أطالُوا الجدلَ فكانوا أطباقاً شهية
د. حامد بن أحمد الرفاعي
يُحكى أنَّ سَمَكةً عجوزاً..أرادت أنْ تَنقُل تجاربَها إلى ابنائِها وبناتِها وأحفادِها من بني عزوتِها..فأرسلت إليهم فلبُّوا الدعوةَ إلا منْ أبى..واستهلَّت حديثَها معَهم قائلةً:كما تعلمون وترون يا ابنائي..لقد تقدَّمَ بي السنُ وهرمتُ وأشعرُ أنَّ ساعةَ الأجلِ قد اقتربت..فرأيتُ من واجبي أنْ أُقدِّم لكم تجارُبي وخبراتِي مع الصيَّادين ومكائدِهم وتنوّعِ وسائلِهم بالبطشِ بنَا نحنُ بنو سمكان..وأخذَت تَشرحُ وتعرضُ لهم صوراً منَ التجاربِ والخبراتِ والمواقفِ التي اكتسبتها سلالات بني سمكان في التعامل مع البحار والأنهار والمحيطات..ثم انتقلت لتُحدثُهم بمرارةٍ وألمٍ عنْ الاعتداءاتِ المتواصلةِ من بني البشرِ..وعن أنواعِ الأذى والفسادِ الذي يلحقونَه ببيئةِ البحارِ والمحيطاتِ..حتى أصبحَ العيشُ فيها كما ترون لا يُطاقً..فنحنُ معَهم بينَ نارين..نارُاصطيادِنِا والمُتاجرةِ بلحومِنا..ونارُإفسادِهم لبيئتِنا واستهتارِهم بصحتِنا وصحةِ غيرِنا منْ سُكانِ عوالم المياهِ..وقدّمت لهم نصائحَ وتحذيراتٍ تقيهم من غزواتِ بني الإنسانِ..فاستأذنَ أحدُهم وهو متخصصٌ بعلومِ المياهِ ليتحدثَ باسمِ زُملائِه..وكُلُّهم منْ حَملةِ الشهاداتِ الأكاديميِّةِ المرموقةِ بشتى علومِ البحارِ والمحيطاتِ..فقالَ: يا أماه.. نشكرُ عطفَكِ وحنانَكِ وما قدمتِ منْ معلوماتٍ وتعليماتٍ وتحذيراتٍ ومهاراتٍ على درجةٍ رفيعةٍ منَ الأهميِّةِ والجودةِ..ولكن ياأماه نَحنُ في زمنٍ طوَّر معَه البشرُ وسائلَهم ومهاراتِهم..ونحن أيضاً تعلّمنَا في ارقى جامعاتِ المياهِ وأكاديمياتِ أعماقِ البحارِوالمحيطات..وتخرّجنَا ونِلنَا أرفعَ الأوسمةِ في فنونِ ومهاراتِ التعامُلِ معَ مكائدِ بني البشرِ..فاطمَئني وسنأخذُ خبرتَك وتجاربَك بعينِ الاعتبارِ..بل سنعتمدُ توجيهَكِ وثيقةً مُهمةً من مُرتكزاتِ نهجِنا..واستأذنت سمكةٌ شابةٌ لِتقولَ:ياأماه..أؤكدُ ما قالَه زميلُنا مع تحفظٍ على تفاؤلِه المُفرط بقدراتِنا:فنحنُ لا نزالُ نُعاني من عجزٍ وتخلُّفٍ شديدٍ..بسببِ إقصاءِ الإناثِ عن مواقعِ القرارِ والمسؤولياتِ لصالحِ هيّمنةِ الذكُورِ..فتعالى التصفيقُ تأييداً لها..فقامَ فرخٌ شابٌ وردَّ على زميلته ودحضُ ما ادعت فحدثَ هرجٌ ومرجٌ..فارتفعَ من بين الجمعِ صوتٌ جهورٌ يَصرخُ:يا قوم اتقوا الله ما هذا الخلافُ الذي لا يرضي اللهَ ورسُلَه ..؟اعلموا أنَّ ما نُعانيهِ يعودُ لسببٍ واحدٍ ألا وهو بعدُنا عن اللهِ..عُودوا إلى اللهِ يا قوم..يُكَّفُ عنكُم شرُبني البشرِ..فتعالى التكبيرُوالتهليل تأييداً لما قال فضيلةُ الشيخِ السْمكيِّ الفقيه الغيور..وردَّ على الشيخِ أحدُهم قائلاً:أليس هذا هروباً منَ المَسؤوليِّة يا شيخَنا الجليل ..؟واحتدمَ الجدلُ والصخبُ..والأمُ تُحاولُ أنْ تَقول شيئاً فلا يَستمعُ لها أحدٌ وأطالوا الجدلَ..وإذ هم كذلِكَ مُنهمِكون في جدلِهم وصراخهم..هَبطتَ عليِهم شبكةُ صيِّادٍ ماهر انتشلَتهم جميعاً بلا استثناء..لِيتحوَّلوا إلى أطباقٍ شهيةٍ..تلتهِمُهم أفواهُ منْ كانوا يَحذَرون..فهلْ منْ مُعتبرٍ ..؟بل هَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ..؟