إِعْجَازٌ أم تَحرِيف؟!
تفسيرُ القرآن بالقرآن
د. محمد عناد سليمان
استوقفني ما نشره أحد الأفاضل من طلبة العلم تحت عنوان: «من الأسرار الدَّقيقة في البيان القرآني المعجز» في قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}«لقمان10».
وقد أشار الكاتب إلى تفسير هذه الآية تفسيرًا بعيدًا، وتحميلاً للمعنى ما لا يحتمل، حيث قال: «إنَّ المنفي بـ«غير» هنا: «الرُّؤية»، لا «العمد»، وعليه تكون «السَّموات» مخلوقة ومرفوعة بـ«عمدٍ» لا تُرى، فتأمَّل ذلك، فإنَّه من الأسرار الدَّقيقة في البيان القرآني المعجز».
ثم استطرد الكاتب ليثبت صحَّة دعواه في ذلك، ونؤكِّدُ أنَّ مثل هذه الدَّعوى ليست بجديدة، وما أشار إليه من معنى، قد تطرَّق إليه بعض أهل العلم بـ«التَّفسير»، وهو باب من أبواب تحريف «القرآن» بـ«التَّأويل» كما نبَّهنا عليه غير مرَّة، ولا نعلم كيف جاز لهم أن يصفوا ذلك بـ«الإعجاز»؟! وأين هو؟!
بل إن ما ذهب إليه الكاتب يمكن ردُّه إلى تسرُّعه في الحكم، واتِّباع الظَّنِّ، وعدم التَّمكُّن من علم «العربيَّة» التي هي لغة «القرآن» نفسه، وضحالة اطِّلاعه، ولو انَّه راجع شيئًا ممَّا ذكره أهل العلم في ذلك لما وقع في الوهم والخلط الذي جعل من «الإعجاز» «وهمًا»، ومن «الوهم» «إعجازًا».
أورد «الرَّازيُّ» في تفسيره ما نصُّه: «أما قوله: ترونها، ففيه أقوال:
الأوَّل: أنَّه كلام مستأنف، والمعنى: رفع السَّموات بغير عمد، ثمَّ قال: ترونها، أي: وأنتم ترونها، أي: مرفوعة بلا عماد.
الثَّاني: قال الحسن: في تقرير الآية تقديم وتأخير، تقديره: رفع السموات ترونها بغير عمد». وقد ردَّ «الرَّازيُّ» نفسه هذا القول بـ«أنَّه إذا أمكن حمل الكلام على ظاهره، كان المصير إلى التَّقديم والتأخير غير جائز».
أمَّا القول الثَّالث: «أنَّ قوله: ترونها، صفة لـ«العمد»، والمعنى: بغير عمدٍ مرئيَّة، أي: للسموات عمَدٌ، ولكنَّا لا نراها».
وهذا القول الأخير هو ما أشار إليه الكاتب في مقاله، وهو قول «ابن عبَّاس»، و«مجاهد»، و«قتادة» كما أشار إليه «الطَّبريّ»، و«القرطبيّ»، و«أبو حيَّان»، و«ابن كثير» وغيرهم.
ولدراسة هذه الأقوال باعتماد منهج «تفسير القرآن بالقرآن» نجد أنَّ ثمَّة قولا واحدًا هو الصَّحيح، وهو ما يتناسب مع السِّياق الذي وردت فيه «الآية»، ولا يخلو من «الإعجاز» الذي تدلُّ عليه في معناها، إذ إنَّ المراد الدَّلالة على عظمة الخالق في خلْق «السَّموات» مرفوعة، من دون «عمَدٍ» لا مرئيَّة، ولا غير مرئيَّة، إذ هي معدومة، ولا أصل لها، وهو ما نبَّه عليه أهل «التَّفسير»، على نحو ما فعل «الرَّازيُّ» في ردِّه للوجه الأخير الذي يذهب إلى القول بوجود «عمد» لكنَّها غير مرئيَّة لنا، فقال: «وهذا التَّأويل في غاية السُّقوط؛ لأنَّه تعالى إنَّما ذكر هذا الكلام ليكون حجَّة على وجود الإله القادر، ولو كان المراد ما ذكروه لم ثبتت الحجَّة، لأنَّه يقال: إن السموات لما كانت مستقرة على جبل قاف فأي دلالة لثبوتها على وجود الإله؟!». علمًا أنَّ «الرَّازي» بيَّن أنَّ هذا الوجه وإن كان صحيحًا «فهي قدرة الله وإرادته».
وقد قطع «الطَّبريُّ» بعدم وجود «العمد» فيما يظهر من كلامه، حيث فقال: «وأولى الأقوال في ذلك بالصِّحَّة أن يقال كما قال الله تعالى: الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها، فهي مرفوعة بغير عمدٍ نراها، كما قال ربُّنا جلَّ ثناؤه، ولا خبر بغير ذلك، ولا حجَّة يجب التَّسليم لها بقول سواه».
وأكَّد «البغويّ» صحَّة نفي وجود العمد فقال: «ومعناه نفي العمد أصلا، وهو الأصح، يعني: ليس لها من دونها دعامة تدعمها ولا فوقها علاقة تمسكها».
وقال «ابن كثير»: «فعلى هذا يكون قوله: «ترونها» تأكيدًا لنفي ذلك، أي: هي مرفوعة بغير عمد، كما ترونها كذلك، وهذا هو الأكمل في القدرة».
بل إنَّ «الجمهور» من «المفسِّرين» كما يشير إليه «أبو حيَّان» مجمعون على «أنَّ «السَّموات» لا «عمدَ» لها البتَّة، ولو كانت على عمد لاحتاجت تلك العمد، إلى عمد، وتسلسل الأمر».
وقال «ابن عاشور»: «ترونها في موضع الحال، أي: لا شبهة في كونها بغير عمد»، وقد بيَّن سبحانه وتعالى ذلك في موضع آخر في قول تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}الحج65. والله تعالى أجلُّ وأعلم.