فمن اعتدى عليكم
رضوان سلمان حمدان
{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)}البقرة
سبب النزول
*قال ابن عباس: لما سار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معتمراً في سنة ست من الهجرة، وحبسه المشركون عن الدخول والوصول الى البيت، وصدّوه بمن معه من المسلمين في ذي القعدة وهو شهر حرام حتى قاضاهم على الدخول من قابل، فدخلها في السنة الاتية هو ومن كان من المسلمين، واقصه اللّه منهم فنزلت في ذلك هذه الاية: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص}
وعن جابر بن عبداللّه قال: لم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام الا ان يغزى وتغزوا فاذا حضره اقام حتى ينسلخ "رواه احمد، قال ابن كثير: اسناده صحيح"
ولهذا لما بلغ النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو مخيم بالحديبية أن عثمان قتل، وكان قد بعثه في رسالة الى المشركين، بايع أصحابه وكانوا الفاً وأربعمائة تحت الشجرة على قتال المشركين فلما بلغه أن عثمان لم يُقتل كفَّ عن ذلك وجنح إلى المسالمة والمصالحة، فكان ما كان، وكذلك لما فرغ من قتال هوازن يوم حنين وتحصن فلهم بالطائف عدل اليها فحاصرها ودخل ذو القعدة وهو محاصر لها بالمنجنيق واستمر عليها الى كمال أربعين يوماً، كما ثبت في الصحيحين عن انس، فلما كثر القتل في أصحابه انصرف عنها ولم تفتح، ثم كر راجعاً إلى مكة واعتمر من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين، وكانت عمرته هذه في ذي القعدة أيضاً عام ثمان صلوات اللّه وسلامه عليه. وقوله: { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} امر بالعدل حتى في المشركين، كما قال: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به}، وقال: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}. [مختصر ابن كثير}
*قال قتادة: أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في ذي القعدة حتى إذا كانوا بالحديبية صدهم المشركون فلما كان العام المقبل دخلوا مكة فاعتمروا في ذي القعدة وأقاموا بها ثلاث ليال وكان المشركون قد فجَروا عليه حين ردوه يوم الحديبية فأقصَّه الله تعالى منهم فأنزل {الشَهرُ الحَرامُ بِالشَهرِ الحَرامِ} الآية.[ أسباب النزول الإمام أبو الحسن علي الواحدي النيسابوري]
التفسير والدلالة
وقد اخترت ما قاله بعض المفسرين:
1- في ظلال القرآن، سيد قطب:
"ورد في بعض الروايات أن هذه الآيات هي أول ما نزل في القتال . نزل قبلها الإذن من الله للمؤمنين الذين يقاتلهم الكفار بأنهم ظلموا . وأحس المؤمنون بأن هذا الإذن هو مقدمة لفرض الجهاد عليهم ، وللتمكين لهم في الأرض ، كما وعدهم الله في آيات سورة الحج : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ، وإن الله على نصرهم لقدير . الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا : ربنا الله . ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً . ولينصرن الله من ينصره ، إن الله لقوي عزيز ، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، ولله عاقبة الأمور }
ومن ثم كانوا يعرفون لم أُذن لهم بأنهم ظلموا ، وأعطيت لهم إشارة الانتصاف من هذا الظلم ، بعد أن كانوا مكفوفين عن دفعه وهم في مكة ، وقيل لهم : { كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } وكان هذا الكف لحكمة قدرها الله . . نستطيع أن نحدس بعض أسبابها على سبيل التقدير البشري الذي لا يحصى ولا يستقصى .
وأول ما نراه من أسباب هذا الكف ، أنه كان يراد أولا تطويع نفوس المؤمنين من العرب للصبر امتثالاً للأمر ، وخضوعا للقيادة ، وانتظاراً للإذن . وقد كانوا في الجاهلية شديدي الحماسة ، يستجيبون لأول ناعق ، ولا يصبرون على الضيم . . وبناء الأمة المسلمة التي تنهض بالدور العظيم الذي نيطت به هذه الأمة يقتضي ضبط هذه الصفات النفسية ، وتطويعها لقيادة تقدر وتدبر ، وتطاع فيما تقدر وتدبر ، حتى لو كانت هذه الطاعة على حساب الأعصاب التي تعودت الاندفاع والحماسة والخفة للهيجاء عند أول داع . . ومن ثم استطاع رجال من طراز عمر بن الخطاب في حميته ، وحمزة بن عبد المطلب في فتوته ، وأمثالهما من أشداء المؤمنين الأوائل أن يصبروا للضيم يصيب الفئة المسلمة؛ وأن يربطوا على أعصابهم في انتظار أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن يخضعوا لأمر القيادة العليا وهي تقول لهم : { كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } ومن ثم وقع التوازن بين الاندفاع والتروي ، والحماسة والتدبر ، والحمية والطاعة . . في هذه النفوس التي كانت تعد لأمر عظيم . .
والأمر الثاني الذي يلوح لنا من وراء الكف عن القتال في مكة . . هو أن البيئة العربية ، كانت بيئة نخوة ونجدة . وقد كان صبر المسلمين على الأذى ، وفيهم من يملك رد الصاع صاعين ، مما يثير النخوة ويحرك القلوب نحو الإسلام؛ وقد حدث بالفعل عندما أجمعت قريش على مقاطعة بني هاشم في شعب أبي طالب ، كي يتخلوا عن حماية الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه عندما اشتد الاضطهاد لبني هاشم ، ثارت نفوس نجدة ونخوةً ، ومزقت الصحيفة التي تعاهدوا فيها على المقاطعة . وانتهى هذا الحصار تحت تأثير هذا الشعور الذي كانت القيادة الإسلامية في مكة تراعيه في خطة الكف عن المقاومة ، فيما يبدو لنا من خلال دراسة السيرة كحركة .
ومما يتعلق بهذا الجانب أن القيادة الإسلامية لم تشأ أن تثير حرباً دموية داخل البيوت . فقد كان المسلمون حينذاك فروعاً من البيوت . وكانت هذه البيوت هي التي تؤذي أبناءها وتفتنهم عن دينهم؛ ولم تكن هناك سلطة موحدة هي التي تتولى الإيذاء العام . ولو أذن للمسلمين أن يدفعوا عن أنفسهم يومذاك ، لكان معنى هذا الإذن أن تقوم معركة في كل بيت ، وأن يقع دم في كل أسرة .
. مما كان يجعل الإسلام - في نظر البيئة العربية - يبدو دعوة تفتت البيوت ، وتشعل النار فيها من داخلها . . فأما بعد الهجرة فقد انعزلت الجماعة المسلمة كوحدة مستقلة تواجه سلطة أخرى في مكة ، تجند الجيوش وتقود الحملات ضدها. وهذا وضع متغير عما كان عليه الوضع الفردي في مكة بالنسبة لكل مسلم في داخل أسرته.
هذه بعض الأسباب التي تلوح للنظرة البشرية من وراء الحكمة في كف المسلمين في مكة عن دفع الفتنة والأذى . وقد يضاف إليها أن المسلمين إذ ذاك كانوا قلة ، وهم محصورون في مكة ، وقد يأتي القتل عليهم لو تعرضوا لقتال المشركين ، في صورة جماعة ذات قيادة حربية ظاهرة . فشاء الله أن يكثروا ، وأن يتحيزوا في قاعدة آمنة ، ثم أذن لهم بعد هذا في القتال . .
وعلى أية حال فقد سارت أحكام القتال بعد ذلك متدرجة وفق مقتضيات الحركة الإسلامية في الجزيرة ( ثم خارج الجزيرة ) . وهذه الآيات المبكرة في النزول قد تضمنت بعض الأحكام الموافقة لمقتضيات الموقف في بدء المناجزة بين المعسكرين الأساسيين . معسكر الإسلام ومعسكر الشرك . وهي في الوقت ذاته تمثل بعض الأحكام الثابتة في القتال بوجه عام ، ولم تعدل من ناحية المبدأ إلا تعديلاً يسيراً في سورة براءة.
ولعله يحسن أن نقول كلمة مجملة عن الجهاد في الإسلام ، تصلح أساساً لتفسير آيات القتال هنا ، وفي المواضع القرآنية الأخرى ، قبل مواجهة النصوص القرآنية في هذا الموضع بصفة خاصة :
لقد جاءت هذه العقيدة في صورتها الأخيرة التي جاء بها الإسلام؛ لتكون قاعدة للحياة البشرية في الأرض من بعدها ، ولتكون منهجاً عاماً للبشرية جميعها؛ ولتقوم الأمة المسلمة بقيادة البشرية في طريق الله وفق هذا المنهج ، المنبثق من التصور الكامل الشامل لغاية الوجود كله ولغاية الوجود الإنساني ، كما أوضحهما القرآن الكريم ، المنزل من عند الله قيادتها إلى هذا الخير الذي لا خير غيره في مناهج الجاهلية جميعاً ، ورفعها إلى هذا المستوى الذي لا تبلغه إلا في ظل هذا المنهج ، وتمتيعها بهذه النعمة التي لا تعدلها نعمة ، والتي تفقد البشرية كل نجاح وكل فلاح حين تحرم منها ، ولا يعتدي عليها معتد بأكثر من حرمانها من هذا الخير ، والحيلولة بينها وبين ما أراده لها خالقها من الرفعة والنظافة والسعادة والكمال .
ومن ثم كان من حق البشرية أن تبلغ إليها الدعوة إلى هذا المنهج الإلهي الشامل ، وألا تقف عقبة أو سلطة في وجه التبليغ بأي حال من الأحوال.
ثم كان من حق البشرية كذلك أن يترك الناس بعد وصول الدعوة إليهم أحراراً في اعتناق هذا الدين؛ لا تصدهم عن اعتناقه عقبة أو سلطة . فإذا أبى فريق منهم أن يعتنقه بعد البيان ، لم يكن له أن يصد الدعوة عن المضي في طريقها .
وكان عليه أن يعطي من العهود ما يكفل لها الحرية والاطمئنان؛ وما يضمن للجماعة المسلمة المضي في طريق التبليغ بلا عدوان . .
فإذا اعتنقها من هداهم الله إليها كان من حقهم ألا يفتنوا عنها بأي وسيلة من وسائل الفتنة . لا بالأذى ولا بالإغراء . ولا بإقامة أوضاع من شأنها صد الناس عن الهدى وتعويقهم عن الاستجابة . وكان من واجب الجماعة المسلمة أن تدفع عنهم بالقوة من يتعرض لهم بالأذى والفتنة ، ضماناً لحرية العقيدة ، وكفالة لأمن الذين هداهم الله ، وإقراراً لمنهج الله في الحياة ، وحماية للبشرية من الحرمان من ذلك الخير العام.
وينشأ عن تلك الحقوق الثلاثة واجب آخر على الجماعة المسلمة؛ وهو أن تحطم كل قوة تعترض طريق الدعوة وإبلاغها للناس في حرية ، أو تهدد حرية اعتناق العقيدة وتفتن الناس عنها . وأن تظل تجاهد حتى تصبح الفتنة للمؤمنين بالله غير ممكنة لقوة في الأرض ، ويكون الدين لله . . لا بمعنى إكراه الناس على الإيمان . ولكن بمعنى استعلاء دين الله في الأرض ، بحيث لا يخشى أن يدخل فيه من يريد الدخول؛ ولا يخاف قوة في الأرض تصده عن دين الله أن يبلغه ، وأن يستجيب له ، وأن يبقى عليه . وبحيث لا يكون في الأرض وضع أو نظام يحجب نور الله وهداه عن أهله ويضلهم عن سبيل الله . بأية وسيلة وبأية أداة .
وفي حدود هذه المبادئ العامة كان الجهاد في الإسلام.
وكان لهذه الأهداف العليا وحدها ، غير متلبسة بأي هدف آخر ، ولا بأي شارة أخرى.
إنه الجهاد للعقيدة . لحمايتها من الحصار؛ وحمايتها من الفتنة؛ وحماية منهجها وشريعتها في الحياة؛ وإقرار رايتها في الأرض بحيث يرهبها من يهم بالاعتداء عليها قبل الاعتداء؛ وبحيث يلجأ إليها كل راغب فيها لا يخشى قوة أخرى في الأرض تتعرض له أو تمنعه أو تفتنه.
وهذا هو الجهاد الوحيد الذي يأمر به الإسلام ، ويقره ويثيب عليه؛ ويعتبر الذين يقتلون فيه شهداء؛ والذين يحتملون أعباءه أولياء .
وهذه الآيات من سورة البقرة في هذا الدرس كانت تواجه وضع الجماعة المسلمة في المدينة مع مشركي قريش الذين أخرجوا المؤمنين من ديارهم ، وآذوهم في دينهم ، وفتنوهم في عقيدتهم ، وهي - مع هذا - تمثل قاعدة أحكام الجهاد في الإسلام:
وتبدأ الآيات بأمر المسلمين بقتال هؤلاء الذين قاتلوهم وما يزالون يقاتلونهم ، وبقتال من يقاتلهم في أي وقت وفي أي مكان ، ولكن دون اعتداء:
{وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ، ولا تعتدوا ، إن الله لا يحب المعتدين} . .
وفي أول آية من آيات القتال نجد التحديد الحاسم لهدف القتال ، والراية التي تخاض تحتها المعركة في وضوح وجلاء:
{ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } . .
إنه القتال لله ، لا لأي هدف آخر من الأهداف التي عرفتها البشرية في حروبها الطويلة. القتال في سبيل الله . لا في سبيل الأمجاد والاستعلاء في الأرض ، ولا في سبيل المغانم والمكاسب؛ ولا في سبيل الأسواق والخامات؛ ولا في سبيل تسويد طبقة على طبقة أو جنس على جنس . . إنما هو القتال لتلك الأهداف المحددة التي من أجلها شرع الجهاد في الإسلام ، القتال لإعلاء كلمة الله في الأرض ، وإقرار منهجه في الحياة ، وحماية المؤمنين به أن يفتنوا عن دينهم ، أو أن يجرفهم الضلال والفساد ، وما عدا هذه فهي حرب غير مشروعة في حكم الإسلام ، وليس لمن يخوضها أجر عند الله ولا مقام .
ومع تحديد الهدف ، تحديد المدى . .
{ ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } . .
والعدوان يكون بتجاوز المحاربين المعتدين إلى غير المحاربين من الآمنين المسالمين الذين لا يشكلون خطراً على الدعوة الإسلامية ولا على الجماعة المسلمة ، كالنساء والأطفال والشيوخ والعباد المنقطعين للعبادة من أهل كل ملة ودين . . كما يكون بتجاوز آداب القتال التي شرعها الإسلام ، ووضع بها حداً للشناعات التي عرفتها حروب الجاهليات الغابرة والحاضرة على السواء . . تلك الشناعات التي ينفر منها حس الإسلام ، وتأباها تقوى الإسلام .
وهذه طائفة من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووصايا أصحابه ، تكشف عن طبيعة هذه الآداب ، التي عرفتها البشرية أول مرة على يد الإسلام :
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال:
« وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والصبيان ». (أخرجه مالك والشيخان وأبو داود والترمذي) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه » . (أخرجه الشيخان).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : « بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن وجدتم فلاناً وفلاناً ( رجلين من قريش ) فأحرقوهما بالنار فلما أردنا الخروج قال : كنت أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً ، وإن النار لا يعذب بها إلا الله تعالى فإن وجدتموهما فاقتلوهما ». (أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي) .
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أعفّ الناس قِتلهً أهل الإيمان ».(أخرجه أبو داود).
وعن عبد الله بن يزيد الأنصاري - رضي الله عنه - قال : « نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النُّهْبَى والمثلة » . (أخرجه البخاري).
وعن ابن يعلى قال غزونا مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، فأتى بأربعة أعلاج من العدو ، فأمر بهم فقتلوا صبراً بالنبل . فبلغ ذلك أبا أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - فقال: « سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن قتل الصبر . فوالذي نفسي بيده ، لو كانت دجاجة ما صَبَرْتُهَا . فبلغ ذلك عبد الرحمن ، فأعتق أربع رقاب » . ( أخرجه أبو داود ).
وعن الحارث بن مسلم بن الحارث عن أبيه - رضي الله عنه - قال:
« بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية؛ فلما بلغنا المغار استحثثت فرسي فسبقت أصحابي؛ فتلقاني أهل الحي بالرنين . فقلت لهم : قولوا : لا إله إلا الله تُحَرَزُوا . فقالوها . فلامني أصحابي ، وقالوا حرمتنا الغنيمة! فلما قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبروه بالذي صنعت . فدعاني فحسن لي ما صنعت . ثم قال لي : إن الله تعالى قد كتب لك بكل إنسان منهم كذا وكذا من الأجر» . ( أخرجه أبو داود )
وعن بريدة قال :
« كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى ، وبمن معه من المسلمين خيراً . ثم قال له : اغزوا باسم الله ، في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً ». ( أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي ) .
وروى مالك عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال في وصيته لجنده :
« ستجدون قوماً زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله ، فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له ، ولا تقتلن امرأة ولا صبياً ولا كبيراً هرماً » . .
فهذه هي الحرب التي يخوضها الإسلام؛ وهذه هي آدابه فيها؛ وهذه هي أهدافه منها . . وهي تنبثق من ذلك التوجيه القرآني الجليل :
{ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ، ولا تعتدوا ، إن الله لا يحب المعتدين } . .
وقد كان المسلمون يعلمون أنهم لا ينصرون بعددهم - فعددهم قليل - ولا ينصرون بعدتهم وعتادهم - فما معهم منه أقل مما مع أعدائهم - إنما هم ينصرون بإيمانهم وطاعتهم وعون الله لهم . فإذا هم تخلوا عن توجيه الله لهم وتوجيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد تخلوا عن سبب النصر الوحيد الذي يرتكنون إليه . ومن ثم كانت تلك الآداب مرعية حتى مع أعدائهم الذين فتنوهم ومثلوا ببعضهم أشنع التمثيل . . ولما فار الغضب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر بحرق فلان وفلان ( رجلين من قريش ) عاد فنهى عن حرقهما ، لأنه لا يحرق بالنار إلا الله."
2- وهذا تفسير السعدي الجزء الأول ص89:
{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} هذا تفسير لصفة المقاصة، وأنها هي المماثلة في مقابلة المعتدي.
ولما كانت النفوس - في الغالب - لا تقف على حدها إذا رخص لها في المعاقبة لطلبها التشفي، أمر تعالى بلزوم تقواه، التي هي الوقوف عند حدوده، وعدم تجاوزها، وأخبر تعالى أنه {مَعَ الْمُتَّقِينَ} أي: بالعون، والنصر، والتأييد، والتوفيق.
ومن كان الله معه، حصل له السعادة الأبدية، ومن لم يلزم التقوى تخلى عنه وليه، وخذله، فوكله إلى نفسه فصار هلاكه أقرب إليه من حبل الوريد.
3- الوسيط لسيد طنطاوي الجزء الأول ص 328:
أي : فمن اعتدى عليكم وظلمكم فجازوه باعتدائه وقابلوه بمثل ما اعتدى عليكم بدون حيف أو تجاوز للحد الذي أباحه الله لكم .
وسمى جزاء الاعتداء اعتداء على سبيل المشاكلة .
قال الآلوسي : واستدل الشافعي بالآية على أن القاتل يقتل بمثل ما قتل به من محدد أو خنق أو حرق أو تجويع أو تغريق . حتى لو ألقاه في ماء عذب لم يلق في ماء ملح . واستدل بها أيضاً على أن من غصب شيئاً وأتلفه لزمه رد مثله ، ثم إن المثل قد يكون من طريق الصورة - كما في ذوات الأمثال - وقد يكون من طريق المعنى كالقيم فيما لا مثل له .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بالتقوى والخشية منه فقال : { واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } .
أي : اتقوا الله وراقبوه في الانتصار لأنفسكم ، وترك الاعتداء فيما لا يرخص لكم فيه ، واعلموا أن الله مع الذين يمتثلون أمره ويجتنبون نهيه بالنصر والرعاية والتأييد .
4- الكتاب: تفسير المنتخب. المؤلف: لجنة من علماء الأزهر:
فإذا اعتدوا عليكم فى الشهر الحرام فلا تقعدوا عن قتالهم فيه فإنه حرام عليهم ، كما هو حرام عليكم ، وإذا انتهكوا حرمته عندكم فقابلوا ذلك بالدفاع عن أنفسكم فيه ، وفى الحرمات والمقدسات شرع القصاص والمعاملة بالمثل ، فمن اعتدى عليكم فى مقدساتكم فادفعوا هذا العدوان بمثله ، واتقوا الله فلا تسرفوا فى المجازاة والقصاص ، واعلموا أن الله ناصر المتقين .
5- الكتاب : تفسير اطفيش. المؤلف : أطفيش – إباضي. الجزء الأول ص225. مصدر الكتاب : موقع التفاسير http://www.altafsir.com :
{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فى عمره القضاء بالمنع عنها أو بالقتال فى الحرام أو الإحرام أو الشهر الحرام { فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ } جازوه عن اعتدائه ، سمى فعلهم باسم الفعل الأول للشبه ولعلاقة الجوار وباسم الملزوم وباسم السبب ، وكذا فى سائر اعتبار المشاكلة { بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } بالدخول فى مكة ، ولو كرهوا كما منعوكم منها فى العام الأول ، وقاتلوهم على المنع ، ولو لم يقاتلوا فيه ، بل اقتصروا على المنع ، كا تقاتلوهم إن قاتلا ، ولا تزيدوا بأن تقاتلوهم ولم يقاتلوكم ولم يمنعوكم ، أو بأن تقاتلوا من لم يقاتل ، عمم الشافعى القتل بمثل ما قتل به محتجّاً بالآية كقتل بمحدد وخنق وحرق وتجويع وتغريق حتى لو أغرقه فى عذب لم يغرق فى ملح {وَاتَّقُواْ اللهَ} احذروا عقابه على المبالغة فى الانتقام وعلى الاعتداء الحقيقى الذى هو فعل ما لا يجوز ، أو اتقوا الله فى الانتصار لأنفسكم بما لا يجوز وترك الاعتذار بما لا يجوز {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} بالعون فى أمر الدين والدنيا وبالنصر وإصلاح الشأن والحفظ ، والاتقاء اتقاء المعاصى إجلالا لله ، واتقاؤها خوفاً من عقابها واتقاء الله أيضاً إجلاله.
اللهم فقهنا في ديننا