شيء عن "حركة النهضة التونسية"... ومؤسسها ..

شيء عن "حركة النهضة التونسية"... ومؤسسها ..

عقاب يحيى

على مدار عمر حركات الإخوان المسلمين ذات القيادة الموحدة ـ العالمية ـ عرف كثيرها تمايزات باتجاه التشدد أو الانفتاح. في بدايتها، ووفق أفكار المؤسس حسن البنا، حاولت أن تكوين الوريث والبديل فتلوّنت بخط عام تناقل بين التشدد، والاعتدال : صعوداً وهبوطاً، خاصة بعد قيادة سيد قطب وأفكاره عن الحاكمية، والظروف التي عاشتها الحركة وآثار صراعاتها الحادة مع عبد الناصر وغيره.

لكن، وعلى مسافة سيرورة طويلة عرفت بعض تنظيمات الإخوان تمايزات أفصح في الطرح والموقف والتفسير. بعضها اعتبر نفسه أقرب إلى حركات الإصلاح الديني التي برز فيها الكواكبي والأفغاني وعبده ورشيد رضا في صباه.. وآخرون.. بعد ذلك القطع الذي حدث والذي لم يسمح لتلك الدعوات بالاستمرار والتجسيد في حركات سياسية... والتي سيقال الكثير عن أسباب إفشالها وتحطيمها، وفي مقدمها نظم الاستبداد وسطوتها، وما تنتجه من ردود فعل عنيفة تسحق الحركات الاعتدالية النهضوية، وموقع الأصولية، والفكر الوهابي والتشدد في إحكام قبضته على الأفكار وحركات الإسلام السياسي، وسنرى أن حركة النهضة التونسي هي رائدة، ومن أهم تنظيمات الإخوان المسلمين التي اختطت طريقاً اعتدالياً، انفتاحيا، يؤمن بالتعددية، والديمقراطية، ويعمل على تقديم رؤى تطورية للمفاهيم الدينية البعيدة عن الغلو.

ـ ربما طبيعة المجتمع التونسي وقوة هيئات المجتمع المدني فيه، ودور النظام البورقيبي وما أحدثه من تحولات اجتماعية كان لها الأثر المهم في حركة النهضة وخطابها، وفي شخصية مؤسسها ورئيسها الشيخ راشد الغنوشي .

ـ عندما وصل بن علي في انقلاب أبيض إلى الحكم / 7 نوفمبر 1987/، وعبر ما يقال عن تأثير أفكار الهادي البكوش في توسعة قاعدة الانقلاب وانفتاحه على القوى السياسية، بما فيها حركة النهضة، عرفت العلاقات بينهما أشهر عسل.. لم تستمر طويلاً.. ثم انقلبت إلى عداء : ملاحقة وسجوناً ومنافياً.. وخروج الغنوشي إلى أوربة.. وتهماً خطيرة مألوفة بالإرهاب، وبمحاولة الانقلاب... وتهديد الأمن الداخلي..وما عرفته الحركة من أزمة، وتطوير في تحالفاتها وخطها .

                                            *****

لقاء بالغنوشي عام 1989 بتونس..

مطلع عام 1989 عُقد في جنيف مؤتمر تحت عنوان : نصرة الشعب السوري والفلسطيني واللبناني برعاية عراقية فلسطينية.. كانت تضع شيئاً من رهانات على وجود الجنرال عون "رئيساً" في بيروت الشرقية...وكانت سورية الحاضر الأكبر، وباتجاه التفكير بإقامة جبهة عريضة لمختلف القوى السياسية.. فشكلت لجنة من الأحزاب والقوى المشاركة لبحث أسس ومقومات نهوض تلك الجبهة، واقترحت أن تكون تونس مكان الحوار برعاية منظمة التحرير الفلسطينية.. التي رحّب قائدها : الشهيد أبو عمار بالفكرة.. واستقبلنا في فندق بعيد عن الأعين لقرابة العشرين يوماً...

ـ في تلك الحوارات كان يشارك فيها طرفا، أو جناحا الإخوان المسلمين في سورية، حيث عرفت تلك الحركة انقساماً حادّاً لعدة سنوات كان المرحوم عدنان سعد الدين هو المرشد العام لجناح اعتبر متشدداً في مواقفه من النظام السوري، وجناح آخر برئاسة المرحوم الدكتور حسن هويدي، وكان الأستاذ علي صدر الدين البيانوني هو من يمثل ذلك الاتجاه في الحوارات ...

ـ المرحوم عدنان سعد الدين كان يعتبر نفسه، وعدد آخر من رموز حركة الإخوان روّاد تطوير وتحديث في خط ومواقف وفكر الإخوان المسلمين، وأصدر كتيّباً بعنوان" منهاج الثورة" يعتبره تجسيداً لذلك الخط، كما قدّم لنا الشيخ راشد غنوشي على انه من نفس المدرسة، وقد زارنا في الفندق مرتين وجرت معه حوارات طويلة كان يدلل فيها على سعة ثقافته، وأفقه، ونهجه التطويري، النقدي، وبما يترك شيئاً من الارتياح، والقابلية على خوض غمار نقاشات نظرية مفتوحة يمكن أن ترسي قواعد عمل مشترك بين التيارات اليسارية والقومية والإسلامية.. وحاولنا ما أمكن متابعة مواقف وتصورات الشيخ الغنوشي وهو يزداد قناعة، خاصة بعد معايشته للتجارب الأوربية، بموقع التعددية والديمقراطية في حياة الشعوب، وتكريسها نظاماً، وحكماً..

إضافة إلى إسهامه الواضح في تطوير الأدوات المعرفية للخطاب الإسلامي الرسمي ومحاولة تخليصه من مركّبات التعقيد، والأحادية، وادعاء امتلاك الحقيقة، والمزج المقنع بين الأبعاد الفلسفية والاجتماعية والعربية والسياسية للإسلام الرسالي، والإسلام المرجعي المفتوح على الاجتهاد وقابليات التطوير.. خاصة من قبل الأحزاب السياسية الإسلامية التي سيكون عليها بذل الجهود المخلصة في الانفتاح على الآخر المختلف، وفي ترسيخ التحالفات، وحقوق الغير، ورفض الإثرة والاستحواز، وفرض ما يعرف بالدولة الإسلامية، واعتبار صندوق الاقتراع المرجعية والناظم ......

ـ بعض الحركات الإسلامية تأثرت بهذا الفكر التطويري، وبرزت في الجزائر عديد الشخصيات الدينية.. التي كان من أبرزها الشيخ عبد الله جاب الله وتأسيسه لحركة النهضة الجزائرية على غرار حركة النهضة التونسية، وما عرفته تلك الحركة من تفاعلات داخلية كان من نتيجتها ابتعاد، أو إبعاد الشيخ جاب الله عنها، بينما تواصل الحركة عملها على النهج ذاته، وتربطها علاقات قوية بحركة النهضة التونسية وزعيمها، وهناك عديد المحاولات التي لا تخفي إيمانها بتكريس خط تطويري يستجيب لحاجة وجود قوى سياسية إسلامية"عصرية"، مهيّأة لفصل الدين عن السياسة وبالوقت نفسه تطوير المفاهيم والأساليب والتحالفات لبناء دول عصرية، ديمقراطية..

***

وإذا كانت تجربة العدالة والتنمية في تركيا، وشخصية الزعيم أردوغان عامل جذب ساحر لدى عديد الإسلاميين،  ومحطّ تأثير ومحاولة محاكاة.. فيجب الإقرار أن محاولات التطوير والتحديث سابقة على بروز الحالة التركية، وأن حركة النهضة التونسية كانت، بزعامة الشيخ الغنوشي، وعدد من قيادييها، أصيلة، وجادة في ترسيخ خطاب إسلامي منفتح يجد القبول من أوساط مجتمعية مختلفة، ويتلاقى والمتغيّرات.. وهو ما تؤكده الحركة رغم عديد الأخطاء التي ارتكبتها بعد الثورة، وعبر الحكم..

ـ لقد اعترفت الحركة بأخطائها، وبواجب الوقفة النقدية مع تجربتها.. وهذا تكريس لمنهج نقدي مهم يدلل على تواضعها واستعدادها للمراجعة والإصلاح، كما أن تهنئتها لحركة نداء تونس تفتح المجال لحالة من التعايش السياسي يقطع الطريق على الاحتراب، ويضع الجميع في جبهة تأسيس الدولة التونسية التعددية.. الديمقراطية.