تشرق الشمس من الصين
ابتهال قدور
إذا نظرنا إلى الأشياء من الوجهة الكونية، فإننا نرى الحضارة تسير كما تسير الشمس، فكأنها تدور حول الأرض مشرقة في أفق هذا الشعب، ثم متحولة إلى أفق شعب آخر...كلمات جادت بها عبقرية "مالك بن نبي".
وحين خطت أنامله المبدعة هذه الكلمات، كانت إشراقة شمس النهضة من حظ اليابان، سبقتنا اليابان إذاً.. مع أن انطلاقتنا الحديثة عاصرت انطلاقتها!!
راقبنا عن كثب تطور اليابان، وعبرنا عن إعجابنا بإنجازاتها، وضربنا بها الأمثال، ولكن...لم نعمل ما عملته اليابان من أجل استقدام إشراقة شمس الحضارة إلى ديارنا...
وها هي أمتنا العريقة تراقب خطوات انتقال الشمس إلى ديار قوم آخرين، بآهات وحسرات...فهل كنا نأمل أن تأتينا الشمس حنيناً لموضع إشراقتها العتيق، أم رحمة بنا وقد كنا قوماً أعزاء، أم انحيازاً لنا نحن شعب الله المختار!!؟
اليوم تشرق الشمس على الصين بعد أن دارت دورتها حول الأرض، ورمقتنا من بعيد بنظرة مبصرة فما وجدت فينا شيئا قد تغير يؤهلنا لإنشاء نهضة، أكملت مسيرها إلى حيث الإنسان الذي يؤدي مهامه بتناسق وتناغم مع الغايات التي حددها...
لم تتعهد الصين بتحطيم رقم قياسي في سرعة وصولها، لم تمارس الصراخ والعويل، ولا البكاء واللطم، ولكنها أيضا لم تنبهر انبهاراً يذهب ببصرها، لذلك لم تضيّع الاتجاهات، ولم تُلق بالرايات مستسلمة للآخر...ظل الآخر بالنسبة للصين غريباً، وليس من الحكمة التسليم لغريب، فما بالك بغريب لم يَثبُت طهر يديه من دماء بريئة، ولا تأكد نقاء جيوبه من ثروات منهوبة، ولا عُرف بصفاء نيته، ولا بحكمة مشروعه، ولا بإنسانية تحركاته، ولا بعدالة سياساته..
لكن الصين لم تتصرف كالسذج، الذين يغلقون أبوابهم ويقبعون خلفها ويعزلون أنفسهم عن حركة العالم، فقد استطاعت إبصار الخيوط التي ستؤهلها للنهوض وأمسكت بها وسارت على ما رسمته من خطط بخطى بطيئة لكنها واثقة، وهذا هو العالم يفتح عينيه ليراها واقفة كهرم منتصب يناطح أقوى قوى العصر...
وزحفها البطيء المدروس، يعطينا الانطباع بأنها لم تُحقق كل أهدافها بعد، فلا يبدو أن إغراق الأسواق بمنتجاتها هو غاية غاياتها، إنها تتحرك على المستوى الثقافي أيضا، فتفتح مراكز لتعليم اللغة الصينية، وتأخذ حصتها من القنوات الفضائية الناطقة باللغة العربية، وترسل بعثات من خبراء وأساتذة وطلبة لتعلم لغتنا، وتقوم بتقديم عروض فنية وموسيقية وأنشطة مسرحية بشكل مستمر ومتواصل في مختلف الدول العربية، هذا عدا عن انتشار معاهدها الصحية ونواديها الرياضية، و مطاعمها التي تعمل من ناحية أخرى على كسر حواجز التذوق، بتقديمها لنكهاتها المختلفة التي عادت مستساغة لدينا بشكل كبير...كل هذه التحركات هي محاولات لكي تظهر للعالم العربي كحضارة لها خصوصية تميزها عن النموذج الغربي المشوه بأعمال ذات غايات استعمارية..
من موقف حدث معي، أحسست أن كل صيني يؤدي مهمة في بلادنا، ولكنها مهمة على إيقاعات هادئة ساكنة، كان ذلك حين توجهت لتناول العشاء في أحد المطاعم الصينية، كسراً للروتين، واحتاجت ابنتي الصغيرة للدخول إلى دورة المياه، رافقتها وكانت دهشتي كبيرة حين لم أجد ماءاً في دورة المياه، وهو أمر يكاد يكون مستحيلاً في دولة الكويت، واستأت من الموقف وحدثت نفسي: هيا.. نحن لسنا في أوروبا هنا، لابد من أن أتحدث إلى المسؤول، وتوجهت إليه وسألته عن سبب كسر هذه القاعدة العامة في البلد، فأجابني بكل أدب وهدوء وحرص على ابتسامة عريضة، بأنها التقاليد الصينية...!! و في إصرار على التعريف بتقاليده ضم كفيه وقربهما إلى وجهه في تحية رقيقة تُحوّل امتعاضي إلى رضى...
كانت بداية برنامج الانفتاح الصيني عام 1997 وهانحن اليوم أمام إنجازات هائلة حققتها هذه الدولة في زمن نستطيع اعتباره قياسياً!
هي اليوم أكبر قوة اقتصادية في شرق وجنوب شرق آسيا، هي اليوم متفوقة على اليابان في الاستيراد والتصدير والناتج القومي، الذي يبلغ ضعف ناتج الهند وروسيا معاً، وهي بعد خمس سنوات – كحد أقصى- ستتفوق اقتصادياً على الولايات المتحدة الأمريكية!!
لكنها على الرغم من ذلك تستطيع بذكاء خارق أن تتسبب في حيرة الولايات المتحدة تجاهها، فهي منافس خطير يتضخم و يتنامى، إلا أنه لا مفر من الإبقاء عليها كشريك حيث لا غنى عن الأيدي العاملة الصينية التي تساهم في سير عجلة الصناعة الأمريكية...
انظروا يا أبناء قومي كيف استطاعت هذه الدولة أن تحول مشكلتها السكانية إلى عامل قوة...!
وبمناسبة ذكر المشكلة السكانية، لا بأس في وقفة تأمل في الجدل الدائر حولها...
لقننا مدرس الجغرافيا أن البشر في أية دولة يسمون "ثروة بشرية"...
على أرض الواقع رأينا أن البشر هم أقرب لأن يشكلوا "عبئاً بشريا"...
المؤتمرات الدولية الموجهة إلى عالمنا العربي والإسلامي تطرح باستماتة مشكلة "الانفجار السكاني" وتعزو إليها أسباب الفقر والجوع والبطالة والتطرف والإرهاب وأزمة البيئة وتغير المناخ...
بعض المنظمات الحقوقية تدعو إلى حق الإجهاض المتعمد، مشروع يرى فيه البعض خطوة تُخلّص العالم من ملايين إضافية من البشر...
لكن، على الضفة الأخرى، تشكو الدول الغربية، وبعض الدول العربية والمسلمة من مشكلة "المجتمعات الهرمة" وتعتبره شراً محدقاً بها يعيق تطورها ونموها الاقتصادي، وقد ينهيها....
وبينما ندور نحن في ما نُصدّق وما نُكذّب من كل هذا، تخرج الصين من ركام هذه "لأفكار الميتة"، التي يلقي بها الغرب إلينا، لكي تثبت أنها لم تضيع وقتها في ما يقولون، فقط ركزت على ما تملك من ثروة، واستفادت منها الاستفادة القصوى، ووظفتها التوظيف الأمثل لكي تحقق نهضة وتطوراً وقوة عظمى!!
وبينما تشرق الشمس على أمم أخرى، تبقى مجتمعاتنا النائمة في الظل، مرتعاً لكل من يريد نشر ثقافته، ويبقى نمطنا الاستهلاكي سوقاً مغرية أمام كل من يريد تطوير صناعاته، وتبقى عوالمنا الفكرية مرمى خاويا أمام كل أشكال "الأفكار الميتة" التي لفظها أصحابها، وتبقى فضاءاتنا ساحة لمراهناتهم على الرغم من تنوع ثرواتنا وتعددها، وعلى الرغم من امتداد رصيدنا الثقافي الراقي في أعماق التاريخ، وعلى الرغم من اعتناقنا لدين إلهي عظيم يبين لنا معالم الطريق...