على هامش مؤتمر التقريب بين المذاهب الإسلامية

المنعقد في دمشق

زهير سالم*

[email protected]

المشروع الإسلامي

فوق طائفي ـ إنساني

أعتقد أن ارتكاساً طائفياً حادا قد أصاب واقع الأمة العربية والمسلمة على المستويات الثقافية والسياسية والاجتماعية، فلم يكد ينجو منه أحد منذ الثلث الأخير من القرن العشرين، وما يزال شأن هذا الارتكاس يتعاظم  حتى اليوم..

حين نعود إلى تاريخ الحركة الإسلامية وأرشيف مؤسسيها منذ الأفغاني وعبده ورضا والبنا وسيد قطب والسباعي والمبارك لا نكاد نشتم أي ريح مبددة أو مفرقة حيث سادت المشروعَ الإسلامي المعاصر سياساتُ الدمج والضم والجمع والطي والتأليف والتوحيد..

كل الأصوات الشاذة التي كانت تنطلق مؤسِسة أو مكرسة للفرز أو التفريق كانت تلقى الصد الحكيم والاحتواء الحازم، حيث كان شعار قادة المشروع الإسلامي المعاصر:( خذ ما راق ودع ما كدر ). حراك ذاتي كان يقوم عليه من كل فرقة أحكمهم رؤية وأكثرهم سداداً..

لإدارة الصراع على الساحة السياسية، وآخذ سورية مثلاً، لم يكن يُطرح في مناهج جماعة الإخوان المسلمين ولا في كتابات مؤسسيها موضوع الاختلاف الديني أو المذهبي  خلفية للصراع والذي يمكن أن نطلق عليه بسهولة ويسر عنوان الحراك الديمقراطي. واستمر الحراك في أبعاده السياسية والوطنية سائدا حتى منتصف السبعينات تقريبا...

كانت تتم عمليات الفرز على الساحة الإسلامية للشخصيات العامة على أساس الولاء لمشروع الأمة في إطاره الأوسع: التحرر ـ الاستقامة ـ الموقف الأخلاقي العام. وعلى الأساس نفسه كانت تقوم القوى والأحزاب على أسس سياسية وبرامجية. دون أن ننسى أن نشير إلى بعض الملابسات وسوء الفهم كانت تشترك في صنع الموقف.

لا ينسى أحد من الإخوان المسلمين مثلاً كلمة الدكتور محمد الفاضل في تأبين زميله الدكتور مصطفى السباعي. الكلمة التي عُدت يومها من أقوى و أرصن الكلمات. وحين جاء نبأ اغتيال الدكتور محمد الفاضل في الأحداث التي ضربت سورية في أوائل الثمانينات وضع الكثيرون أيديهم على رؤوسهم حيرة ودهشة. وما تزال الجهة التي نفذت ذلك الاغتيال موضع الريبة والشك. يؤكد بعض المطلعين على الأحداث أنه كان المقصود إبعاد رجل في مثل مكانته وعقله عن طريق مشروع العنف الثوري الذي كان يملأ الرؤوس مستنسخا من التجربة الستالينية.

في خمسينات القرن الماضي وصل إلى سورية الداعية الإيراني (نواب الصفوي)، واستقبله الدكتور مصطفى السباعي، كما استقبله ثلة من رجال الفكر والدعوة الإسلامية في سورية، وقدموه في المجامع واستمعوا إليه خطيباً ومحاضراً ومتحدثاً، وجمعوا له الكثير من الجماهير ليخطب فيها.. ودخل به الدكتور السباعي رحمه الله على الشيشكلي الذي كان رئيس الجمهورية يومها وطلب منه أن يستمع إليه..

في الستينات والسبعينات، كان كتاب العلامة باقر الصدر (اقتصادنا) واحداً من كتب المنهج في جماعة الإخوان المسلمين، وكان كتاب (فلسفتنا) يُقرأ لدى المثقفين من أبناء الجماعة. وبالتوازي قام السيد خامنئي ( مرشد الثورة الإسلامية اليوم ) من قبل بترجمة كتاب هذا الدين لسيد قطب إلى الفارسية. يقول أحد قادة الدولة في إيران في جمع حاشد نحن تربينا على كتب جماعة الإخوان المسلمين: البنا وقطب والسباعي..

عندما انتصرت الثورة (الإسلامية) في إيران، وأعلم الآن أنني عندما أقول (الإسلامية) سأواجه بالاعتراض من قاعدة عريضة من المسلمين!! كان موقف جماعة الإخوان الإخوان المسلمين في التنظيم العام كما في التنظيم القطري في سورية موقفاً مؤيداً وداعماً، وعُد انتصار الخميني انتصاراً للمشروع الإسلامي في إطاره العام..

كل هذه الحقائق تاريخ لا يستطيع أن يجادل فيه أحد. الجدال يقع فيما وقع بعد. في المأزق الطائفي الذي تعيشه الأمة اليوم، وهو مأزق حاد وخانق ومدمر، مأزق لا يمكن الخروج منه بمؤتمرات خطابية للتقريب، ولا يمكن الخروج منه بأن يلقي كل فريق العبء على الآخر بطريقة اتهامية أو استعلائية..

وهذا المأزق كما هو خانق ومدمر لمشروع الأمة أجمع فهو أكثر تدميراً ونقضاً لمشروع (الحركة الإسلامية) في إطاريه الخاص والعام. وأشد المتضررين من هذا المشروع الطائفي، هو المشروع الإسلامي وحملته، المشروع الإسلامي هو حامل الرسالة ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)  يجدون أنفسهم فجأة في خندق مترب يحاصرهم فقهه وأفقه وكلاهما في الضيق سواء.

بسذاجة بالغة يتساءل صاحب المشروع الطائفي على لسان شيطان: هل يستطيع ربك أن يحشر الدنيا في البندقة؟! هذا أخو ذاك، سذاجةً وشيطنةً على السواء. وحين أؤكد أن الإسلام ومشروعه هو فوق طائفي بالمطلق فإن هذه الحقيقة إنما توازي قول القائل كرة الأرض أكبر من حبة البندق، ومثل هذه الحقائق لا يمكن أن تكون موضع نزاع إلا عند السذج والشياطين. حقيقة واقعة لا يلغيها ما بدأنا الحديث به من ارتكاس عام في خنادق الطائفية المتربة تصيب مجموع أبناء الأمة بلا تمييز.

ولقد تبدى هذا الحصار للمشروع الإسلامي واضحا في التجربة العراقية القريبة منا في الزمان والمكان.

 اضطرارا وجد العديد من القيادات الإسلامية في العراق مخرجهم في الانضواء في سياق علماني يفرج عنهم بعض أسوار الحصار الخانق الذي فرضته عليهم الحالة الطائفية التي لم يكونوا من جناتها ولكنهم كانوا من حطامها ووقودها.

في مواجهة حالة مثل الحالة العراقية تسمع العديد يصرحون أو يؤكدون: العلمانية هي الحل. يردف بعض قادة المقاومة العراقية: نريد نظاماً يحترم الإسلام. لا نعتقد أن هذه النتائج لولا المقدمات الخاطئة موضع رضى أو تسليم. ولم يضرب حملة المشروع الإسلامي بجذورهم في الأرض، ولم يدفعوا التضحيات الجسام لينتهوا إلى نهاية مثل التي نتحدث عنها. ولا أعتقد أن الدعوة إلى المراجعة التي نتوجه بها إلى الجميع تأتي متأخرة..

ـ دعوة إلى العودة بالمشروع الإسلامي إلى منطلقه الأول مشروع: للضم والجمع والتوحيد. ونحن نعتقد أن علماء الإسلام على مر العصور  هم حملة المشروع الإسلامي الحق لم تكن تنقصهم المعرفة بأحوال المخالفين والمختلفين.

 افتح كتاب (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين) للإمام أبي الحسن الأشعري المتوفي سنة 324، وهو الإمام في العقيدة لأكثر من نصف المسلمين، تجده يقول في مقدمة كتابه ذاك: (اختلف الناس بعد نبيهم، صلى الله عليه وسلم، في أشياء كثيرة ضلل فيها بعضهم بعضاً، وبَرِئ بعضهم من بعض فصاروا فرقاً متباينين وأحزاباً متشتتين إلا أن الإسلام يجمعهم ويشتمل عليهم..) ثم يورد رحمه الله من أقاويل أهل الفرق ما تشيب لبعضه نواصي الولدان..

إذاً لم يؤت حملة مشروع الأمة المستوعِب والمنفتح، كما يزين البعض اليوم من نقص معرفي، وإنما قام مشروعهم في الأصل على الاحتواء والدمج والطي وعلى أن البحر الأعظم  يذوب فيه ما يُحمل إليه. تقمصُ روحية البحر اللجي هي حال نفسي إذا فارقت تحول البحر إلى بركة لزجة موحلة وربما منتنة أيضا..

وروح التعصب التي قد تظهر وتنتشر وتسود لا تقابل بمثلها. فأنت لا تطفئ النار بإمدادها بالمزيد من الوقود. وكما اعتمد علماء الأمة في أصول فقهها أصلا لسد الذرائع، نجدنا اليوم نحتاج إلى اصل إضافي في إسقاطها. نريد لحملة المشروع الإسلامي أن يسقطوا من حساباتهم أنهم مدعوون للتعصب ما دام كل من حولهم متعصبا، فما هكذا تورد يا سعد الإبل، و يظل الشرب من نهر الجنون على طريقة توفيق الحكيم هي الجنون بعينه.

 تتجسد الحالة فوق الطائفية أولا في نفسية فوق طائفية: الأصل الذي تتبعه الفروع، والمعصم الذي يحتوي الكف والأصابع، وهارون الرشيد يقول للسحابة أمطري حيث شئت، والنفسية فوق الطائفية تنتج تفكيرا فوق طائفي، ومشروعاً فوق طائفي، وممارسة فوق طائفية. والحالة فوق طائفية على المستوى الآخر هو شعور الفرع بالانتماء إلى الأصل، وتجاوز دواعي النقمة إن وجدت، والبناء على حقيقة الشراكة التاريخية الجبرية إن صح التعبير.

 وإنه لمن المؤسف أنه بينما كانت الحركة الإسلامية في مطلع القرن العشرين ترود لمشروعها الإسلامي الحضاري آفاقه الإنسانية الحضارية العليا وبينما كان سيد قطب رحمه الله تعالى يكتب ( السلام العالمي والإسلام )، وكان الدكتور محمد المبارك في جامعة دمشق يدرس كتابه ( نحو إنسانية سعيدة )؛ تجد الأمة نفسها محاصرة في قوس مشروع طائفي بغيض يفتت صفها، ويقزم رسالتها، ويضرب عليها الذلة والمسكنة أفانين.

أسهل شيء فيما نحن فيه أن نتقاذف الكرة، أو أن نستمتع بنعومة خيوط الشرنقة الحريرية، لعلها تبرد بعض الحرور عن جلودنا، أو أن يصر بعضنا على ادعاء البراءة والتسامي، أو أن يصر البعض على أن هذه اليد شلاء، وأن اليد الشلاء ليست منا..

المستنقع آسن، ورائحته تزكم الأنوف، تسوء الصديق وترضي العدا، والحل في المراجعة الأولية للموقف النفسي وللمعطى الفكري، وللمشروع السياسي، والخيار: نخرج من هذا أو نختنق، وأول ما يواجه بهذه الحقيقة حملة المشروع الإسلامي ليس لأنهم، كما يزعم البعض الأكثر انغماسا في المشروع الطائفي، بل لأنهم الأليق بقوله تعالى (وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها ).

              

(*) مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية