القدس بين مكر الأعداء وتفريط الأبناء
القدس بين مكر الأعداء وتفريط الأبناء
د.عدنان علي رضا النحوي
سقطت " مالقا " سنة ( 1515م) بيد البرتغاليين ، فأقامت روما قداس شكر. وذكر أحدهم في خطبته أمام ليو العاشر : " إنَّ هذه المعركة ستسهل استعادة القدس " . إذن إلى هناك ! إلى فلسطين ! إلى القدس ! تتجه أنظار أعداء الله حيثما كانت المعركة ! وتظل جبهة المشركين واحدة أمام هذا الهدف مهما تنافسوا الدنيا وتنازعوها . فبالرغم من الصراع الشديد بين هؤلاء كلهم على ثروات العالم الإسلامي ، إلا أنهم كلهم ينظرون إلى فلسطين ، باب الشرق ومفتاحه ، باب العالم الإسلامي وقلبه .
لقد كان أول تنازل شهدته الأمة هو تنازل فريق واسع عن التصور الإيماني للقدس ، حين لم تعد فلسطين مطلباً إسلامياً ولا قضية إسلامية . وارتبطت القضية بالعروبة شعاراً احتل قطاعاً واسعاً من الأمة منفرداً حيناً ، ومختلطاً مع الإسلام حيناً آخر . ثمَّ كان التنازل الآخر حين أصبح الشعار أنَّ فلسطين جزء من سوريا ، وعلى ذلك أصبحت المطالبة فيها في تنازل واضح وهزيمة مكشوفة . وامتدَّ التنازل حين أصبحنا ننادي بأنَّ فلسطين كلها بلد واحد مستقل ، وغابت روابط الإسلام والعروبة وروابط بلاد الشام ، وامتدَّ التنازل حتى صرنا نطالب بالضفة الغربية وقطاع غزة ، وتضيع القدس وسط هذه المطالبات ، وتشتد المؤامرات في محاولة مستمرة وممتدة للقضاء على المسجد الأقصى .
لقد توغل الهالك " شارون " إلى المسجد الأقصى في رجب من عام 1421ه ، وبعد سبعة أعوام من هذه الحادثة ، تتكرر هذه الأيام وفي شهر الله المحرم من عام 1428ه المشاهد نفسها والصورة نفسها ، وسط صراع فلسطيني فلسطيني ، ليعيد التاريخ لنا أحداثه وذكراه الأليمة حين سقط الكثيرون من أبناء فلسطين في محاولة منهم لصد العدوان على المسجد الأقصى آنذاك ، وحفظ التاريخ لنا صورة الطفل محمد الدرة وهو يتلقى رصاص العدو مع أبيه ليسقط ميتاً ويلحق بركب أولئك الذين سقطوا دفاعاً عن الإسلام وعن القدس وفلسطين كلها ! واليوم ووسط هذه المحاولات الصهيونية يسقط الأطفال والشيوخ والنساء برصاص فلسطيني لا برصاص العدو فحسب ! فَتُراق دماء المسلمين من أجل السلطة والمصالح الحزبية، ويغفو هؤلاء عن القضية الأساسية ، قضية الأمة المسلمة كلها ، الأقصى الشريف !
فمنذ الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة في 5 من ربيع الآخر 1409 الموافق 15 تشرين الثاني 1988م ، والصراع يدور كله حول قضيَّة الدولة ، فشغل المسلمون به ، ونسوا الهدف الحق الأكبر تحرير فلسطين كلها ، والحفاظ على المسجد الأقصى من عدوان اليهود وأشياعهم . ودبَّ الخصام بين الفلسطينيين أنفسهم على هذه الدولة ومراكزها ومجالسها . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى تراخت عزائم العرب والمسلمين عن الوفاء بمسؤولياتهم الشرعية ، وقد رضي الفلسطينيون أن يتولوا زمام القضية بأنفسهم دون أن تتوافر الإمكانات الشرعية العادلة لديهم .
ومن هذا المنطلق لا نعتبر اختلاف الرأي سبب شقاق ومصدر تدابر ، ولكننا نعتبر وحدة الصف والتقاء العزائم لا يقوم إلا بالآراء الصادقة والشورى العاملة ، في جو مشرق بالإيمان والعلم بالكتاب والسنة وحرية الرأي التي تقوم على ذلك كله وعلى صدق الإيمان والتوحيد ، وسلامة الحجَّة .
إن الحقيقة الأولى التي يجب بيانها وإقراراها للناس جميعا هي أن فلسطين أرض إسلامية منذ أقدم العصور حتى يومنا هذا وإلى أن تقوم الساعة ، ولا ينفي هذه الحقيقة عدوان طارئ يظهر بين حين وآخر في تاريخها . ولكن هذه الحقيقة هي أساس كل رأي وموقف واتجاه ومصدر كل قوة لصد أي عدوان والصمود أمامه ، ولقد جعل الله سبحانه وتعالى هذه الأرض أرضاً للإسلام ، وملكاً للمسلمين في آيات كريمة ، وأحاديث شريفة ، ونبوات تتوالى كان محمد r خاتمها وسيدها.
لذلك لا يقرر مصير أرض فلسطين ولا حقوق أي شعب فيها إلا الإسلام فلا حقَّ لأحد من الناس ، ولاحقَّ للهيئات الدولية ولاحقَّ لإنسان يحوطه النفر الكثير والزخرف والغرور أن يدعى حق التصرف بها ، أو التنازل عن شبر منها، أو الإقرار بظلم وعدوان .
فلا الديمقراطية التي أخرجت المسلمين من أرضهم في فلسطين ، والتي ارتكبت أبشع جرائم الأرض بحق الإنسان ، ولا الديكتاتورية التي سحقت الأمم والشعوب ، وحملت مع الديمقراطية راية العدوان ، فألهبتا الأرض ناراً ، وفجرتاها براكين ، ونشرتا الفزع والقلق ، هؤلاء كلهم لاحق لهم أن يقرروا مصير أرض حكم الله فيها وقرر أمرها ، ولا حقَّ لهؤلاء أن يدعوا أنهم ( حماة السلام ) ، فنخضع نحن المسلمين لمعاني السلام المزيف الباطل الذي يَدَّعونه ، فنساوم على حقوق الإسلام ، ونفرط في أرض المسلمين ، ولا ننسى كلمة السلطان عبد الحميد الذي ضحَّى بملكه ليوفي بالأمانة وهو يقول للمساومين ما معناه :
( هذه أرض المسلمين فلا أملك أن أفرط بشيء منها )
ولا ننسى فتوى علماء المسلمين الذين حرَّموا التفريط بأي شبرٍ من أرض الإسلام ، ولا فتوى بعض علماء المسلمين إلى بعض زعماء العرب يقولون : ( إن جعل ولاية لليهود في بلاد الإسلام أمر باطل ومحرم ) ، ولا ننسى أن تاريخ الأمة كلها أعلن هذا الرأي وقدَّم من أجله الملايين من المسلمين يسقطون في ميادين الجهاد دفاعا عن حق الإسلام في تاريخ طويل ، فالاعتراف بكيان اليهود جريمة وعمل حرام ومن أكبر الكبائر .
إن تاريخ قضية فلسطين في العصر الحديث يكشف بصورة جلية التقاء مصالح الدول الغربية والشرقية واليهود على إقامة كيان لليهود في أرض فلسطين، ليكون هذا الكيان اليهودي جزءاً من خطة أوسع في غارة واسعة ، وهدفاً واحداً يمهِّد لأهداف أكبر. ويكشف تاريخ القضية كذلك أَنَّ كلَّ تنازل في قضية بدت صغيرة في حينها ، كان قاعدة لتنازل أكبر ولعدوان عليها أوسع . ولقد ظل اليهود ثابتين على دعواهم الباطلة لا يتزحزحون عنها إلا إلى طلب المزيد ، وظللنا نحن نبدِّل في شعاراتنا ومطالبنا في تراجع مدمر ومهين .
ويكشف تاريخ القضية كذلك أنَّ قوى الأعداء تتحرك في مخطط مدروس واسع وإن مواقفنا في كثير من الأحيان مرتجلة ، وفى أحيان أخرى تتفلت من عقيدة وتترك ركائز الأمة ، وأننا كنا نزين الهزيمة البشعة للناس حتى نوهمهم بأنها نصر، وحتى أخذت الأحداث تتوالى ، وكل حدث يمهد للحدث الذي يليه ، ثم تجتمع الأحداث كلها لتغرس روح الهزيمة ونفسية الاستسلام وتمتدَّ في الأمة كلها، وفى الفلسطينيين خاصة حياة المعاناة والقلق .
ولا ننكر أن هذه المعاناة الممتدة والمخطط لها ، بجميع ظروفها وتاريخها قد توجد لدى فريق من الناس رؤية تنبع من ضغط المصالح المادية والضعف البشري، والرغبة في النجاة من المعاناة وشقائها . ولكن هذه الرؤية و الأماني لن تنقل الإنسان الفلسطيني خاصة والمسلم عامة من معاناته إلا إلى معاناة أشد ، ولن ترفع الخطر إلا ليمتد إلى عمق أبعد ورقعة أوسع وشر أكبر ، حتى يعم البلاء ويطغى المصاب ، وما عرف تاريخ الإنسان في الأرض أن الهوان والاستسلام يرفع ذلاً أو يزيح شراً أو يمسح ألماً .
وأنَّ الهزيمة العسكرية مهما بلغت والمصائب التي جرَّتها وغصص الذلِّ التي بعثتها ، لا تنهض لتكون مسوِّغاً يجيز الباطل ، ولا الأعذار تجيز التنازل عن حق ، فالأمة التي تريد أن تصدق مع ربها توفي بأمانة الأجيال السابقة ، وترعى حقوق الأجيال المقبلة ، لا تقتل أمجاد دين وتاريخ ولا تسحق آمال غد ومستقبل ، ولكنها تمضى في جهاد طويل مشرق على درب الجنة .
إنَّ زخرف الشعارات والاصطلاحات من أمثال : ( وثيقة الاستقلال ) ، (والحكومة المستقلة ) ، ( ووحدة الصف ) ، ( ومن أجل السلام ) ، إنَّ هذا كله لا يخفي هول الاعتراف بقرارات هيئة الأمم المتحدة ( 181-2 ) في 29/11/1947، ( 242 ) في 22/11/1967 ، ( 338 ) في تشرين الأول 1973 ، وأمثالها من قرارات الظلم والعدوان .
إنَّ الاعتراف بكيان اليهود عمل حرام ، يمسح ما بنته آلاف السنين ، ويمسح جميع المواثيق التي وضعتها الأمة كلها في تاريخها الطويل ، ويمسح ميثاق منظمة التحرير نفسها مسحاً يزيل حقها في الوجود ، ويزيل حق كل ما يترتب عليها أو ينشأ عنها وعن اعترافها ، إنها جرأة على الله ورسوله ، وجرأة على المسلمين ، وجرأة على الدماء المؤمنة التي ماجت بحراً في تاريخ طويل .
وأشد من ذلك أنَّ هذا الاعتراف يفتح ديار المسلمين كلها لغارة وحشية مقبلة، وخطر جنوني داهم ، يتفجّر من هذا الكيان الباطل، الكيان الذي يتجمع ليكون بؤرة فساد، ومصدر عدوان وحشي . ولقد عرفنا طبيعة اليهود من تاريخ يمتد آلاف السنين طبيعة مكر وتآمر وغدر، طبيعة فساد في الأرض كلها وإفساد . ولقد فصل القرآن الكريم في وصف هذه الطبيعة تفصيلا لا يترك عذراً لأحد .
وإنَّ رفض الباطل وما ينشأ عنه من حلول لا يفرض وجود حل بديل مباشر ، حتى يصح الرفض ، فالباطل يرفض لأنه باطل ، ومع هذا فلو سأل سائل ما هو الحل البديل ، فإن الحل البديل متوافر ، وقد وهب الله لهذه الأمة المسلمة كل أسباب المنعة والقوة المادية في الأرض : عدد هائل من البشر ، ثروة هائلة في باطن الأرض وظاهرها ، أرض ممتدة ، وعقيدة ودين . ومن هذه الطاقات العظيمة ينطلق الحل البديل يدفعه إيمان وعقيدة ورجال صادقون ، وعزائم مؤمنة تنهض كلها إليه .
ويبدأ الحل البديل بمسئولية كل مؤمن إلى الوفاء بأمانته وعهده مع الله ، حتى تخوض الأمة المسلمة ميدان الجهاد صادقة مع ربها ، فتصب كل طاقاتها في ميدان الحق ، ليكون الميدان نفسه مصنع الرجال والأبطال ، وإذا قصرت الأمة في واجبها هذا، فلا يسقط الواجب الشرعي عن كل مسلم ، لينهض إلى واجبه قدر وسعه وطاقته .
إنَّ الحلَّ البديل ينطلق من الأمة المسلمة الواحدة والصفّ الواحد ، التي تلتقي على كتاب الله وسنة رسوله r إيماناً وعلماً وعملاً . الحل الذي قتلناه بتهاوننا وتمزّقنا عصبيّات وأحزاباً وأهواءً ، إنه الحل الذي لم نسعَ له ، ولم نبذلْ له، إنه الحل الذي لا بديل له ، ولا يوجد حلٌّ آخر يقود إلى النصر أبداً إلا الصفّ المؤمن الواحد ، الذي يستحقّ أن يُنْزِل الله نصره عليه . وإن كان هذا الحل غير متوافرٍ الآن ، فلننهض للعمل له ، لأنه لا نصر بغيره أبداً .
إنَّ قضية فلسطين ليست قضية أرض فحسب ، على أهمية الأرض وخطورة منزلتها ، ولا هي قضية شعب محدود على أهمية دور هذا الشعب ، ولا هي قضية وطنية ولا قومية ! إنها قضية الإسلام ، وقضية الأمة المسلمة ، وقضية كل مسلم في الأرض إن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، مهما كان جنسه ولونه ، وأينما كانت أرضه وإقامته . وكل مسلم سيُحاسَب يوم القيامة عن دوره وجهده ، يوم لا يغني مال ولا بنون ، ولا جاه ولا سلطان ، ولا يغني مولى عن مولى شيئاً !
الـقُـدْسُ في خَطَرٍ؟! الآن ؟! واعجباً أَيـن الـمـواعظُ دوّت في مسامِعنا ؟ أَيْـنَ الـقَـوارع هـزّتْ كُلَّ ذي صَممٍ وخُـطّـةُ الـقوِم تَمضي بَيْنَنَا زَمناً ونَـحـنُ نـمـضي على أحْلامِنا وَهَناً مـسـلـسـلٌ ! كمْ نزلْنا فيه مُنْحَدَراً دوَّتْ شِـعـاراتُـنا ! بُحَّتْ حَناجِرُنا ! ضـجّـتْ شِـكـايتُنَا في كُلِّ مُعْتَرَكٍ لـهَـيْـئـةٍ مُـزِّقـتْ في ساحِها أمُمٌ لـقـد ركـنّـا لـكـيْدِ الظالمينَ ولمْ لـم نـشْـكُـ لله ! لم نلجأْ لرحمته * * * الـقـدسُ في خَطَرٍ ؟! ما زال يُذهِلُني الـقـدسُـ يا أُمّتي ليْسَتْ بِمنْعَزَلٍ الـقُـدْسُ يـا أمّـتي موصولةٌ بِعُرا بـالـبيتِ , بالكعبة الغرّاء ! عُروَتُها وبـالـمـديـنـة حَـبْلٌ غير منفَصمٍ عَـهْـداً إلـى أُمَّةِ الإسلام ما صدقت | أيْـنَ السّنُونَ التي مَرّت بها الكُرَبُ أيـن الـنَّذير و أين الآيُ و الكُتُبُ ؟! ولـمْ يُـهَـزَّ لنا عزْمٌ و لا قُضُبُ ؟! تَـطـولُ فـيهِ دَواعي المكْرِ و الرّيَبُ تَـنـازُلاً فـي دُروبِ الـتّيهِ نَضْطَربُ يَـهْوي بنا ! هان فيه العزْم والطّلَبُ جُـنّـتْ عـواطِـفُـنَا! تَعْلو وتلْتَهبُ مَـعَ الـهَـزيـمـة تُطْوَى ثمَّ تَحْتجبُ يا سوءَ ما فَعلوا في الأرض و ارتكبوا نَـزَلْ عـلـى كَـيْدهم نشْقَى و نَنْقَلبُ فـمـا اسـتقام على نهجِ الهدى أرَبُ * * * حـقّـاً ويُـفـزِعُني من أمرِنا عَجَبُ عـن الديار ، ولا الخطْبُ الذي خَطبُوا وبـالـحـبالِ التي يزكو بها النَّسَبُ شُـدَّت بـهـا ، بِـغَنيِّ النّور تأتَشِبُ عَـهْـداً مـع الله حّـقاً ليس ينقَضِبُ أمـانـةَ الـعـهـدِ والحقِّ الذي يَجبُ | ؟!

