خضوع التخطيط الحركي للحقيقة التربوية

خضوع التخطيط الحركي للحقيقة التربوية

أ. محمد الراشد

إن هذا التحليل لظاهرة التربية مفيد جدًا للعاملين في الحركة الإسلامية، ذلك أنه يمكننا بواسطته تفسير كل المشاكل التي نلاقيها في العمل الدعوي ويتيح لنا التعرف على أصولها، ووضع الحلول لها.

ويكفي هنا أن نقرر وجوب التربية المرحلية في الخطة الدعوية استمدادا من هذه الحقيقة وتبعًا للتربيات المضادة التي تجابه الإسلام اليوم، وإذا جمدت الخطة على الأصول التي وضعها الرعيل الأول من الدعاة فإنه سيفوتها خير كثير، وتهدر جهود كثيرة.

ومن هذه الحقائق أيضًا أن نستمد وجوب اعتماد الحركة في عملها على جهاز متكامل الاختصاصات يمهر في وضع (النثر البليغ) و(الشعر الفصيح) و(علم التاريخ) و(أسلوب الاستدلال العلمي) في خدمة عقيدة التوحيد وأحكام الإسلام، ومخطئ من يرى غير ذلك، ويظن أن البعد عن ذلك من سمت البساطة الإسلامية، وأثر الإعجاز القرآني البلاغي يفضحه.

وظاهرة اختلاط التربيات تلح على الحركة أيضًا أن تصنع مجتمعًا خاصًا للجدد والناشئة يستهلك أوقاتهم كلها ويضمن ابتعادهم عن التلبس بتأثير تربوي جاهلي.

وعمومًا فإن الانتهاء من هذه التقريرات والتحليلات يتيح رؤية واضحة جدًا لما يترتب عليها من وجوب التفنن في أساليبنا التربوية والإعلامية عبر استعمال المعطيات العصرية في استثمار ظاهرة تأثر النفس الإنسانية بالمسموع والمنظور، ولم يعد طبع الكتب كافيًا، ولا إلقاء شعر في المناسبات.

فما ذكرناه من ابتكار التمثيليات المسرحية كمنظر تربوي مؤثر ينبغي أن نفكر اليوم تفكيرًا جديًا في كيفية تطويره إلى إنتاج أفلام سينمائية جادة،  ومسلسلات يمكن أن تعرض في التلفزيون، فيها إبراز لمعاني الإيمان ومقاومة الاستعمار والثورات الإسلامية، وتصوير أشواق الأحرار، وقبائح الظلم والفساد، حتى إذا رفضت بعض محطات التلفزيون إذاعتها: أذعناها بوسائلنا الخاصة بين جمهورنا، ومثل هذا العمل قد يحتاج إلى تعاون بين الأقطار ربما.

ونجاح الاستعمال الإسلامي لمعطيات الإنترنت، والإقبال الذي قوبلت به بعض المواقع: يحتم إتمام الشوط والتوغل إلى أبعد والتوسع الكمي والنوعي معًا، بحيث نمارس عملاً عريضًا عبر التنسيق بين المواقع العديدة يكون فيه تعويض عن الإعلام التلفزيوني والصحفي الذي تفتقده الدعوة إلا قليلاً، والمفروض أن تؤخذ هذه الفرصة مأخذ الجد، لما سيكون منها من انعكاسات إيجابية على العملية التربوية الداخلية داخل صف الدعوة تعادل التأثيرات الخارجية على جمهورنا، والموقع الناجح يحتاج إلى محاضرات، وتقارير، وتحليلات، ومقابلات مع قادة الفكر والدعوة، وتصوير ما في الساحات الساخنة، وترويج خبر النشاطات البعيدة المهمة، مع نقد للكتب الجديدة والمقابلات الفكرية وإظهار لزعمائها وقاداتها وقدواتنا.

ومن الممكن إنشاء (بنك الكمبيوتر الدعوي) في كل قطر لتسهيل بيع أجهزة الكمبيوتر للدعاة بثمن الكلفة وبأقساط طويلة، من أجل توسيع دائرة الانتفاع من عطاء مواقع الإنترنت الدعوية وإتاحة فرصة المشاهدة الجماعية وفي ذلك تفصيل يؤخذ مشافهة لا تحيط به الكتابة.

ويتفرع عن مثل هذه إشاعة الكتاب الإسلامي والمجلات بالأقراص المدمجة، وكذا الأفلام والتمثيليات، من أجل تحقيق انتشار أوسع.

ومن أهم ذلك عندي: استثمار المخزون الفكري والوعظي العظيم الحجم الكامن ضمن ما يقدر بخمسين ألف شريط صوتي ومرئي على الأقل سجلت فيها خطب ومحاضرات وندوات ثقات الدعاة والمفكرين والقادة والوعاظ وخطباء الجمعة خلال السنوات العشرين الماضية، فهذا الكم الهائل لا ينبغي أن يهمل، وإنما يجب أن تقوم في كل قطر لجنة لها علاقة باللجنة التربوية، تجرد هذا المقدار الكبير من الأشرطة، وتنتقي منها أحسنه وأجوده وأفصحه وأكثره صوابًا وفائدة وأثرًا تربويًا، بحيث تهمل من كل عشرة تسعة وتأخذ شريطًا واحدًا، فستكون الحصيلة خمسة آلاف شريط جيد يمكن أن نجعلها وسيلة تربوية أساسية في البلد بإشاعتها والتركيز عليها وبيعها بثمن التكلفة، ثم ننتقي عشر العشر، ونركز على خمسمائة شريط نوزعها مجانًا بأعداد كبيرة على الناس، وبخاصة من سيتيح إسماعها إلى غيره، مثل أصحاب المقاهي، وسائقي التكاسي والحافلات، وبذلك يمكن تحقيق توعية شعبية واسعة النطاق هي أشبه بثورة فكرية من دون أن نحتاج إلى جهد موضوعي؛ لأن الكلام جاهز مسجل، لكنه منسي مهجور، وستكون التأثيرات التربوية من هذا العمل عظيمة، وتحقق نتيجة حاسمة لصالحنا، ولكنّا قوم لا نتفنن، ولا نستعمل المتاح، وتسيطر علينا بقية نمطية مضيعة للفرص، وما زال الاستدراك مفتوح الباب، وأولى من ينفذ ذلك: اللجان التربوية.

وقريب من هذا العمل: انتقاء أجود الفقرات والجمل والعناوين والشعارات التي أوردتها الصحافة الإسلامية، وحشدها في كراسات صغيرة توزع بين الناس، على نطاق واسع، فهذا العمل لا يحتاج جهدًا موضعيًا ؛ وإنما هو إحياء لما أوردته الصحافة الدعوية خلال السنوات العشرين الماضية عن طريق الاختصار والانتقاء وجمع الشيء إلى مثيله، ففي مجلات: الدعوة المجتمع الإصلاح الأمان وغيرها كميات هائلة من الكلام المفيد الذي يمكن أن يحدث ثورة أخرى في الوعي السياسي بخاصة وفي الفكر الإسلامي بعامة، وقد نسيها الجيل الجديد الصاعد، واستخراج مائة رسالة منها على الأقل إلى ثلاثمائة ذات ثلاثين صفحة سهلة القراءة، وتوزيعها على مدى شعبي واسع بأقل من ثمن الكلفة، بأقل من ربع دولار، كفيل بأن يحقق نقلة عاطفية وعقلية معًا.

وما يماثل هذه الأعمال: عملية واسعة لتيسير ( الكتاب الإسلامي الشعبي ) الزهيد الثمن، وهذه قضية لا يعلم خبرها أكثر الناس، ولكني أعلمها جيدًا لخبرتي العملية في النشر، فإن أكثر الناشرين اليوم (ينفخون) الكتاب عن عَمْد لجعل ثمنه عاليًا وجني أرباح أكبر، بتكبير الحرف، وتوسيع الهامش الأبيض في الصفحة، وتوسعة الفراغ بين الفقرات، والمباعدة بين سطر وسطر، والقارئ لا يحس بذلك، بينما يمكن تصغير الحرف وإطالة السطر على حساب الهامش الأبيض في الصفحة وبعض ترتيبات أخرى ليضغط الكتاب إلى ربع حجمه الحالي، وبذلك يتوفر ثمن الورق، وثمن عملية الطبع، وتقل تكالف التعبئة، والنقل والخزن وأشياء أخرى، ويمكن أن يباع الكتاب الذي ثمنه عشرة دولارات اليوم بدولارين فقط، وبذلك يكون متاحًا للشباب الإسلامي في البلاد الفقيرة شراء الكتب، وتتضاعف الصحوة الإسلامية وآثار العلم الشرعي، وتحدث من الأعمال الأربعة: الإنترنت، والأشرطة المنتقاة، والاقتباسات من الصحافة، والكتاب الشعبي الإسلامي: نقلة استراتيجية واسعة المدى في جوانب الفكر والعلم الشرعي والوعي العام، ولا يصح أن ننتظر من دور النشر الخاصة تنفيذ عملية الكتاب الشعبي، ولكن إنما يكون ذلك عبر إنشاء دار نشر خيرية يتداعى لها بعض الأغنياء وتدعمها الجمعيات، ومن سار على الدرب وصل، والمتشائم المستصعب لن يبرح مكانه، ويظل يشتكي ويتهم ويتواكل ويحالف الإحباط، وهذه الخطط تحتاج إلى همم عالية وأصحاب تجرد وعزائم واستبشار.

ويمكن تكميل كل هذا التفنن في استعمال المنظور والمسموع بخطة تربوية خاصة لاصطناع شعراء وقصاص، عبر نادي أدبي إسلامي يرعى القابليات الصاعدة ويداريها ويعلمها اللغة والأدب والبلاغة، ويستورد لها أديبًا أو شاعرًا مسلمًا كل موسم ليشافهوه ويقتبسوا من هديه البلاغي، فيقوم في كل قطر مثل هذا النادي الذي يضم بين العشرين إلى الخمسين من الشباب الذكي الولع بالأدب، ثم يكون تعاون بين نوادي الأقطار في إصدار مجلة جامعة تنشر إنتاجهم وتروجه، وبذلك يمكن أن نعمم تيارًا أدبيًا إيمانيًا يواكب النقلة الاستراتيجية الفكرية الإعلامية ويتكامل معها.

وهذه كلها تمثيلات لما يمكن؛ وإلا فإن الإبداع كفيل بتوسيع هذا التفنن في استثمار ظاهرة تأثير النفس بالمسموع والمنظور.

======

من كتاب منهجية التربية الدعوية/نقلا عن مجلة المنار