سنة التدافع وعوامل النصر (12)

سنة التدافع وعوامل النصر (12)

عمر حيمري

ثم إن للحرب ولمقومات النصر شروط من الضروري أن يتربى عليها المجاهد قبل الدخول في أي مواجهة مع العدو ، هذه الشروط منها ، ما هو خاص بالجندي ومنها ما يتعلق بالقائد ومنها ما يرتبط باستراتيجية الحرب والاستعداد لها .

على الجندي المجاهد السمع والطاعة في غير المعصية لله سبحانه وتعالى مع الاعتقاد الراسخ واليقين القاطع ، بأن طاعة قائده هي طاعة لله وأنه مأجور عليها إن شاء الله غير مأزور  كما أنها عبادة قبل كل شيء  ، يتقرب بها إلى ربه ، لقوله تعالى [ من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ] ( سورة النساء آية 80 ) . ومن طاعة القائد المشورة عليه والنصح له بأدب واحترام وتواضع ، نموذج الحباب بن المنذر رضي الله عنه الذي تقدم لقائده رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " يارسول الله أرأيت هذا المنزل ، أنزلكه الله ، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه ؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم { بل هو الحرب والمكيدة } فرد الحباب " يا رسول الله ، فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونغور ما وراءه من القلب ( الآبار ) ثم نبني عليه حوضا ، فنملأه ،ثم نقاتل القوم ، فنشرب ولا يشربون " فقال النبي صلى الله عليه وسلم { لقد أشرت بالرأي } . وكذلك نهج سعد بن معاذ رضي الله عنه  نهج الحباب ، إذ أشار على النبي صلى الله عليه وسلم ببناء مقر للقيادة يكون معلوما للمسلمين ويقوم عليه حراسا خاصين من الشبان الأشداء المخلصين حفاظا على سلامة القائد . هذه الإشارة وهذه النصيحة هي من التربية الراقية التي كان يتربى عليها الصحابي المقاتل . ومن التربية الربانية أيضا تدريب جند الإسلام على الشجاعة والإقدام والثبات بقلب ممتلئ بالإيمان وبأكف ضارعة لله تطلب منه الغوث والنصر ، وشفاه وألسن لا تتوقف عن ذكر الله وتلاوة القرآن عند مواجهة العدو . هذه التربية الربانية تقتضي تحريم الفرار أو التراجع أمام العدو كما تقتضي تحذير مجاهدي الإسلام في أي مكان أو زمان  من تسرب الوهن والضعف إلى نفوسهم ، ونهيهم عن التقهقر أمام العدو  مهما كان عدد جنده ، حتى ولو كان ضعف جند المسلمين أو عشر أمثاله ، قبل أن  يتحقق للمجاهدين  النصر أو الشهادة . لأن هنالك عوامل أخرى غيبية أو نفسية غير الكم والعدد أخفاها الله لعلم عنده ، يجب الإيمان بها وأخذها في الحسبان دون إغفالها ، والعمل بها ، لقوله سبحانه وتعالى :  [ .... فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله  والله مع الصابرين ] ( سورة البقرة آية 249  ) . لآن المسألة ، مسألة كيف ونوعية  وصبر وثقة في الله ، وليست قضية كم وعدد خوار ، مذعور ، خائف  . ولنا في طارق بن زياد نموذج رائع يجسد نظريته  وموقفه من الكيف والكم  ، إذ كان عدد جند طارق  حسب بعض المؤرخين ألفا وسبع مائة 1700  وكان عدوه الملك لذريق في سبعين الفا  ، ومع ذلك لم يول طارق دبره لذريق ، بل أصر على المواجهة رغم قلة عدد جنده ، فحرضهم على مقاتلة العدو ورغبهم في الجهاد ، فقال في خطبة له شهيرة  "" أيها الناس ، أين المفر ؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم ، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر .... ألا وإني صادم إلى طاغيتهم بنفسي ، لا أقصر حتى أخالطه أو أقتل دونه ...."" وأشركهم في حرق سفنهم ، ففعلوا طاعة لقائدهم ولم يتركوا للشيطان ولا للنفس الأمارة بالسوء ولا للمرجفين والجبناء ، فرصة الوسوسة بالفرار بحجة كثرة العدو ، لقد وضعهم القائد ونفسه ، أمام  أحد أمرين إما المواجهة ونتيجتها النصر أو الشهادة ، وإما الفرار والتولي ونتيجته غضب من الله والغرق في البحر ومصير الخلد في  جهنم . وبهذا التحريض العجيب والغريب في نفس الوقت ، والقرار الحكيم الناتج عن عقلية مؤمنة بقضاء الله وقدره ، ومتشبعة بيقين مطلق في وعد الله بنصره لعباده المؤمنين ، تم لطارق وجنده  ما أرادوا . وما أضن أن طارقا وجنده لم يكونوا قد آمنوا بالقوى الغيبية التي يصنع الله بها النصر،  لتمثلهم قوله سبحانه وتعالى  : [ يا أيها النبيء حرض المومنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ] ( سورة الأنفال آية 65 ) . ولامتثلوا لقوله سبحانه وتعالى  : [ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ] ( سورة الأنفال آية 15\16 ) .

إن التولي يوم الزحف محرم قطعا في شرعنا الإسلامي ، وهو من الكبائر بدليل الآية الكريمة السابقة الذكر ، وبدليل  قوله صلى الله عليه وسلم { اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا يا رسول الله ما هن ؟ قال : الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات } ( رواه أبو هريرة – صحيح البخاري رقم 2766) . ولا يجوز إلا إذا كانت من ورائه نية صادقة في مجاهدة العدو وخطة قتالية تربك العدو وتسقطه في فخ ليتم الإجهاز عليه فيما بعد . لقوله صلى الله عليه وسلم  عن بن عمر رضي الله عنه ، قال : { ... فلقينا النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا : يا رسول الله نحن الفرارون قال : بل أنتم الكرارون ، وأنا فئتكم } ( حديث مرفوع ) . ولاعتبار  أن فن القتال ، هو الكر والفر ، والحرب والمكيدة ، والإقدام مع قلة العدد ، دون التراجع ، والتصميم على المقاومة والصبر والثبات عليها مهما كانت التضحيات والخسارة  في العتاد والأرواح ، هو شجاعة يشهد بها العدو قبل الصديق . ولنا في صمود وثبات وتضحيات أهل غزة آيات وعبرة ، وهو ما أرعب العدو  وأصابه بالارتباك وأضعف نفسه وذله وقهره ، وهذا ما أكده  رئيس أركان العدو الصهيوني بيني غانتس ، إذ وصف  مقاتلي حماس أثناء الاعتداء على غزة ، بعد أن رأى منهم ما يسيئه ويكرهه من مقاومة وصبر وثبات وشجاعة وإخلاص لقادتهم وأمتهم ، مع الإصرار على النصر أو الشهادة فقال : " لقد قاتلنا أناسا شجعانا " وأكد ذلك بقوله "  " أن تركض وتضع عبوة ناسفة فوق الدبابة .. هذا تصرف أناس شجعان " ( بتصرف مفكرة الإسلام 14\10\2014 )  . ولكن رئيس أركان العدو لم يذكر في شهادته أن جنوده من فرط جبنهم وخوفهم من لقاء أبطال غزة كانوا يلبسون "" الحفاظات "" ولا يجد في جند الدنيا من يخاف إلى درجة التبول والتبرز على نفسه غير الجندي الإسرائيلي .  

إن الجندي الذي يحمل دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ويدافع عنها لا يمكنه إلا أن يكون على أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم وعلى ما شرعه الله لنبيه  لمحمد صلى الله عليه وسلم . وإلا سيخسر المعركة وينهزم ويضيع مشروعه الدعوي والتحريري ، لأن الجندي الذي لا يمتلك التقوى والعفة والطهارة الروحية ولا يملك القدرة على الصبر والثبات ولا يملك اللسان الذاكر والقلب الخاشع المتضرع لله سبحانه وتعالى ولا يملك صفة التوكل على الله والثقة فيه والتوسل إ ليه  ثم الاعتماد على لطفه وعنايته  والابتعاد كليا عن الغرور والإعجاب بالنفس أو العدد والعدة  و  ينؤو بنفسه عن المعصية  لا يستحق عناية الله ولطفه ولا يجب أن يحدث نفسه بالنصر . لأن هذه  العناصر كلها مجتمعة وغيرها من الأخلاقيات التي يجب أن يتصف بها الجندي الإسلامي ويعمل بها هي العناصر الأساسية  في تحقيق  النصر على العدو وفي استحقاق المدد الغيبي والنصر الإلهي ، وعلى الجندي الإسلامي أن يعلم علم اليقين أن الأمر كله من قبل ومن بعد لله ، وأن العدة المادية  والعتاد الحربي المتطور والأسلحة الفتاكة لا  تكفي و تغنيه  من الله شيئا . وصدق الله العظيم إذ يقول : [ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ] ( سورة آية 20 ) ويقول  في آية أخرى [ وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ] ( سورة آية 19 )    ...... ( يتبع )