شرعية مهندس الري الأول

محمد طعيمة

[email protected]

منذ عشر سنوات، ومع إكتساب الأبناء القدرة على المشي، استعدت طقس "خروجة" شم النسيم.

في الذاكرة ملامح ساحرة لنُزهة تبدأ مع شروق الشمس. أُسر وجماعات من الجنسين تتهادي مرحة على طريق قليوب المحطة - كوم أشفين الذي ينتهي عند مسطرد، ويتفرع منه عند كوم أشفين طريق فرعي، لكنه شهير جداً لدى قطاع واسع من المصريين، إلى "المثلث الذهبي" لعشاق الحشيش، حيث قرى الجعافرة والسلمانية وكوم السمن.

في ذاكرة أنفي روائح حدائق وغيطان تحيط بالطريق المرصوف، لتنتهي فسحتنا عند مدخل قرية كوم أشفين. مع تآكل الحدائق اقتصرت نزهتنا على الغيطان المحيطة بالمدينة الصغيرة، التي يسخر سكان البلدة القديمة من أهلها "الذين سقطوا من القطارات" التي تمر بمحطتها، وكان مخططاً منذ أيام عبد الناصر أن تصبح نهاية شبكة سكك حديد الوجه البحري.. بدلاًمن باب الحديد، تماماً كما هو مقرر منذ عشر سنوات أن يمتد إليها مترو الأنفاق. تفصلها عن القاهرة  ثمانية كيلومترات.

بذات الغيطان وفي الذاكرة، مشاهد لعشرات الشباب من الجنسين يمشون على حدود الزراعات هوناً، بأيديهم كتبهم. التوقيت دائماً أول أبريل، استعدادا للإمتحانات. بين المشاهد زميل مراهقة، أصبح مدرساً، يُفضل المذاكرة بصوت عال... يشرح لنفسه.

الأثنين الماضي تفجرت مشاهد الذاكرة عندما لاحظت، بإمتداد أربعة كيلو مترات، إختفاء معظم أشجار التوت ليحل مكانها (الفيكس) أمام بيوت ريفية واسعة أو فلل صغيرة، وإبادة تامة لأشجار الصفصاف... حامية جوانب االترع. سألني إلهي الصغير (عمر) عنها، فوصفتها ورويت له كيف كنا نتسلق (الصفصافة) ونضم حبالها... نتشعلق فيها ونتمرجح في الهواء، قبل أن نقفز في مياه الترعة. علق بعفوية: في القرف ده.

لقليوب، علاقة تاريخية مع أشجار التوت.هي من المديريات التي "وطنها" فيها (محمد علي) لتربية دود القز، وضم صناعة الحرير إلى صناعة أنوال النسيج المنتشرة بها. في عهد مؤسس مصر الحديثة حُفرت ترعة (النحاس)، ضمن منظومة ري مثلت ثورة في تاريخ النهر الخالد، ربما تقارب قيمة السد العالي. منظومة تابعها، توسعاً وصيانة، خليفتيه سعيد وإسماعيل. الأخير إنفرد بين حكام مصر بمد حدود مملكته إلى منطقة البحيرات العظمى... حيث منابع النيل.

صدفة، كان (عمر) قد انتهى قبل أسبوعين من بحث مدرسي عن النيل وأهميته في تاريخ وطنه، بداية من قسم أجداده للألهة بانهم لن يلوثوا النهر المُقدس، والفرعون "مهندس الري الأول"... لقباً وشرعية، إلى إهانته المُتجددة... الآن، مروراً ب"معركة" بناء السد العالي. لم يكن صعباً، إذن، أن أتكلم عن أن تردي وضع ترعة (النحاس) يلخص وضع مصر لأكثر من ثلاثة عقود، مستشهداً برؤى الراحل (جمال حمدان) عن محورية منظومة الري في بنية الدولة المصرية عبر التاريخ. وان النقاش، حتى بداية السبعينيات، كان عن تطهير مياه النيل من وباء البلهارسيا، وبالتبعية الترع، لتصبح صالحة للتعامل البشري، كما مجاري الأنهار بالدول المتقدمة.

كانت مياه النحاس تتدفق بقوة طوال العام، عدا أيام السدة الشتوية، "رائقة" وعامرة بالأسماك. ما زلت أتذكر قوارب الصيد الصغيرة تتهادى على سطحها، و"عدة بيوت" مفتوحة من الرزق الآتي منها، كما ألاف الأُسر التي ربت أولادها من خير مئات الترع. كنا نخشى "خفير الري" الذي يطارد من يلقي فيها المخلفات أو يحفر تحت حجارة بطانتها بحثا عن الطُعم/ دود الصيد، ونحتشد للفرجة على الجرافات وهي تطهرها. والأجمل: جولات الصيد النهارية بالسنارة وشوي السمك الطازة، وأمسيات وحودايت العفاريت والجنيات على شاطئها. لن يتمتع (عمر) ب"الأجمل".

الآن، أكمل اللانظام مهمته في تدمير بنية الري الممتدة لألاف السنين. الترعة شبه جافة معظم أيام العام، وتحولت إلى مقلب للقمامة والمخلفات، لتبدو كما مجاري الصرف الصحي... شكلاً ورائحة. اختفت الأسماك، وتسربت المياه، وفق دراسات متخصصة متتالية، مع غياب التبطين إلى مثيلتها الجوفية... لتلوثها وترفع منسوبها بما يهدد ثبات تربة المناطق السكنية المجاورة، وتهدد الثروة العقارية بقليوب المحطة، وبألاف القرى ومئات المدن التي تمر بها ترع. لم يعي اللانظام وظيفته التاريخية، لا في الحفاظ على منظومة الري داخل حدوده المُقدسة، ولا في إبقاء منابع، وممرات، النيل تحت سيطرته "الناعمة".

لألاف الأعوام، توارثنا طقوس شم النسيم، لكن جينات "رجل الدولة" المتوارثة من مهندس الري الأول حتى عبد الناصر، لم تصل للانظام الحاكم.