التصوف بين التشوف والتزلف

م. الطيب بيتي العلوي

التصوف بين التشوف والتزلف

م. الطيب بيتي العلوي

مغربي مقيم بفرنسا

باحث في الانثروبولوجيا الدينية والثقافية بباريس

[email protected]

(1)

"أندري مالرو"مخاطبا" جواهر لال نهرو" :

أظن أن الحياة الغربية عن كل دين مزامنة تقريبا لعصر الآلة....ويتمثل العامل الجديد اجمالا في التسميم الذي يمكن العمل من اقصاء كل قرار لشرعية الحياة الدينية....

 جواب "جواهر لال نهرو" فحتى متى يتواصل هذا الأمر؟

عن كتاب المذكرات المضادة ص342 النسخة الفرنسية

مدخل لا بد منه

هل الفكر العربي –الاسلامي في حاجة الى تصوف وأدب اخلاقي ؟

وهل هناك دوافع مجتمعية وقيمية تدفعنا الى طلب أدب أحوال النفس الذي اسمه التصوف ،داخل هذه المجتمعات المشتتة بين "لادينيات"مؤدلجة تقمع وتسفه كلما هو ديني ذي مرجعية اسلامية، وسلفيات(ما بعد بن تيمية) تكفيرية تقمع وتسفه بدورها كل ما لايدور في فلكها ولو كان ذا مرجعية اسلامية؟

ولماذا نجح التصوف وتضخم في غياب ضعف المنهج العقلاني المعتزلي، أو الرشدي، عندما وصلت الثقافة العربية الاسلامية في مجال العلوم الطبيعية والفلسفة الى مستوى لم تصله ثقافة كونية أخرى، ثم تراجعت ،بينما اتسع التصوف وأخذ يمتد عبر التاريخ العربي-الاسلامي ليطال كل شيء لدىالانسان المسلم:(التربية ،الفن ،المغنى، المعمار،آداب السلوك ،تنظيم التجمعات ،وتلوين المجتمعات ،بل ليصبح ثقافة شعبية (على شكل أنظومة الزوايا والطرق في مصر في المغرب العربي وافريقيا السوداء وآسيا الوسطى)؟حتى وصل في مراحل تاريخية  الى أن يكون دولة داخل دولة كما هو الحال في تاريخ المغرب منذ ما بعد  دولةالموحدين؟

 وقبل التقديم للظاهرة الصوفية-ولا مفر من النظر اليها كظاهرة أولا لحصرها بهدف فهمها-مادامت مثيرة للجدل سواء من داخل الاسلام منذ القرن الثاني الهجري ،و من خارجه منذ بداية الاستشراق ، ولأنه بدأيجذب حاليا في الغرب من تهمه الثقافة العربية-الاسلامية –خارج طروحات الاستشراق"الرسمية" وحفرياته- لأسباب متعددة(لايتسع المجال لذكرها هنا) والذين يسعون قدر الامكان على تحصيلها من مصادرها ومن معينها ،وخاصة من طرف عينةمن الموجة الجديدة من المستشرقين الشباب بعدفترة ما يسمى "بالحملة على الارهاب" حيث لوحظ تزايد مبيعات القرآن وكتب المتصوفة والتصوف في أوروبا والولايات المتحدة ،مما خلق سوقا "للنصب" على جماهيرالأوربيين بنشر المعجب من "غرائب التصوف والمتصوفة"بدعوى التعريف بالاسلام "التسامحي" بالتحليق في عوالم "المافوق–ورائية"  الاسلام و

الشرق، استغلالا لألوان موجات المتناقضات المطروحة على الساحة الفكرية شرقا وغربا بشكل سافر،لم يسبق له مثيل منذ مرحلة ما بعد الحرب الثانية الكبرىعند وبعد ظهور" فلسفات القلق والعبث واللانتماء والتمرد والغثيان واللامعقول والطريق المسدود منذ الخمسيات الى أواخر السبعينات،

ولأن العالم أصبح يعيش ظاهرة فريدة في تاريخ البشرية ،وهي ظاهرة تفتت وتفكك المرجعيات والمنابع المنتجة للمعنى.، وازدياد عدم اليقين بالنسبة لكل الرهانات الاساسية الانسانية(وخاصة الروحية والقيمية)

وان عالم أطروحات الفوضى "والطريق الأوحد"، خلقا مناخا مفعما بالقلق وتفاقم التعاسة ،حيث أصبح كل عقل "عقلاني " يطالب العقل بالتعرف الى حقيقة وضعه الوجودي، وواجبه تجاه الحياة والمصير المظلم للبشرية، التي تبث أنها في غاية الجدية والخطورة، بعد أن اعتقدت كل فلسفات القرن التاسع عشر أنها قد وأدت الميتافيزيقا وأدا ،وأنها أزاحت تساؤلاتها المحيرةالى غير رجعة،فاذا بالفكرالانساني يصبح أكثر تعتيما وخلطا عن ذي قبل ،كما قال المفكر والاستراتيجي الفرنسي "ايناسيور راموني"مؤخرا في جريدة "لوموند" " اللايقين : ذلك المبدأ الذي يحكم سير العالم من الأن فصاعدا"الشىء الذي جعل دارسي تاريخ الحضارات والديانات المقارنة يزدادون ارتباكا.حيث أن أكبر المتخصصين في هذا المجال يكتب حائرا :

 "ان كل الحضارات قد انهارت،.غير أن الطرق اختلفت 

:فانحطاط الشرق هو سلبي،انفعالي ،تاثري،مطاوع ومستسلم

Passiveبينما انحطاط الغرب"فعال"وحركي ومهاجم 

و معضلة الشرق المنهار أنه شل عن التفكير

بينما معضلة الغرب المنهار أنه مغرق في التفكير باستمرار ولكن بشكل سيء

الاأن الشرق المنهار ينام  -يقينا-على "حقائق ميتافيزيقية" بينما يعيش الغرب-يقينا- على أخطاء قاتلة ومستديمة ستؤذي بالبشرية حتما الى "النهاية" بالمعنى التوراتي-المسيحي انتظارا للمخلص

آفاق روحية –فريتجوف شيونFrithhof Schuon, Perspectives Sirituelles ص 26

ولذا فان توجهات "نخبة شابة"جديدة في الغرب ، هي نحو البحث عن الحقيقية أينما كانت في "هذا الشرق" –مادام سيبقى هو وجهة الغرب الروحية كلما مالت شمسه الى المغيب –وذلك لفهم الأبعاد الروحية والرمزية واعماقها التعبيرية للروحانية الشرقية المتمثلة في "التصوف" بعدما استنفذ الغرب كل أنواع " عقلانياته" و"لاعقلانياته" وشاخت ملحماته المظفرة والمتوجة دائما بالحروب على "الآخرين" وحيث تبنى هدا الغرب الى غير رجعة "حكمة"  القوة و والدمار و"التفكيك"(وان الاطلاع على خارطة الشرق الجديدة في مراكز البحوث بعد الاندحار الأمريكي-الاسرائلي على لبنان لتبث الرعب في النفوس حقا)

ولطالما-أيضا- ان النزعة الدينية في الانسان ستبقى لصيقة به، ولا مناص له منها،سواء "أشيأ" الانسان (برفع الشين)،أو عقلن (برفع العين)أو "حدث" (برفع الحاء) رغم كل الادعاءات "العلموية" والفلسفات الوضعية بأخلاقياتها "العقلانية" التي طغت على فكر القرن التاسع عشر والفرن الفائت

وان دراسات التصوف وبحوثه في الغرب موجهة أصلا الى أولئك الذين ما يزالون يرون أن التأمل الفلسفي ليس ترفا خطرا،بل وسيلة لا غنى عنها لتصريف شؤون الحياة ،والى هؤلاء الذين يؤمنون في الوقت نفسه بأن من المستحيل على المرء أن يستعصم بالشعار السقراطي "اعرف نفسك بنفسك" اذا لم يعرف غيرها شيئا،مادام هدف التصوف الأصيل هو حل مشكلات الانسان العميقة الخاصة به ،عند الاطلاع على أعمال وتحليلات هؤلاء الرجال "المتمردين"  في الحضارة العربية-الاسلامية،الذين اسمهم المتصوفة، أولئك الحيارى الذين انشغلوا بالتعمق في الوجود وخبايا النفس ومتاهاتها،مادام البحث الميداني الانثربولوجي –بكل مدارسه- يثبث بأن الأغلبية الساحقة من البشرقد اختاروا الدين كتوجه روحي ،.وبا ستقرار أبحاث الأناسة يتبين ما للدين من تأثير فى كل المجتمعات ،و فى كل مناحي الانسان، فى أبعاده الثلاثة الروحية والعقلية والنفسية.، مما حدا بالمختصين بالعلوم الاجتماعية المعنية بالدين(كعلم النفس الديني وعلم الاجتماع والانثروبولوجيا والتاريخ) الاقرار بوظيفته الكبرى فى المجتمعات البشرية عبر التاريخ ،وبجدواه فى حياة الانسان ،بالرغم أن هولاء لا يؤمنون أصلا بأى دين-كما يشيرون فى توطئات بحوثهم-مما شكل صعوبات منهجية واجهت العلوم الانسية فى محاولة وضع تقسيم صارم واضح لما هونفسي ،أواجتماعي أوديني، أوفلسفي فى الدين.،فقد عدد "جيمس-ه لوبا"أن يعدد اكثرمن ثمانية وخمسين تعريفا للدين -وكلما زادت علوم الاناسة تقدما الا وتعقدت معضلة الدين والتدين أكثر فأكثر..

ولكي لا يتشعب بنا الموضوع الى البحث عن الدين واشكالياته، نكتفي بالقول بأن الاستقراء التاريخي يوضح بأن" ظاهرة الدين" هي أكبر مقولة ثقافية. كونية،كما بين "برغسون"  مع غيره من المنشغلين بالاشكالية الدينية بالمفهوم الأناسي ،في كتابه" منبعا الدين والأخلاق "يقول برغسون بأنه "لم توجد قط مجتمعات بدون دين".. ومضيفا"و نجد فى الماضى وقد نجد حتى اليوم مجتمعات ليس لها علم ولا فن ولا فلسفة ،ولكن ما ثمة أبدا مجتمع دون أن يكون له دين "و يرى مع غوبلي دالفيلا"و"مالينوفسكي"و"ادوارد سابير" بأن هناك "الدين الساكن" والدين المتحرك" ويقصد بالأخير التصوف والحياة الروحية على العموم

فالتصوف اذن في حقيقته ما هو الامحاولة لتجاوز الشعائر والرسوم الظاهرية الخارجية،(التدينية) أو مجرد التمسك" بالطقوسية" الجافة ، لكي تواجه النفس في أعماقها، شحنات روحية تربطها بالجهد الخلاق ،وتلف بها في بحار أنوار القدس الغامرة ،لتسبح في ينبوع النور، وتنعم بالتواجد (من الوجدبكسر الواو) في جلال الحضرة الالهية، كما يقول الصوفية انفسهم

فما هو التصوف كظاهرة في الاسلام

اشكالية البحث في المنهج

قبل الحديث عن ظاهرة التصوف في الحضارة الاسلامية وعن نشأته،لا بد من أن نشير الي الصعوبة التي تعترض الباحثين ،خاصة من داخل الاسلام، لكون معظم المدارس السلفية ترفض ذلك الفصل الذي استحدث في فترةما بعد الخلفاء الراشدين ،بتقسيم الحياة الروحية في الاسلام الىمرحلتين :،مرحلة الزهد،ومرحلة التصوف، للوصول الى اثبات "بدعة التصوف" (وقد حاورت بعض شيوخ السلفية على قناة تلفزيونية أكثر من أسبوع لدحض هذ الرأي)و كما أصرت عليه أيضا-ولاتزال- تراجم المدارسة السلفية(فهناك مدارس  سلفية مختلفة حتى لانقع في التعميمات الهوجاء) عندما يصفون شيوخهم بالزهد(انظر ابن كثير في البداية والنهاية ج13 ص 176 أوكما ذكر المحدث "الذهبي" عندما وصف زهد الصحابة بالعبارة التالية" ...فما أحلى تصوف الصحابة والتابعين، وما خاضوا في هذه الخطرات والوساوس ،بل عبدوا الله وذلوا عليه وتوكلوا عليه ..الى آخر ماذكر في هذا الباب (انظر الذهبي/ سير أعلام النبلاء مجلد11مخطوط )مما يدل على أن المحدثين استخدموا اصطلاح التصوف السائد في مراحل الزهد الأولى،أو عندما نقرأ كتاب طبقات الحنابلة "للقاضي أبي يعلى"،نجد عددا كبيرا من الزهاد الأوائل من أصحاب ابن حنبل مثل "الجنيد" -شيخ التصوف - ومعروف الكرخي، وابن أبي الحواري، وبشر الحافي، وابن المبارك، والفضيل بن عياض، وهم من مراجع المتصوفة الأولين، جنبا الى جنب مع آراء ابن حنبل، والشافعي، والبخاري ،والترمذي ،مما يدل على أن "تجريح" التصوف أوتكفير المتصوفة بأجمعهم لم يطرحه رواد السلفية الأولين وأعمدتهم، كما حدث في مرحلة ما بعد ابن تيمية من بعض المحسوبين على السلفية التكفيريين، حيث صنف ابن تيمية أبا بكر وعمر في مقدمة أولياء الله، ويأتي بباقي الصحابة، ويخص منهم بالذكر من اشتهر بالاتجاه الروحي، مثل سلمان الفارسي ،وأبي ذر الغفاري، وأبي الدرداء، ويليهم التابعين، ومن أتى بعدهم مثل ،سعيد بن المسيب والحسن البصري ،وعمر بن عبد العزيز،و مالك بن أنس ،والأوزاعي،وابراهيم بن أدهم ،وسفيان الثوري، وغيرهم ،ثم يختم بن تيمية قوله بعبارة(ومن لايحصى كثرة) مضيفا اليهم المتأخرين مثل الجنيد البغدادي، والتستري، وأبو طالب المكي، والجيلاني (أو الكيلاني) ورابعة العدوية

مقدمات ظهور التصوف

وبالنظر الى أن المذاهب في تاريخ البشرية ،هي بمثابة أنهار تشق طريقها الى الحقب ،عبر الاختلاف بين الرجال على صفحات الكتب ،وعبر الفرق،فذاك ما حدث بالنسبة للحضارة الاسلامية ،وهو ما حدث بالنسبة لنشأة المذاهب الدينية ، والفرق من سنة وشيعة وقدرية وخوارج وقدرية ومرجئة ومتلكمون ومعتزلة ومتصوفة ،وكان لكل فرقة فرق،ولئن كان أهل السنة هم الدولة، وجمهور الأمة على مدار تاريخ الاسلام، ولكنهم أيضا مذاهب شتى، وقد انمحت معظم المذاهب خلا السنية والشيعية ،ولم يبق منها الا المذهب الخارجي الاباضي –وهو المذهب الرسمي لدولة سلطنة عمان، وأشتاتا في جنوب الجزائر – منطقة مزاب الصحراوية- وفي جنوب تونس-في منطقةجربة-

وعندما بدأأئمة الفقه الأربعة يجتهدون للدعوة الى الاتباع بوسائل ومناهج اصطلحوا على تسميتها بالفقه،اتجه قصد المتكلمين بدورهم في نشاة علم الكلام للرد على المخالفين في العقيدة،كما حدا الزهاد حدوهم ،فطوروا نزعة الزهد الى وضع قواعد ومناهج خاصة بهم، اصطلح على تسميتها بالتصوف ،بعد أن كان منحصرا في دائرة الشيوخ الذين اجتهدوا في العبادات والتحليق مع خطراتهم ونوازع المحبة والخوف والرجاء وحياة الروح ،

وكما تضخم الفقه على مدى العصور باضافات الاتباع والمجتهدين من كل مذهب،وسار علم الكلام في نفس الاتجاه، حتى وصل الى الفلسفة عند المتأخرين، كذلك أخذ المتصوفة يتلقون نظريات الزهد عند شيوخ الزهد الأوائل، ليضيفوا اليها تجاربهم الخاصة، من خطرات وأذواق ومعاريج روحية ،محاولين البرهنة على صدق آرائهم بالكتاب والسنة، وتأويل آراء الصحابة والتابعين والزهاد الأوائل ،ووضعوها في اطار الأحوال والمقامات ،فكان ما أطلق عليه اصطلاحا، بالتصوف، الذي استقل عن باقي المدارس الفقهية ،لأنه أصبح بدوره "فقها"مستقلا يهتم بالباطن-كما يسمونه -ومجاله أعمال القلوب، ومعارج الروح ومسالكها الوعرة،وتقلبات النفس وأحوالها وتقلباتها وتلوناتها وخبايها وأسرارها(وبغض النظر عن ما كيل لهم من من تجريح أدت بالبعض الى تكفيرهم ،فانهم نجحوا في تحليلاتهم للنفس الانسانية وابدعوا فعلا مما حدا بالكثير من مدارس علم النفس الحديثة بفرنسا(ما يسمى بعلم نفس الأعماق) ان تتعمق في تأملات المتصوفة في النفس وأسرارها،وتستعين بمصطلحاتهم حتى ان بعضهم أطلق على التصوف ب"..علم أحوال النفس"

 االعراق" بلد الضرب" الامام مالك

اجتمع بالعراق من المعترك العلمي، وأسباب الاجتهاد والاختلاف،ما لم يحدث للأمة العربية والاسلامية في كل تاريخها،فهوالبلد الذي ولد كل مبادىء الأمة الاسلامية ومدارسها الدينية والفلسفية واللغوية والأدبية والفنية والمعمارية والموسيقية بدون استثناء، والتى أغنت هذه الحضارة وأثرتها من الصين الى أصغرشبر في افريقيا.،وكان بالعراق لكل ملة أو نحلة أومذهب أو اتجاه سياسي، نواة أو صدى.، ولم يكن مصادفة أن ينشأفيها ثلاثة أئمة العالم الاسلامي، اثنان منهما سنيان ،وهما أبو حنيفة النعمان ،(امام فقه الرأي و التسامح) والثاني احمد بن حنبل(امام القياس والدليل والتمسك بحرفية النص) والثالث جعفر الصادق(امام فقهاء الشيعةالاثني عشر والزيدية والاسماعيلية والمتصوفة) والذي هوأيضا امام أهل السنة (أخذ عنه مالك وشيوخه وكذا أبو حنيفة) ناهيك عن الشافعي الذي أخذ أصول فقهه من العراق، قبل أن يستقر بمصر .

 الظروف الموضوعية لنشأة التصوف

ولكن هذا العصر النضير الوجوه بخلفائه، وعلمائه العالميين في العلوم الرياضية ، ورواد الكيمياء والفلك وعصر الترجمة والكتاب العالميين والشعراء الفحول، وعصر دار الحكمة والمراصد الفلكية ،والزمن الذي كان الناس فيه في العراق في عهد بني العباس"، يجوبون ثلاث قارات سعيا وراء العلم حتى من العامة..." كما قال المستشرق "نيكولسون"..أقول كان هذا العصرالفريد يجن تحت الثرى بذور فنائه شيئا فشيئا،عندما أكبت على الرفاهية والثرف طبقة موسرة ،تصنع في الاسلام كهيئة الفرس الأكاسرة ،.حيث أصبح.الغلمان زينة ،والقيان فتنة ،والتفسخ متعة،والحيطان تلبس الوشي والديباج ،والقصور أعاجيب الدنيا،واشتهرت أسماء قصور بغداد، كالخلد ،والتاج وقصر زبيدة، وقصورالبرامكة...

والبرامكة أنفسهم أنشأوا دولة داخل دولة ،ومثلوا عنصر التلف الذي سيصيب الدولة من مأمنها ومن قلبها،فيدير توجهها.

والمغنون يمثلون عنصرالترف بعد أن أصابت قصورالرشيد بدعة الغناء وتعالت موجاته، وسرت في الأغنياء كالوباء(وقد وصفها الجاحظ وصفا دقيقا)الذي سيودي بها من داخلها فيفسخها،

ومجان الشعراء وشعوبييهم كانوا أيضا عامل السرف الذي رحض أموال الأمة، وبعثرها في غير.مصارفها شرعا وسياسة، فيعجلون في تذويبها كما يذوب الملح في الأطعمة.

وحاشية بمطامعها مثل بحيرة في محيط الطمع المائج، وحدودوها الأربعة مصالحها.مما عجل بنسفها كما ينسف السيل الدمن

وجواري القصور حكمن ،وحكمهن أفانين، من سيطرة القلوب الى حكم الحاكمين،وألاعيبهن في حبك الدسائس في الردهات والمقصورات مع الولدان والخصيان، ومن شفاعات في الولايات الى شفاعات في الأعطيات ،وما يخطر ببال وما لايخطرعلى بال

وكانت أمهات الخلفاء والأمراء وأعيان الدولة من جواري القصر مما خلط الدماء (وتحول العناصر يوهي الأواصر ) حيث عكرت الدماء الصفاء الأصيل(ولست أدعو هنا الى العنصرية، ولكنه حكم التاريخ اذ أن" المنتصربن المتوكل" اشتهر بمؤامرة الترك وقتله لأبيه فانظر)، وفي نصف قرن تتابع ثلاثة خلفاء هجناء هم المأمون أمه خراسانية ،والمعتصم أمه تركية، والواثق أمه رومية ،والمتوكل أمه خوارزمية، كلهم تفننوا في تعذيب أحمد بن حنبل طيلة شبابه)

واسرة آل العباس يتكاثرون من كثرة ما يتسرون،ويصلون الى الاماء حتى يبلغ عددهم ثلاثين ألفا أغلبهم مترفون يتوارثون أفانين اللهو والغناء والاستهتار

وخلفاء كبكبوا في التفسخ والاستهتاروالتعالي على الرعية(فتجد الشعر للرشيد واللحن لأخته علية الشاعرة والملحنة الحسناء، تجالس عشاقها وهي بنت الخليفة المهدي (وأخت الرشيد) وأمير المؤمنين المنتصريسمع ويرى) و"العباسة" أخت الرشيد الجميلة والشاعرة و البرزة(مثل عمتها) تحضر المجالس الأسطورية لأخيها، وتحب جعفر البرمكي وتكتب له شعرا وكان لزواجها السري به سبب نكبة البرامكة،) فكانت أعاطيهم وأعطياتهم تنهمر في بطون الأشياع والأتباع التي لا ترتوي ولا تشبع. حيث أتمت الدورة الزمية دورتها الى غير رجعة.

والأرض غصت بجياع شاخصة أبصارهم الى رب السماء،لأن رواد القصوروبطانة السوء، لم يتركوا للناس الا رذالات الأشياء(كما يحصل في زمننا هذا والتاريخ يعيد نفسه شئنا أم أبينا،ولا يمكنه الا أن يعيد نفسه للذين لا يفقهون مكامن عبره أو للذين لا يقرؤونه الا من آخره )

وساهمت الحضارة والتجارة الممتطرة من أركان الدنيا الأربعة على أن يستشري البذخ، وتغص القصور بالجواري والسراري، وما يلزم لعالمهن وما يلزم، في السروالجهر، مما تتردد فيه على صفحات "ألف ليلة ولية"، فيتزواج الواقع والخيال، فينسبها التاريخ الى الرشيد، مع أن الأصل فارسي (هزارافستان ،تعني ،ألف خرافة) صيرها المترجمون الى العربية "ألف ليلة" وأضاف اليها المؤلفون أساطير ساحرة، من أقاويل عصره،ولكن المحقق أنه كانت في قصر الرشيد ألف جارية ،وفي عصر المتوكل حفيده سيتضاعف العدد ويتضاعف،.وهكذا انحرف بنوا العباس بالدولة الاسلامية الأصول،عن سبيل القصد ،الىالتعاظم المكلف،والتعاجم الأجوف،وكان الخضوع الفكري والفعلي والسياسي والاجتماعي للأغيارمن فرس وعجم، آفة الزمان، وسبيل دمار الدولة العربية في العراق، حيث رفرفت أجنحة الخمر والغناء والعجم والتعاجم والزندقة والتزندق، على مجتمع أغلبيته عرب ومسلمون متمسكون بدينهم ،مع أشتات من الفرس والترك، والسريان والهنود، ومن السمر والبيض والسود، ومن المجوس والزرادتشية والمانوية والمجوسية،بحيث لم تعد الزندقة تنغص الرؤوس فحسب بل شهرت أسلحتها ورماحها ،وكشرت عن أنيابها،وأبانت عن ويلاتها

.

..فاين زمان الرشيد الذى كان-برغم أنه" جمع من كل شىء سببا" كما وصفه المؤرخ البغدادي- حيث كان فقيها وشاعرا ومقيما لدينه ،وحاميا لثغوره ،و غزاء وبناء وجبارا، كان أيضا سماعا للخير،وبكاء لسماع الموعظة الحسنة.،" وشتان بين من يسمع ومن لا يسمع" فاذا بحفيده المتوكل يصبح نموذجا فريدا فى الجبروت، والاسراف والعبث والتقتيل(كان أقسى بني العباس على أهل البيت وشيعتهم، وطغيانه على أهل الذمة حتى لقبه المؤرخون الغربيون (نيرون المسلمين).، وكان له فى تشييد القصور تصرفات خرافية،لم يدانيه فيها الا ملوك فرنسا فى القرون اللاحقة(والتى كانت سبب نكبتهم أيضا بمجيء الثورة الفرنسية والبونابارتية..

ثم خلف المتوكل خلف. ابتدأت بهم قرون الدمار الذى لاراد له، لوقوعهم فى أخطاء الروح ومستنقعاتها ، وما فساد الأمم الافسادا لروحها(وما ظهور المتمردين فى الحضارات القوية ماديا الا بسبب تعفن الأرواح كما يقول كولن ولسون فى فلسفة التمرد واللانتماء) وبسبب تعفن الروح أو صفائها تسطع الدول أو تنهار، (وقد اختلف الباحثوت والمفكرون فى الشرق والغرب فى تحديد العلاقة الجدلية بين الحضارة والثقافة والمدنية والتطور، وتعدد مفاهيمها بتعدد المنظورات والرؤى، وهذا ليس مجال التفصيل في هذا)

مدرسة الزهد ببغداد

وبتعفن الروح وسط هذا البحر الزاخر بالمخاطروالاثارة والتناقضات ،كان طبيعيا أن يظهر التصوف، أو رفض الدنيا الغرور،وكان حريا بالقلوب الورعة(وما أكثرها في ذاك البلد وريث حضارات روحية على مهب التاريخ منذ أزيد من (3500 قبل المسيح) أن تقف موقف تساؤل بازاء مجتمع يتقلل من الفضائل ما وسعه، فظهرت مدرسة الزهاد كرد فعل للارتجاج الروحي الذي عم الأمة،بسبب اخراس المصلحين وقمعهم ،أو بسبب تخارس بعضهم خوفا أوتقية، أو تزلفا،أوتخاذلا،فكان أن ظهر في بغداد رعيل من الفقهاء (جلد مالك وهو في أوج مجده العلمي والفقهي وبجوار قبر النبي، بأمر من الخليفة العباسي أباجعفر المنصور لمجرد رفض فتوى،وسجن أبو حنيفة وهو ابن السبعين بأمر من نفس الخليفة وصعدت روحه الى بارئها وهو مسجون، ولم يشفع له لا علمه ولاامامته، وكم ضرب بالسياط أمام أمه بين يدي أبي جعفروهي تنوح ،ونجا الشافعي من قطع رقبته لاتهامه بالتشيع، ومحنة بن حنبل طيلة حكم ثلاثة خلفاء وتعذيبه تعذيبا مبرحا بسبب محنة خلق القرآن معروفة) حيث مال معظم الفقهاء والمحدثين الى الزهد، أمام جور السلاطين ،ووشاية الواشين ،فتتفرغوا للعبادة والتنطس في علم الآخرة،

 فظهر شيخ الزهاد المعروف" بن فيروز الكرخي،"وهو فارسي الأصل ،أسلم على يد امام الشيعة "علي بن موسى الرضى "، حيث كان أحمد  بن حنبل، والفقيه يحي بن معين، يجيئانه لمجالسته، وكان بشر الحافي المشهور والسري بن المغلس السقطي(خال امام الطائفة الجنيد وشيخه الذي ورث عنه طريق القوم) وبشر الحافي المشهورين من مريديه

والذي تؤكده المصادر الموثقة(بالرغم من عزوف معظم السلفية المعاصرة عن ذكر ذلك ) هو أن هؤلاء كانوا هم زهاد النصف الأول من القرن الثالث-الذين قعدوا للزهد بقواعد صارمة واضحة- والذين تخرج على أيديهم ابن المبارك، وأبو طالب المكي، والقشيرى الذين وضعوا كتبا في الزهد والرقائق،وأحوال القلوب، فتزعموا بذلك مدرسة التصوف الأولى ،يقول أبو بكر البطائحي عن أسس التصوف" في ذلك العصر،"أوتاد التصوف ثمانية ،معروف الكرخي وأحمد بن حنبل وبشر الحافي والسري السقطي.

.

ومع ذلك فستبقى ظاهرتي التصوف والتشيع هما الظاهرتان الدينيتان المغبونتان في عالم التسنن، للأسباب التاريخية والاجتماعيةالتي أتيت علي ذكرها أعلاه، فكلاهما افرازان لجور لحكام بني أمية وبني العباس، وتزلف العلماء وصمتهم عن الحق، التي ورتث العالم الاسلامي خلافات مذهبية اختلقت  وصراعات طائفية ابتدعت ( بالرغم من محاولات فضلاء أزهريين كبار مثل الشيخ أبو زهرة في مشروعه الأزهري في أوائل الخمسينات، الذي لم يكتب له النجاح للصلح بين أهل السنة و الشيعة ،حيث كانت الأزهر وما تزال معقل الدراسات الفقهية لكل المذاهب بكل موضوعية منذ أن انشأها الفاطميون(عام 361للهجرة /972) التي تخرج منها فطاحل  سنيين مثل عبد اللطيف البغدادي وابن خلدون التونسي، وطورها صلاح الدين الأيوبي الذي اقتلع التشيع في سوريا ومصر بالعلم والحوار مدة ثماني سنوات باصلاح الجبهة الداخلية قبل التفرغ لمواجهة الصليبيين، (و بعض القوانين المصرية سنة 1946 أخذت بأقوال الزيدية والامامية(انظر كتاب الامام جعفر الصادق محمد أبو زهرة ص17)

ولقدأصبح التصوف بعد القرن الثامن الهجري بعد الانحطاط الفكري والفقهي أكثر الثقافات الشعبية انتشارا في أرض الكنانة(وفي كل العالم الاسلامي)، بسبب الاستعداد الروحي لهذا الشعب منذ الفراعنة، وان قاهرة المعز ذات الألف مئدنة كانت شيعية فاطمية لمدة حولي قرنين من الزمن ثم تنامي التصوف في عهد المماليك وخاصة بعد قدوم صلاح الدين مصر الذي بجلهم وأكرمهم فأونشألهم خانقات وتكايا وزوايا في مصر وبيت المقدس،حيث يمتزج التصوف بالتشيع في مناحي كثيرة (وليس مجال البث فيه الآن) حيث  يعتبرمسجد سيدناالحسين ملتقى شيعة ومتصوفة العالم الاسلامي في أعياد المولد النبوي(هذا العيد الذي يعتبر بدعة ومنكرا عند معظم التيارت السلفية)،مع التذكير بأن معظم مشايخ الأزهر الكباركانوا منتمين الى الطرق الشاذلية (مثل شيخ الأزهر ووزير الأوقاف المصري الأسبق (في السبعيانت)،ومفتي الديار المصرية الشيخ محمود عبدالحليم وهو من أقطاب الشاذلية المعاصرين في مصر،و فقيه الأمة الاسلامية الشيخ متولي الشعراوي كمريد للطريقة الحراقية الشاذلية المغربية،والشيخ حسن البنا مؤسس اكبر جماعة اسلامية في التاريخ المعاصر للأمة الاسلامية بدأ حياته كمريد في الطريقة الصوفية الشاذلية الحصافية، قبل ان يجمع ما بين  التصوف وعلم الظاهر-حيث كان أبوه من علماء الحديث (الشيخ عبد الرحمن الساعاتي)- ومنهجية الحركية الحزبية التنظيمية) وهناك في مصرقطاع خاص يرعى شؤون التصوف وطرقه لكثرتها ،وهي" هيئة المجلس الصوفي الأعلى"التي كان يترأسها أحد مشايخ الأزهر الاستاذعبد الباقي سرور وغيرهم.

اما في المغرب العربي فالأمر يختلف، فالتصوف أصبح له باع كبير منذ القرن الخامس الهجري بفضل مؤلفات الغزالي وبفضل مجىءدولة الموحدين-التي امتدت من حدود مصر الى حدود النيجير والى نهر"ايبرو" عند مصب الوادي الكبير باسبانيا- الذي قوضوا دولة المرابطين الكبرى المؤسسة على سلفية الفقهاء الذين دفعول بجمع كل كتب الغزالي وخاصة الاحياء وحرقها في كبريات المدن الاندلسية والمغربية-علما بأن المؤسس لدولة الموحدين 'ابن تومرت المصمودي" كان قد تتلمذ على الغزالي بغزة.