أوراق الزمن المجهول 5
أوراق الزمن المجهول
نزار قباني لنجاة الصغيرة:
(إذا تمردت فسأطلبك إلى بيت الطاعة.؟)
( 5 )
شمس الدين العجلاني*
..تدافع العديد من المطربين و الملحنين لكلمات نزار قباني لأنهم يعلمون مقدار صدقيتها في مداعبة مشاعر الجماهير فكان ان غنى له كل من أم كلثوم – نجاة الصغيرة - فيروز- فايزة أحمد - عبد الحليم حافظ -خالد الشيخ - ماجدة الرومي - كاظم الساهر –لطيفة التونسية - أصالة نصري -ألهام مدفعي - هاني شاكر- عاصي الحلاني و لنزار قباني حكاية مع المطربة نجاة الصغيرة وتقول الحكاية :
نجاة الصغيرة :
نجاة الصغيرة هي من مواليد 1181936 في القاهرة ، واسمها الحقيقي "نجاة محمد حسنى البابا" .. والدها سوري ويعمل خطاطا .. وأختها غير الشقيقة الفنانة سعاد حسنى، وأخيها الفنان "عز الدين حسنى" عازف الكمان الذي كان يعمل مع " أم كلثوم ، وملحناً في الإذاعة المصرية، وله العديد من الألحان.
بدأت الفنانة الكبيرة حياتها الفنية وهى طفلة في الخامسة من عمرها وكان ذلك في إحدى حفلات نادي الموسيقى الشرقي وعندما قامت للغناء وقفت الطفلة نجاة على كرسي من الخيزران وأمسكت منديلا وراحت تحركه بحركة عصبية كما تفعل أم كلثوم وضحك على حركاتها الحضور ... ثم بدأ ت الفرقة تعزف وراحت الطفلة تتمايل مع نغمات الموسيقى ثم بدأت في الغناء ، وهنا استدار الجمهور وتوقف صياح المتفرجين وبطل همسهم من شدة الإعجاب بغناء الطفلة. وعندما انتهت الأغنية فقد الجمهور صوابه وراح يصيح ويهتف مطالبا بإعادة الأغنية من جديد ووقفت الطفلة في دهشة وفي عجب وراحت تتساءل عن تصفيق الجماهير فلما قيل لها يصفقون لك راحت تصفق مع المصفقين ... و كتب الصحفي فكرى أباظة عنها يقول ( إنها الصغيرة التي تحتاج إلى رعاية حتى يشتد عودها ،وفى حاجة إلى عناية حتى تكبر و هى محافظة لموهبتها ، مبقية على نضارتها) فسميت منذ ذلك الحين بنجاة الصغيرة .
عندما بلغت نجاة سن التاسعة عشر كلف والدها شقيقها الأكبر " عز الدين " ليدربها علي حفظ أغاني السيدة " أم كلثوم " لتقوم بأدائها فيما بعد في حفلات الفرقة ، وتصل نجاة لدرجة الإتقان حتى أمكنها تقليد " أم كلثوم " ، وتبدأ مرحلة جديدة في مشوارها الفني ، ويقدم لها "مأمون الشناوي" أغنية " أوصفولي الحب " من تلحين " محمود الشريف " ، وفي ذلك الوقت أحاطت " نجاة " نفسها بالمثقفين أمثال "محمد التابعي " ، و"مأمون الشناوي " ، و " كامل الشناوي " ، و " فكري أباظة " فكونت نجاة بذلك هيئة مستشارين من أصدقاء ينصحونها ، وينيرون الطريق أمام هذه الموهبة العبقرية هذا إلي جانب دقتها الشديدة جدا في العمل ، وحرصها الشديد الأقرب إلي الوسوسة مما كان له دورا كبيرا في نجاحها المستمر ..
غنت للعديد من الملحنين الكبار ، ففي بداية مشوارها الفني غنت للملحن الكبير " زكريا أحمد " ، و " أحمد صدقي " ، و " محمود الشريف " ، و أخيها " عز الدين حسني " ، و " رؤوف ذهني " وغيرهم ، ثم التقت بالموسيقار الراحل " محمد عبد الوهاب " في لحن " كل دا كان ليه " لتتوالي بعدها أعمالها الفنية ، وغنت للملحنين: سيد مكاوي ، وحلمي بكر ، و بليغ حمدي ، و كمال الطويل وهو أفضل الموسيقيين الذين استوعبوا صوتها ، وكذلك الموسيقار / محمد الموجي ، وهاني شنوده ..
نجاة ونزار قبانى:
يقول نزار قبانى عن نجاة :( بالنسبة لي، يعبر صوت نجاة عن أعماق الأنثى الضعيفة الخجولة، التي تخاف من البوح عما في عالمها الذاتي من أحاسيس. واعتقد انها أفضل من غنى قصائدي وعبر عنها.)
غنت نجاة لنزار قبانى ( أيظن ، ماذا أقول له ، إلى رجل .. أسألك الرحيلا.) ولعل أجمل القصائد المغناة والتي تعبر عن مكنونات المرأة قصيدة "أيظن" حيث استطاع نزار قباني من خلالها ان يقدم صرخة احتجاج باسم كرامة المرأة العاشقة وفيها يقول على لسانها ( لسان المرأة ) :
أيظنّ أني لعبة بيديه؟ أنا لا أفكّر في الرجوع إليه
اليوم عاد كأن شيئاً لم يكن وبراءة الأطفال في عينيه
ليقول لي إني رفيقة دربه وبأنني الحب الوحيد لديه
وخرجت الأغنية للحياة في أوائل الستينات من القرن الماضي و حققت نجاحا كبير و ظلت لسنوات عده تحتل المرتبة الأولى في الغناء العربي.
كثر الحديث حول هذه الأغنية و قيل الكثير عنها حتى قالت بعض الصحف حينها أن نجاة الصغيرة ، قدمت نزار قباني للنجومية والشهرة بغنائها له.؟ و لكن نجاة الصغير تسارع للقول في إحدى اللقاءات الصحفية : ( لا ..لا أستطيع أن أقول هذا، فنزار كان شاعراً كبيراً ورحل عن هذه الدنيا وهو كذلك، وهو يكتب القصيدة المغناة أي أن شعره من النوع المغني، وكنت فخورة بالتعامل معه كشاعر، وأود أن أشير إلى أنه ربطتنا علاقات طيبة مع عائلته في تلك الفترة التي التقينا فيها في عالم الفن ) و قال نزار إنه عندما كتب هذه القصيدة دار بخلده أن يهديها إلى نجاة لتغنيها، وأن الاسم الذي اختاره لها في أول الأمر كان (على صدري) وتغير إلى (العودة) و استقر في نهاية المطاف على الاسم الثالث والأخير (أيظن) و أضاف نزار أن الأغنية أعجبته لحنا وأداء، وأنها جاءت تعبيرا صادقا عن المعاني التي أرادها.
رسالة من نزار :
و تروي نجاة الصغيرة علاقتها بنزار قباني و قصيدة ايظن فتقول : ( تلقيت يوماً رسالة من الشاعر الكبير نزار قباني، وجدت في ظرف الرسالة ورقة جميلة مكتوب عليها قصيدة شعرية باللغة العربية الفصحى مطلعها: أيظن، أحسست بعد قراءة هذه الشعر، أن هناك كنزاً بين كلمات هذه القصيدة، ولكن العثور عليه كان يتطلب صعوبة كبيرة، ولكني حقيقة لم أتلق القصيدة بارتياح كبير، لأن مفرداتها صعبة ولم يسبق لي أن غنيت بتلك اللغة، فقدمتها للموسيقار كمال الطويل أسأله عنها وعن إمكانية تلحينها، فأجاب مستغرباً: إيه ده.. ومثله فعل الملحن محمد الموجي.؟ )
وتضيف نجاة : ( وبالتالي شعرت بأن الموضوع لن يتم، وقررت أن أرسل القصيدة للنشر في إحدى الصحف المصرية، تكريماً لصاحبها الذي أرسلها لي وخصني بها، وبعد نشرها فوجئت بعبد الوهاب يتصل بي ويقرأ لي القصيدة من الصحيفة، وليسألني هل هذه القصيدة لك؟ فقلت له نعم، وكان يريد الاستفسار ما إذا كانت القصيدة قد مرت علي أو قرأتها، وسردت له ما جرى، فطلب مني أن أراه كي أستمع إلى لحن الأغنية، كانت حينها الساعة الحادية عشرة صباحاً، وأكد علي أن ألتقية بعد ساعتين، وفعلاً، حينما ذهبت إليه كان اللحن جاهزاً، وغنيت أيظن للشاعر الكبير نزار قباني وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب.. وخرجت الأغنية للحياة لتحقق حضوراً ساحراً في الأغنية العربية".
إذا تمردت فسأطلبك إلى بيت الطاعة :
حين غنت نجاة الصغيرة قصيدة ( أيظن ) كان نزار قباني دبلوماسيا في سفاره الجمهورية العربية المتحده في بكين ، و انهالت عليه الرسائل و الاتصالات الهاتفية مهنئه بهذه الأغنية الرائعة ، و سعى نزار في البحث من خلال المذياع ليسمع قصيدته ( أيظن ) تغنيها نجاة الصغيرة ، فلم يفلح .؟ أرسل الأخبار إلى نجاه أن ترسل له الأغنية مسجله على شريط تسجيل فلم يلقى إذن صاغية ، فانزعج لعدم سماعه القصيدة بصوت المطربة نجاه ، و لعدم إرسالها له الأغنية مسجله فكتب إلى نجاه الصغيرة معاتبا يقول : ( أيتها الصديقة الغالية .. لا أزال في آخر الدنيا .. انتظر الشريط الذي يحمل أغنية ( أيظن ) .. تعيش في الصحف .. في السهرات و على شفاه الأدباء ، و في كل زاوية من الأرض العربية .. و أبقى أنا محروما من الأحرف التي أكلت أعصابي .. يالك من أم قاسية يا نجاة .. أريت ( المولود ) الجميل لكل إنسان و تغنيت بجماله في كل مكان .. و تركت أباة يشرب الشاي في بكين ، و يحلم بطفل ازرق العينين يعيش مع امة في القاهرة .. لا تضحكين يا نجاة إذا طلبت ممارسة أبوتي ، فانا لا يمكن أن اقنع بتلقي رسائل التهنئة ( بالمولود ) دون أن أراه .. فانهضي حالا لدى وصول رسالتي ، و ضعي ( المولود ) في طرد بريد صغير .. و ابعثي به إلى عنواني .. إذا فعلت هذا كنت أما عن حق و حقيقة ، أما إذا تمردت فسأطلبك إلى بيت الطاعة رغم معرفتي بأنك تكرهينه )
وصول المولود :
وصلت رسالة نزار إلى نجاة الصغيرة و فعلا أرسلت الأغنية فورا إلى سفارة الجمهورية العربية المتحدة في بكين و كان ذلك بعد ثلاث أشهر من إذاعتها بصوت القاهرة، و صل شريط التسجيل إلى السفارة ، في بكين ،و أقامت الأسرة الدبلوماسية في السفارة حفلا صغيرا في لسماع الأغنية ، وكانت مفاجأة أذهلت الجميع،حين وضع الشريط في جهاز التسجيل و صدرت من الجهاز أصوات غريبة لا علاقة لها بنزار أو نجاه .. و تبين بعد ذلك ان نظام التسجيل يختلف بسرعته عن جهاز التسجيل في السفارة .؟ فما كان من نزار إلا الاتصال بالإذاعة الصينية في بكين و طلب المساعدة في هذه ، فطلبوا منه أن يأتي إليهم ومعه الشريط ، وتمكن حينها من سماع ( أيظن ) على أحد الأجهزة في استوديوهات إذاعة برلين. نزار قباني لم يلتقي نجاه الصغير هالا بعد غنائها ل ( أيظن ) ففي 17 يونيو من1960 م جاء بزيارة إلى القاهرة ، وقابل خلالها نجاة الصغيرة وقال لها: أنه لا يستطيع أن يتصور هذه القصيدة بصوت آخر غير صوتها.
يتبع
* صحفي وكاتب