المستشار الشيخ فيصل مولوي
كلمة الأمين العام للجماعة الإسلامية
في حفل الإفطار السنوي لعام 1428/2007 – فندق فينيسيا
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى جميع إخوانه الأنبياء والمرسلين، وبعد...
أيها الإخوة والأخوات
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
رمضان شهر الخير، إنّه مدرسة تربوية تجعل الصائمين ﴿يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون﴾ يبادرون دائماً إلى فعل الخير مع جميع الناس.
من أهم خصال الخير حسن التعامل مع الآخرين، (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب). فالإسلام يطلب من الصائم أن لا يبدأ علاقته مع الآخر بالكلام المسيء، وبالصوت المرتفع أكثر من الحاجة. وإن بدأه الآخر بمثل ذلك فعليه أن لا يردّ (وإن سابه أحد أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم)، لأنّ الصيام يشغله عن رد السيئة بمثلها: (إلاّ الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به).
ما أحوجنا اليوم، وفي هذه الظروف المصيرية الصعبة أن نتمثّل في خلافاتنا وصراعاتنا أخلاق الصائمين، فهي ستساعدنا يقيناً على اجتراح الحلول وإنقاذ أنفسنا والناس.
* * * *
أين نحن اليوم في لبنان؟
نحن نعيش أصعب مراحل تاريخنا المعاصر. عندنا رئيس جمهورية منتخب، جرى التمديد له فاعتبر مطعوناً بشرعيته بسبب هذا التمديد. وعندنا حكومة نالت ثقة المجلس النيابي المنتخب، واستقال منها ست وزراء، فاعتبرها الرئيس مع المعارضة حكومة فاقدة الشرعية وغير ميثاقية وغير دستورية، مع أنّها لا زالت تتمتع بثقة المجلس النيابي. وعندنا مجلس نيابي أقفلت أبوابه منذ شهور، لأنّ رئيسه لا يعترف بشرعية الحكومة، ولا يريد أن تمثل أمام المجلس ليحاسبها أو لينزع عنها الثقة. بعد غد يدعى مجلس النواب للاجتماع لإنتخاب رئيس جديد، إنّه بصيص أمل، لكن هل يدرك السادة النواب ضخامة المسؤولية الملقاة على أكتافهم؟
1- إذا لم يتمّ انتخاب الرئيس ماذا سيحدث؟ كنّا أمام رئيس مطعون بشرعية التمديد له، سنكون بلا رئيس. كنا أمام حكومة مطعون بشرعية استمرارها بعد استقالة ستة وزراء، لكنّها ظلّت تمارس أعمالها، وهي الآن تتصدى لتأخذ صلاحيات الرئيس، هذا ما ترفضه المعارضة، لذلك فقد نصبح أمام حكومة ثانية. عندها ستأخذ كل حكومة قطعة من أرض الوطن، وبعضاً من إدارات الدولة، لأنّه لا حكومة دون أرض وشعب وإدارات. إنّها صورة مؤلمة كريهة حتى لو ظلّت محصورة بتكريس الانقسام السياسي في البلاد، فكيف لو تطورّت إلى فتنة أهلية حين تريد كل حكومة فرض مشروعيتها أو توسيع حدود سلطتها؟
هل هناك (جريمة) - مع الاعتذار عن هذه الكلمة لأنّي لم أجد تعبيراً مناسباً غيرها - بحقّ الوطن أكبر من هذا التقسيم؟ وهل يدرك السادة النواب مسؤوليتهم التاريخية إذا ظلّوا متشبثين بمطالبهم وفي مواقعهم فوصلوا بالبلاد إلى هذه النتيجة؟
2- لن أتحدّث عن انتخاب الرئيس بأكثرية الثلثين أو النصف زائد واحد، لأنّي أعتقد أن طرح هذه الحالة سابق لأوانه، فالأكثرية تصرّح بأنّها تريد رئيساً توافقياً، وأنّها لن تعلن مرشّحها إلا بعد فقدان الأمل بالتوافق على الرئيس. بالمقابل فإنّ المعارضة تطالب بالرئيس التوافقي أيضاً. وإذا كان الجميع يريدون الرئيس التوافقي، فإن طرح مسألة النصاب الآن ليس لها أي نتيجة إلاّ إثارة خلاف دستوري ليس له حلّ، ومنع الوصول إلى الرئيس التوافقي، وهو في رأينا خطأ جسيم يجب العدول عنه.
3- نرى أنّه لا بدّ من تذليل كل العقبات أمام انتخاب رئيس توافقي، هذه مسؤولية الجميع. ليس معنى الرئيس التوافقي أن يكون كما قيل بلا لون ولا طعم ولا رائحة، وأن يجمد في الموقع الوسط بين الطرفين، لا يتحرّك يمنة ولا يسرة، بل العكس هو المقصود، فالرئيس التوافقي يجب أن تكون عنده القدرة على جمع الطرفين حول المسائل الأساسية، وإقناعهما بالتنازل عن كثير من الأمور الثانوية، من أجل المحافظة على وحدة الوطن، ومنع التدخلات الأجنبية في شؤونه، وتأمين استقراره وتطوره، وإصلاح ما فسد في إدارته. الموقع الوسط ليس مسألة تحسب بالأمتار، لكنّه يعني عدم الانحياز إلى أي من الطرفين، مع القدرة على اتخاذ أي قرار، بموضوعية كاملة وشفافية صادقة، سواء كان في مصلحة هذا الفريق أو ذاك، وبأقلّ قدر من إثارة حفيظة الفريق الآخر. إنّه دور صعب، لكنّنا لا نزال نرى بين القيادات السياسية في البلاد من هو مؤهّل للقيام بهذا الدور لو صدقت النيّات.
- الرئيس التوافقي هو في رأينا الرئيس القادر على إنهاء الصدام السياسي، والعودة إلى أصول الخلاف السياسي وكيفية حلّه في النظام الديمقراطي، والقادر على تدوير الزوايا الحادّة دون تفريط بالثوابت التي تحفظ لبنان.
الإتّفاق على الثوابت:
أ- المحافظة على اتفاق الطائف الذي أنهى الفتنة الأهلية السابقة، وأعلن لبنان وطناً حراً سيداً مستقلاً, وكرّس وحدة الأرض والشعب والمؤسسات. وأكّد هوية لبنان العربية. لا يزال هذا الاتفاق صالحاً لمنع أي فتنة جديدة، والمطلوب تطويره بالحوار وفي ظل الأجواء المناسبة، للارتقاء بلبنان إلى درجات أفضل، في مجال الحريات السياسية ورعاية حقوق الإنسان والعدالة الشاملة بين جميع أبنائه ومناطقه.
ب- أول أعمال الرئيس الجديد تشكيل حكومة وحدة وطنية يكون من أول أهدافها: المبادرة إلى إقرار قانون جديد للانتخابات النيابية، أكثر عدالة وتمثيلاً لجميع شرائح المجتمع اللبناني، يعتمد النسبية ولو بشكل جزئي وعلى مراحل، ليعمّق انتماء المواطن إلى الوطن، والمسارعة إلى إجراء انتخابات مبكرّة تتجلّى فيها النزاهة والشفافية، هذا المجلس يتولّى إعادة بناء مؤسسات الدولة بشكل ديمقراطي سليم، والمباشرة بتنفيذ الإصلاحات السياسية.
ج- إعادة قضية الاستراتيجية الدفاعية الشاملة للدراسة في حوار موضوعي أخوي، ينطلق من الحاجة الوطنية للمحافظة على المقاومة واستمرارها، ومن ضرورة ضمان وجود التنسيق والتكامل بينها وبين الجيش النظامي، والبعد بها عن أن تكون موضع خلاف سياسي، أو ان يستفاد منها في الصراعات الداخلية، وتوسيعها لتكون متاحة أمام الجميع، وتأجيل الحديث عن نزع سلاح المقاومة إلى أن يتمّ إقرار الاستراتيجية الدفاعية.
د- إستعادة العلاقات اللبنانية السورية إلى أجوائها الأخوية الطبيعية، ومعالجة كل الخلافات بالحوار والتفاهم، والمحافظة على دور لبنان التاريخي الذي يحتفظ بعلاقات طبيعية مع جميع أشقائه العرب دون الدخول في محاور النزاعات العربية.
هذه هي المسائل التي ينبغي التوافق حولها أولاً، ومن ثمَّ يصبح التوافق على رئيس يلتزم بها ممكناً وميسوراً إن شاء الله.
* * * *
جاء اغتيال النائب أنطوان غانم حلقة في مسلسل جرائم الاغتيال السياسي التي تستهدف إرهاب فئة من السياسيين، وخلخلة الأوضاع الأمنية في البلاد، وتعطيل مبادرات التفاهم والتوافق. لقد استنكر الفريقان هذه الجريمة السياسية، واعتبرها الجميع تهديداً للسلم الأهلي، وأنّ فاعلها يريد تعطيل مبادرة الرئيس نبيه برّي، وتدمير البلد. إذا كان هذا الموقف متفقاً عليه، فالرد على هذه الجريمة لا يكون إلاّ بالتوافق على انتخاب الرئيس الجديد، لوضع لبنان على طريق الحل الديمقراطي، وإنقاذه من جميع أنواع التدخل الأجنبي. إنّ المسؤولية الوطنية يجب أن تدفع السادة النواب إلى تلبية دعوة الرئيس نبيه برّي، والتوجّه إلى ساحة النجمة لاستئناف الحوار والتشاور في الغرف المغلقة.
- عام 1975 وقعت الفتنة الكبيرة، وتحوّل الانقسام إلى حرب أهلية، لم تتوقف حتّى أنجز النواب صيغة التوافق التاريخية في مؤتمر الطائف عام 1989. واليوم يتكرر الحال، وقبل أن يتحوّل الانقسام إلى فتنة مدمّرة، فإنّ أمام السادة النواب فرصة تاريخية للتوافق على رئيس جديد. من الطبيعي أنّهم لن يستطيعوا إنجاز ذلك في يوم أو يومين. لكن الزمن يسابق الجميع، وكلّما تأخر التوافق اقتربنا من الانفجار، ليس أمامنا وقت طويل. لا مجال اليوم للاتهامات والردود، ولا للعنتريات والمواقف البطولية التنظيرية. لا بد أن نجلس إلى طاولة واحدة بروح المحبة والثقة، لننتزع من كل جهات الخارج رغبتها في فرض الحلول المناسبة لمصالحها، ولنتحرر جميعاً من كل أنواع الوصاية الأجنبية. وحده التوافق يعيد اختيار الرئيس إلى مجلس النواب، وإذا لم يمارس المجلس دوره هذا، فقد يتم التوافق في الخارج بين أنواع الوساطات الإقليمية والدولية، ثم يفرض الحل على لبنان. وقد يكون عند ذلك حلاً يكرّس المصالح الأجنبية، أو يكون تفجيراً جديداً نهدم به بلدنا بأنفسنا. وكِلا الأمرين لا يليق بمن انتخبهم الشعب، وحمّلهم مسؤولية تدبير شؤونه وصياغة مستقبله، فتخلّوا عنها، وتركوا البلاد أمام المصير المجهول.
* * * *
إنّ هذا التوافق مسؤولية وطنية كبيرة، وضرورة لا بد منها. وهو لا يمكن أن يقوم إلاّ بتنازلات متبادلة، ويجب أن تكون متزامنة أيضاً.
أوّلها: وهو مطلوب من المعارضة: إنهاء الاعتصام القائم في وسط بيروت. هذا الاعتصام الذي فقد كل مبرراته، ولم يعد له أي نتيجة إيجابية تستفيد منها المعارضة، وأصبح مجرّد إضرار يلحق بالعاصمة ويسيء إلى سمعة لبنان، وهو اليوم يشكّل ضغطاً معنوياً على أي حوار أو تشاور يحصل في مجلس النواب، وقد يتسبب في تعطيله أو عرقلته. إنّ إنهاء الاعتصام لا تخسر فيه المعارضة شيئاً، لكنّه إذا حصل سيكون إشارة إلى صدق رغبتها بالتوافق، ويساعد على الوصول إلى حلّ.
ثانيها: وهو مطلوب من الموالاة: أن تعضّ على جرحها النازف باغتيال أربعة من نوابها، وتمسك عن الاتهام السياسي لأي جهة، لأنّ مثل هذا الاتهام لا يفيدها شيئاً، لا في معرفة المجرم، ولا في معاقبته، ولا يعيد النواب الذين فقدناهم، لكنّه فقط يلقي ظلالاً سوداء على الحوار المطلوب، ويعرقل التوافق على رئيس جديد.
إننا نطالب السادة النواب أن يكونوا على قدر المسوؤلية التي تحملوها، وأن ينقذوا لبنان قبل فوات الأوان