الإسلام ومقاومة الاستبداد
د. نعيم محمد عبد الغني
الحرية في الإسلام مبدأ أصيل دارت حوله نقاشات كثيرة، منها مثلا هل الإنسان مخير أم مسير، ومنها حرية الاعتقاد، وحرية الفكر وغير ذلك من البحوث التي ملأت بطون كتب علم الكلام، لكن ما أريد أن أركز عليه هنا هو حث الإسلام على حرية الفكر وحرية إبداء الرأي، فهو يرفض أن يكون المسلم إمعة إن أحسن الناس أحسن وإن أساءوا أساء، بل يريد أن يكون المسلم ذا شخصية مستقلة، له رأي يخرج من رأسه، قائم على استشارة واستخارة، ثم يريده من بعد أن يكون شجاعا في إبداء رأيه لا يخاف في الله لومة لائم، جاعلا أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، فالإسلام يرفض الاستبداد الذي يعني الانفراد بالرأي وفرضه على الآخرين، وعبر عن الاستبداد بمعاني متعددة منها الطغيان، والعلو، يقول الله تعالى لسيدنا موسى: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) طه43، وهذا الطغيان من نتائجه العلو والفساد (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ) القصص3.
وقد اتخذ الاستبداد صورا متعددة، منها الاستبداد التربوي الذي يكون داخل الأسرة وخارجها، فداخل الأسرة قد يكون رب الأسرة مسيئا استغلال سلطته في حقه بأن يطاع فيستبد برأيه ويأمر أهله بأشياء يرفضها الشرع، ليقف في وجهه بقاعدة عريضة تندرج تحتها تفاصيل كثيرة عنوان هذه القاعدة لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وهذه القاعدة أيضا تطبق في كل شؤون الحياة بين كل رئيس ومرؤوس.
ومن الاستبداد التربوي ما أشيع على لسان الصوفية أن المريد بين يدي شيخه كالميت بين يدي المغسل، وقولهم على الذي يعترض على شيخه: (من اعترض انطرد)، وهذا النوع من الاستبداد لا يربي أناسا لهم رأي معقول وفعل يحترم، بل ينتج تابعين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، وإذا وصلت الأمة لهذه الحالة الانهزامية من مستبد ظالم في كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية فإن حالها سيؤول إلى الخذلان والهزيمة في حياتهم، فإذا دعوا إلى عقيدة سليمة قالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون، وإذا احتاجتهم الأوطان في دفاع أو بناء فإنهم لا يستطيعون الخروج من عباءة الطفولة التي تعودوا عليها، كما فعل بعض المتصوفة في مصر الذين راحوا يقرؤون صحيح البخاري في الأزهر تاركين الإنجليز في مواجهة ثلة قليلة من الجند ما زالوا يواجهون المدافع بالسيوف والخناجر، وهم بذلك يرجون تحقيق النصر، وهيهات لأمة تركت الأخذ بالأسباب أن تنتصر على عدوها.
ولقد شاهد الشيخ محمد عبده هذا النوع من الاستبداد في التربية، وآثاره السلبية في الغرب والشرق على حدا سواء، فرأى بالغرب في كل ميناء أسطول، ولكن أصحاب هذه الأساطيل يتبعون قادتهم ولا يفكرون في الأوامر المعروضة عليهم إن كانت خيرا أم شرا، وشعارهم: (من لطمَك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر)، ثم قال الشيخ: (وعدت فوجدت مئة مسطول في قوم يقول لهم كتابهم: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوةٍ).وشتان بين مئة أسطول ومئة مسطول!!.
إن تربية الاستبداد تولد الفساد والتملق والنفاق الذي يزين للمستبد سوء عمله ويصده عن السبيل فلا يهتدي إلى الحق، والتاريخ حافل بأمثلة كثيرة من الذين ألّهوا البشر كالذي قال للخليفة:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فإنك أنت الواحد القهار
والملأ من قوم فرعون زينوا لفرعون سوء عمله، فكان من أقوالهم التحريض على سيدنا موسى، ويحكي القرآن عنهم فيقول: (وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) الأعراف:127، وظل هذا النفاق يغذي استبداد فرعون الذي قال لهذه الحاشية المنافقة: (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ) الزخرف:51 ، ثم يقول بلهجة يدعي فيها ادعاء العلم: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) القصص 38 ليقرر نفسه ربا في النهاية فيقول: (أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى) النازعات: 24. وكل نفس بشرية مجبولة على حب الثناء والاستبداد، وإذا وجدت المناخ الملائم فإنها تصبح مثل فرعون كما قال أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين؛ من أجل ذلك أتى الإسلام مربيا ومهذبا هذه النفس لتستقيم على الجادة، ولا تتكبر وتتجبر، وتنفرد برأيها، بل تسمع لنصح الآخرين، ويسوق القرآن أمثلة كثيرة منها إبراهيم عليه السلام الذي يربي في ولده أن يكون ذا رأي حر فيقول: (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى؟) الصافات 102 ولما كانت تربية إبراهيم لولده إسماعيل عليهم السلام سليمة علم من خلالها أن رؤيا الأنبياء حق قال لأبيه: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ)، وكذا فعل سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي أرسى مبادئ الشورى، فأخذ برأي أم سلمة في صلح الحديبية وبرأي الحباب بن المنذر في غزوة بدر؛ ليأتي أبو بكر من بعده قائلا للمسلمين كما ورد في البداية والنهاية لابن كثير: (أيها الناس، إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة).
لكن الإسلام الذي حث على حرية إبداء الرأي وضع لذلك ضوابط منها أن يكون الإنسان عالما بما يتحدث فيه، وأن يبدي رأيه بموضوعية، ويختار الوقت المناسب، وأن يتلطف في إبداء الرأي، وهذه ضوابط تحتاج إلى بسط وتفصيل سنتكلم عنها إن شاء الله.