسد الإنسان حينما يمارس نشاطه في إظهار شخصيته بشكل طبيعي –بدهي أو بشكل مخطط له ولأهداف تتجاوز وجوده المادي البدهي إلى تميزه الخاص عبر الكائنات وعبر الكينونات كلها ؟.

الإنسان إذن شخصية ، لأنه الوحيد في الطبيعة الذي له ذاتية معينة والأشياء كلها لا ذاتية لها ، إنها في خدمة الإنسان سواء لقدرته على التكيف معها أو تكييفها لاستخداماته وأهدافه  والقدرة على استخدام الأشياء وفق هدف مخطط له هو قدرة أولى لتميز الكائن الإنساني في إفراز شخصيته وذاتيته ، بل وكونه ملك الأرض وخليفة الله فيها ، ولو بقي الإنسان في مرحلته الحيوانية في سلم التطور لما برزت له أي شخصية او ذاتية خارج جنس الحيوان ، ولكن الحضارات التي بناها الإنسان خير دليل على تميز هذه الشخصية او الذاتية على كل الحيوانات الأخرى والتاريخ خير شاهد ودليل على ذلك .

إن الانطلاق من هذا المفهوم العلمي لتحديد وتعريف الشخصية ، ينقذنا من الاجتهادات الكثيرة ، والتعريفات المتعددة التي وضعها علماء النفس والاجتماع والانثربولوجيون وغيرهم ، فقد تعددت تعريفات الشخصية بتعدد التخصصات أولا وبتعدد الاجتهادات ضمن التخصص الواحد ثانيا مما جعل مفهوم ومعنى الشخصية يضيع ويتيه بدلا من ان يتحدد ويتشخص ويعرف، وهذا ما أشار إليه الكثير من الباحثين والكتاب ، فهذا عالم الاجتماع العراقي علي الوردي يقول[1] بأن للشخصية  مفهوما في علم النفس يختلف عن مفهومنا في علم الاجتماع أو علم الحضارة ، ويشير إلى صعوبة تعريف الشخصية تعريفا جامعا مانعا لأنها كالكهرباء او الأثير او المغناطيس لا تعرف إلا بآثارها ، بل انه يذهب إلى ابعد من ذلك حينما يرفض تحليل الشخصية إلى عناصرها لأن هذا التحليل-برأيه-يفقدها ارتباطها العضوي وقيمتها الكلية وهو يعتبرها كالمركب الكيمياوي الذي يحتوي على صفات خاصة به تختلف عن صفات العناصر المكونة له كل الاختلاف .

أما عالم الانثرولوجيا قيس النوري فهو يؤكد[2] أن الانثربولوجيين يتفقون مع علماء النفس على صعوبة تحديد وتعريف الشخصية  فالشخصية –كما يقول-لا تعتمد على خاصية او مجموعة خصائص فقط بل على تفاعلها كلها بعضها مع البعض الآخر من الفرد ومع تعقيدات واقع الحياة التي يعيشها الفرد في مجتمعه .

ولو حاولنا استعراض التعريفات المختلفة عند المختصين لطال بنا المجال وتعددت التعريفات أحيانا بتعدد المعرفين ، على ان احد الباحثين بعد ان يستعرض العديد من التعريفات يصل إلى خلاصة أن لكل فرد شخصيته المتميزة ولكنه في الوقت نفسه مشترك مع الآخرين في الكثير من مظاهر تلك الشخصية ويشير إلى أن في الشخصية نوعا من الثبات يبدو في أساليبها واتجاهاتها وشعور باستمرار بهويتها ، ولكن فيها كذلك نوع من التغير وإلا لما كان من الممكن فهم النمو والتربية ، ومن هنا –كما يقول –يجد أمر احاطة الشخصية بتعريف شامل أمرا صعبا قد يتجه التعريف نحو تميزها عن غيرها وقد يتجه نحو اختلاف الصفات التي تكونها وتنطوي عليها ، وقد يذهب إلى ما يبدو في سماتها او إجراءاتها ومن هنا نصادف عددا غير قليل من أشكال تعريف الشخصية .

على أن الثبات والتغير في الشخصية يمكن أن يحدد بعض سماتها ، فالسلوكيات الثابتة في المواقف  المتعددة يمكن أن تعطي سمة للشخصية فتوصف بأنها تسلطية أو توافقية أو ما شاكل ذلك، أما السلوكيات  المتغيرة في المواقف المتشابهة فهو يعكس قلق هذه الشخصية وعدم ثباتها وبالتالي يعطيها وصفا يناسبها .

إن من أقدم من حاول دراسة الشخصية وسلوكها المميز لها علميا في التاريخ القديم كان ابوقراط فهو أقدم من ربط بين الطبيعة البايلوجية الخاصة لجسم  معين وصفاته الشخصية فالدم والصفراء والمرارةالسوداء والبلغم كلها افرازات بايلوجية غددية تتحكم في مزاج الجسم ومن ثم تفرز الشخصية الغالبة فيها إحدى هذه الافرازات ، وهذه طريقة علمية واضحة لتحديد أنواع الشخصيات ولكنها طريقة وصفية وليس تجريبية وهي بمنطق الطب القديم والعلم القديم أكمل طريقة لتحديد وتعريف الشخصيات الإنسانية وتنوعها واختلافاتها.

أما اليوم وبعد تقدم العلوم المعاصرة واكتشاف خريطة الجينوم البشري الذي يحدد الطبيعة البايلوجية الخاصة بكل جسم مفرد يمكننا أن نستعين بمعطيات هذه الخريطة لتحديد معنى ومفهوم الشخصية بشكل تجريبي .

تقول المعلومات الجينية المعاصرة في تعريفها للإنسان(من أكون أنا ؟ ...ما أنا إلا كائن بايولوجي جمعتني معا جيناتي ، فهي قد وضعت شكلي وأعطتني أصابعي الخمس من كل يد ، واثنتين وثلاثين سنا في فمي وأرست قدرتي لغويا ، وعينت ما يقرب من نصف قدرة ذكائي ، وعندما أتذكر شيئا فإن جيناتي هي التي تفعل لي ذلك ، فتضغط زر تشغيل منظومة كريب لتخزين الذاكرة ، وهي التي بنت لي مخا وأوكلت إليه مسؤولية القيام بالواجبات اليومية وهي قد أعطتني أيضا انطباعا واضحا بأنني حر في اتخاذ قراري الخاص فيما يتعلق بطريقة سلوكي ، ويخبرني أي استبطان بسيط أن ما من شيء لا أستطيع أن امنع نفسي عن فعله ،وبالمثل لا يوجد ما يفرض علي أنني يجب أن افعل أمرا وليس أمرا آخر ، فانا قادر تماما على أن اقفز إلى سيارتي وأقودها لأدنبرة الآن توا لا لسبب إلا لأنني أريد ذلك أو قادر تماما على اختراع فقرة خيالية ،فأنا عامل حر مجهز بإرادة  حرة )[3] .

إذا كانت جيناتنا هي التي تحدد سلوكنا وشخصيتنا فهل صحيح أن يقول علماء الحتمية البيولوجية من أن ( الطبيعة البشرية مثبتة في جيناتنا ، وان الظواهر الاجتماعية إنما تعود إلى البيولوجية التي يحملها الممثلون الأفراد الذين يؤدون المشهد) .

إن العلم عبر الهندسة الوراثية والبيولوجية الجزيئية يقود إلى القول بأننا  لا نتحرك بإرادة حرة خارج جيناتنا لأن ما هو بيولوجي مصدره الطبيعة وبواسطة الجينات، وبالتالي فنحن محكومون كشخصية وسلوك ومعطيات هذه الجينات ، حيث ان الكائن الحي هو رغم كل شيء مجرد طريقة –د ن ا – في صنع جزيء آخر من-د ن ا – وان كل شيء موجود في الجين وفقا لمبدأ  التخلق السبقي الذي ظل يجري كالسلسلة عبر قرون عديدة .

وإذا ما تساءلنا كيف تقوم الجينات برسم ملامح الشخصية وسلوكها ؟ وما هي الجينات في خريطة الجينوم البشري المسئولة عن الشخصية بالذات ؟ وما هي الآليات الفسيولوجية التي تستخدمها الجينات للتأثير داخليا –بايلوجيا-عصبيا على السلوك البشري كتمظهر شخصي لها ؟

يجيب علماء الجينات بعد بحوث عديدة انه( لقد تبين أن 75% من الأنواع المختلفة من البروتينات  تتطابق في كل الأفراد المختبرين بصرف النظر عن نوع المجموعة ، وذلك فيما عدا طفرة عارضة نادرة ، وهذه البروتينات التي سميت –أحادية الشكل –هي بروتينات مشتركة بين كل الكائنات البشرية من كل الأجناس ، فالنوع البشري هو أساسا متماثل فيما يتعلق بالجينات التي تعطي شفرة هذه البروتينات ، أما نسبة الخمسة والعشرين في المائة الباقية فهي بروتينات –متعددة الشكل- أي يوجد شكلان بديلان او أكثر من البروتين تعطي شفرتها بواسطة أشكال بديلة من احد الجينات ولها تواتر متباين في نوعنا وان كانت مشتركة ، ويمكننا أن نستخدم هذه الجينات متعددة الأشكال في السؤال عن درجة الاختلاف الموجودة بين المجموعات مقارنة بالاختلاف بين الأفراد داخل المجموعة )[4]

وهكذا نرى أن الجنس البشري كله يعود إلى تركيب هذه الجينات وبها مع 46 كروموسوما التي تجعل الإنسان إنسانا لا أي نوع آخر من الحيوانات ، وهذه بديهيات علم الهندسة الوراثية هذا .

هكذا إذن تصنع الجينات الجنس البشري ومن ثم تميز أفراده كشخصيات عرقية مختلفة أيضا وهذا ما جعل احد العلماء يتحدث عن الجين انه قدر الإنسان حيث تبين كما يقول ( ان إحدى النتائج الرئيسة من دراسة الجينات متعددة الشكل هي انه ما من جين منها يميز بإحكام إحدى الجماعات العرقية عن الأخرى ، أي انه لا يوجد جين معروف يوجد بشكل واحد في جنس واحد بنسبة 100% وبشكل مختلف في جنس آخر بنسبة 100% فالتمييز العرقي للبشر هو في حقيقته لا يتجاوز سمك الجلد ) .

إن معطيات علم الجينات تذهب إلى أعمق من ذلك حيث يعتقد العلماء أن الجين كائن خالد  ( فهناك سلسلة لا تنقطع من السلالات المتحدرة تربط الجين الأصلي الأول مع الجينات التي تنشط الآن في أجسادنا ، سلسلة لم تنقطع ، وربما حدث فيها نسخ لخمسة بلايين نسخة عبر أربعة بلايين عام ، ولم يحدث طول الطريق أي انقطاع ولا أخطاء مميتة )[5]

ترى هل نحن عبيد جيناتنا في سلوكنا وشخصياتنا إلى الدرجة التي ننفي بها حرية الإرادة ، الصفة الأكثر تميزا في الكائن البشري ورمز تطوره البيولوجي والثقافي ؟

وهل نحن نسخة طبق الأصل من تحكم الجينات الأصلية هذه ، وكيف تتميز الشخصيات بعضها عن بعض إذن؟

هنا نجد مفهوم تطور الجين نفسه عبر تكيفات تعليمية وثقافية وبيئية طبيعية ومصطنعة ، حيث يذهب علماء الجينات إلى القول بأنه ( ربما كنا نحن البشر محددين تحديدا مدهشا حسب أوامر جيناتنا ، إلا أننا نتحدد تحديدا اكبر بما نتعلمه من حياتنا ، فالجينوم كمبيوتر معالج للمعلومات  يستخلص معلومات مفيدة من العالم بالانتخاب الطبيعي ويجسد هذه المعلومات في تعميماته )[6].

هكذا نرى أن الجينوم برنامج غير مغلق على نفسه ، انه مفتوح للضغوط والتكيفات وردود  الفعل على الضغوط والاثارات ، وبالتالي يمكن القول انه يتطور ويتعلم ليضيف إلى إمكانياته الثابتة استجابات الاثارات الاجتماعية والثقافية والبيئية ..الخ

ان هذا القول يكاد يصل إلى أن الجينوم كائن عاقل يتطور بتطور الاثارات الثقافية والاجتماعية والبيئية وهو ليس كذلك بالتأكيد ، انه تركيب كيمياوي يتعامل بلغة البروتينات والتي هي أيضا تركيب كيمياوي مادي  فكيف نفهم هذا القول ان لم يكن يعني شيئا مجازيا او بلاغيا ؟ وهل يمكن إرجاع الشخصية الديناميكية الواعية إلى تركيب كيمياوي أولي فقط ؟ أين موقع الإرادة الحرة المعترف بها كطبيعة للشخصية من كل هذا ؟

لو كنا نتحدث بمنطق الفلاسفة والأفكار التأملية في الديانات قبل السماوية لدى الحضارات الأولى لأمكن القول أن الجين فيه روح او عقل يتصرف بضوئه ،أما ونحن نتحدث في عصر العلم التجريبي فلا يمكن ان يكون هذا القول مقبولا أبدا ، فهل يمكن أن نصف مادة كيميائية بأن لها ذكاء وعقلا وروحا وهي أمامنا تركيب بسيط من عناصر بسيطة مادية ؟

حينما يتحدث علماء الجينات عن الكروموسوم رقم 11وموقعه في الجسم البشري وخريطته الجينومية يصفونه بأنه المعبر عن الشخصية حيث يقول ريدلي تحت عنوان الشخصية لهذا الكروموسوم (( الأمر الذي يدور حوله الجينوم كله هو ما يوجد من شد بين الخصائص العامة للعرق البشري والملامح الخاصة للأفراد ، والجينوم على نحو ما مسئول معا عن الأمور التي نتشارك فيها مع الآخرين ، وكذلك  الأمور التي نخبرها على نحو متفرد في أنفسنا ، نحن جميعا نخبر التوتر ، ونحن جميعا نخبر ما يصاحب ذلك من ارتفاع مستوى الكورتيزول ، ونحن جميعا نعاني ما يترتب على ذلك من تأثيرات كبت المناعة ، ونحن جميعا لدينا جينات يضغط زر تشغيلها أو إيقافها بأحداث خارجية على هذا النحو ، ولكن كل منا متفرد أيضا ، فبعض الناس لا مبالون ، وبعضهم عصبي المزاج ،والبعض يعيشون في قلق وغيرهم يلتمسون المخاطر ، والبعض واثقون وغيرهم خجولون ، والبعض صامتون وغيرهم ثرثارون ، ونحن نسمي هذه الاختلافات بالشخصية ، وهي كلمة تعني ما هو أكثر من الخلق فحسب فهي تعني العنصر الفطري والفردي في الخلق)[7].

إذن حينما تتشابه المثيرات وتختلف الاستجابات لدى أفراد الجنس البشري ذي التركيب الجيني الواحد فلا بد أن يكون هناك تكيفات وتعلم سلوكي مكتسب طبع وأثر في هذه الاستجابات خارج او إضافة إلى الطبيعة الجينية الأصلية للفرد ، وإلا كانت الاستجابة واحدة كما هي المثيرات واحدة وبالتالي لا يكون هناك شخصيات مختلفة متعددة وإنما شخصية واحدة مطبوعة بالطابع الجيني الأولي .

من هنا كان لابد أن يقوم هناك وسط تتقاطع وتتفاعل فيه معطيات الجينات الأولية لطبع الشخصية مع معطيات الاثارات والاستجابات والتكيفات الدائمة معها ، ومن هنا أيضا كان الدماغ هو الوسط الذي تستخدمه الجينات لامتصاص الاستجابات المستجدة والقيام بتكيفات مناسبة لداخل الجسم البشري وحيويته وللبيئة الخارجية المثيرة لهذه الاستجابات .

ان علماء الجينات أنفسهم وبضوء خريطة الجينوم البشري يتحدثون عن ان هناك عشرة جينات تتساوى في الأهمية يتوافق بنيانها مع التباين في الشخصية ، علما أنهم يتحدثون عن جينات الشخصية باسم د4در حيث يشيرون إلى ( أن الأفراد الذين لهم جينات طويلة من نوع د4در عندهم استجابة منخفضة للدوبامين ويلزم لهم اتخاذ طريقة تناول للحياة فيها مغامرة أكثر ليحصلوا على طنين الدوبامين نفسه الذي يحصل عليه الأفراد ذوو الجينات القصيرة من أشياء بسيطة وهم في بحثهم عن عوامل الطنين هذه ينمون شخصيات ملتمسة للجدة )[8] .

إن الكيمياء تقف عند حدود السيروتونين الذي يعتبره العلماء مظهر كيميائي للشخصية ، فإن كان لدى الفرد مستويات عالية وغير اعتيادية منه في مخه فربما أصبح صاحب شخصية قهرية يلتزم بدقة التنظيم والحذر حتى إن وصل به ذلك إلى حد أن يكون عصبيا بهذا الشأن، أما من يعاني من الوسواس القهري فهم إذا خففوا مستويات السيروتونين عندهم يستطيعون التخفيف من أعراضهم ، أما الذين لديهم مستويات منخفضة من السيروتونين إلى حد غير عادي في أمخاخهم فإنهم ينزعون إلى أن يكونوا مندفعين وقد يرتكبون جرائم عنيفة وقد ينتحرون .

كل هذه الاختلافات السلوكية للشخصية تحتاج أيضا إلى وسط بين تأثيرات الجينات الأولي وبين الاستجابات العقلانية الهادئة .

أما آلية هذا التأثير فيكون من خلال المعلومات المثيرة الواردة للمخ حيث يقوم المخ بإرسال إشارة تخبر الغدة النخامية بان تطلق هرمونا يخبر الغدة الكضرية لتصنع وتفرز الكورتيزول مثلا في حالة الامتحان أو حدوث موت او ما شاكل ذلك ، أي أن هنا تبادل في التأثير في السلوك بين الجين الفطري وبين السلوك الإرادي ، وهذا قاد إلى القول بان السلوك ابعد من ان يكون تحت رحمة بايلوجيتنا في حين ان كثيرا ما تكون بيولوجيتنا تحت رحمة سلوكنا .

 من هنا تدخل مفردات جديدة للتأثير في السلوك  ومن ثم طبيعة الشخصية التي يفرزها او يعبر عنها .

فعلى الرغم من أن علماء الجينات يعتبرون الشخصية إلى حد ما مسألة كيمياء مخ ، وان  السيروتونين قد يفسر الاختلافات الفطرية في الشخصية ، إلا أن هذا لا يلغي أبدا وجود تأثيرات خارجية لاستجابة السيروتونين نفسه عبر المخ للتأثيرات الخارجية مثل الاثارات الاجتماعية .فهناك إذن اعتراف واضح لتأثير البيئات كما الجينات في صنع الشخصية ،فالجينات ليست مبرمجة لإنتاج سلوك اجتماعي فحسب بل هي أيضا مبرمجة لتستجيب لهذا السلوك .

هكذا توصل علماء الجينات إلى صياغة الدور الوظيفي للمخ كوسط للتأثيرات والاستجابات فاعترافهم بان الجينوم كمبيوتر معالج للمعلومات لا تكفي لتحديد استجابات عقلانية لان التطور قد يكون بطيئا جدا في معالجة هذه المعلومات وقد يحتاج إلى أجيال من هنا يقولون انه (لا عجب في أن يجد الجينوم  انه من المفيد جدا أن يبتكر ماكينة ذات سرعة اكبر تكون مهمتها استخلاص المعلومات من العالم في دقائق أو ثوان ،وأن يجسد هذه المعلومات في سلوك، هذه الماكينة هي المخ، يمدنا الجينوم بأعصاب تخبرنا بالأمر عندما تكون أيدينا ساخنة ويوفر لنا المخ الفعل لنرفع أيدينا عن الموقد)[9] .

ومع هذا  فإن المخ الذي تخلقه الجينات لا يكون جيدا إلا بمثل تصميمه الفطري وقد أنكتب في الجينات لب الحقيقة من أن المخ آلة صممت لتعدل بالخبرة .

هكذا نجد أن الحقيقة العلمية تقول انه لا الجينات وحدها ولا البيئة وحدها هي المسئولة عن السلوك والشخصية فالكائنات الحية لا ترث صفاتها وإنما ترث جيناتها فقط ، ومن هنا يدخل مفهوم التفاعل بين الجين والبيئة للعمل في شخصية الإنسان ومجتمعه وحضارته ويقول العلماء (فالعلاقة بين الكائن الحي والبيئة ليست مجرد علاقة تفاعل بين عوامل داخلية وخارجية ، ولكنها علاقة تفاعل لنمو جدلي  للكائن الحي ووسطه  يستجيب كل منهما للآخر )[10]، ويضيفون            ( فالتفاعلية تنتج نقطة بدايتها من تركيب وراثي مستقل ذاتيا ، وعلم فيزيائي مستقل ذاتيا، ثم تصف الكائن الحي الذي سينمو من هذا المزيج من التركيب الوراثي والبيئة ، ولكن هذه التفاعلية لا تعترف بأن الكائن الحي النامي يقوم بإعادة تنظيم ما يتعلق بهذه العملية من جوانب ذلك العالم الخارجي وتحديده )[11] 

والنتيجة التي توصل إليها العلماء هي (أن كل الظواهر  البشرية ليست هي في الوقت نفسه اجتماعية وبيولوجية تماما مثل ما هي في الوقت نفسه كيماوية وفيزياوية ، والأوصاف الكلية التبسيطية للظواهر ليست أسبابا لهذه الظواهر وإنما هي مجرد أوصاف لها على مستويات معينة بلغة علمية معينة )[12].

 لقد تبين أن التكيف هو أهم سمات البشر وسبب استمرارهم وبقائهم فنحن نتاج ملايين السنين من التطور وفي أثنائها ظهرت فصائل واختفت فصائل بايلوجية متعددة ، ولم تترك سوى بقاياها المتحجرة ، ويبدو أن انقراضها يرجع إلى تبدلات بيئية ضارة ببقائها حصلت في محيطها الطبيعي . والتكيف كما يقول العلماء ليس له شكل واحد فقط بل ( إن القدرة على التكيف لا تتحقق فقط عن طريق التبدلات الجسمية، بل وتشير أيضا إلى القدرة على تعلم السلوك الجديد لغرض تحقيق التكيف التلقائي لتبدلات البيئة ، ويميل هذا الصنف من القدرة التكييفية إلى الزيادة مع تزايد تعقيد دماغ الحيوان ، وهو في أعلى درجات رقيه لدى الإنسان الذي كما نعلم يمتلك أعظم قدرة بين الأحياء على التعلم من التجارب )[13].

إن تنوعات الشخصية الإنسانية تتكون نتيجة استجابات مختلفة للمثيرات حيث يؤكد العلماء على أن (كيمياء الدماغ الحقيقية تتبدل بفعل التعلم ، ونظرا إلى تفرد هذه الكيمياء الدماغية في كل إنسان ، فإن نتائج التعلم تتفاعل من خلال هذا التميز فتولد اختلافات فردية متزايدة ، ومن المرجح أن هذا التنوع الفردي يخدم ديمومة الشخصية ويدعم بقاءها )[14]

كما يصل العلماء إلى استنتاج مفاده (أن قدرتنا العظيمة على التعلم تعني أن السلوك يمكن أن يصل قدرا من المرونة بحيث يسمح بالبقاء في أصناف لا حصر لها من البيئة وفي وجه مختلف التقلبات البيئية ، وهي تعني أيضا المدة الطويلة التي يستغرقها تعلمنا واعتمادنا الكامل على الكبار في طفولتنا )[15].

هكذا نرى أن موضوع الشخصية من اعقد الموضوعات ولازال العلم يزداد معرفة في تحديدات  أصناف الشخصيات المتنوعة لتنوع البيئات والثقافات والتكيفات والاستجابات المختلفة لكل بيئة عن سواها ، ولما كانت البيئات متعددة إلى ما لانهاية كانت معرفة الشخصية بدقة مسألة صعبة لأنها ستتناسب مع هذه التنوعات ولما كان التاريخ الإنساني الطويل يستجد به الكثير من أساليب التعلم والاستجابة المناسبة لطبيعة كل مرحلة حضارية واختلافاتها كان هذا التنوع والاختلاف في الشخصية بهذا العدد الكبير الذي يصعب حصره.

               

[1] -شخصية الفرد العراقي  الانترنت

[2] -الانثربولوجيا النفسية ص187

[3] -الجينوم ص256

[4] -علم الأحياء والايدولوجيا والطبيعة البشرية ص170

[5] -الجينوم ص229

[6] -ن م ص256

[7] -الجينوم ص189

[8] - الجينوم ص198

[9] -الجينوم ص256

[10]  ن م ص386

[11] -علم الاحياء والايدلوجيا والطبيعة البشرية ص386

[12] -ن م ص343

[13] -نمو شخصية الفرد والخبرة الاجتماعية ص57

[14] -ن م ص57

[15] - ن م ص85