مفاهيم تربوية
معالم أساسية في فقه الدعوة الإسلامية
د. موسى الإبراهيم
إن للدعوة الإسلامية فقهها المتميز سواء في المبادئ أو الأهداف والوسائل، والداعية الحكيم هو الذي صقلته التجربة الميدانية وأمتلأت مشاعره بحب دعوته والفناء فيها ولم يشغل قلبه أكثر من همه بدعوته ورسالته التي يحملها بين جنبيه.
ومن أهم تلك الأسس والمعالم الدعوية التي لا ينبغي للداعية أن يغفل عنها بحال من الأحوال الأمور التالية:
الأول: البصيرة الواعية
فالبصيرة الواعية هي أهم أسس الدعوة إلى الله تعالى كيف لا وقد قال الله تعالى:
{قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}([1]).
ومما يساعد على توفر هذه البصيرة عند الدعاة ما يلي:
1- العلم الذي يؤهل صاحبه لإقامة الحجة على الخلق جميعاً.
2- التكامل في ثقافة الداعية بين العلوم التراثية والعلوم المعاصرة.
3- أخذ العلم وأساليب الدعوة عن العلماء والدعاة الربانيين.
ولا يكفي الرجوع إلى الكتب وحدها في تربية الدعاة وإعدادهم وقد قيل في هذا الخصوص: لأن تصحب داعياً خير من أن تقرأ ألف كتاب في الدعوة.
الثاني: الحال الصادق
الدعوة إلى الله تعالى حالة وليست مجرد فكرة ومقالة، وفاقد الشيء لا يعطيه وحتى تتوفر هذه الحالة في شخصية الداعية لا بد من مراعاة أمور أهمها:
1- التخلق الصادق بما يدعو إليه أولاً.
2- العناية بالقلب ورقته لأن قسوة القلب حجاب دون التأثر والتأثير.
3- الاعتقاد بأن الدعوة الإسلامية رسالة وليست وظيفة وهي مهمة في الحياة يشرف الداعي بأدائها وليست مهنة يرتزق من ورائها والفرق كبير بين النائحة والثكلى.
الثالث: معرفة العصر
إن العصر زماناً ومكاناً وأشخاصاً –هو ميدان دعوتنا.
فما لم نعرف عصرنا على حقيقته فلن نفلح في تربيته وتوجيهه فضلاً عن تغييره وإصلاحه.
ولذلك لابد للداعية من ملاحظة المعاني التالية في هذا الميدان :
1- تلمس هموم الناس ومخاطبتهم بما يألفون وبما يحتاجون إليه.
2- التوازن بين المحلية والعالمية في إدراك العصر الحاضر.
حيث إن وسائل الإعلام المختلفة جعلت العالم كغرفة صغيرة أمامنا فلا بد للداعية أن يوازن في دعوته بين مجتمعه المحلي وظروفه واحتياجاته وبين العالم الكبير الذي يفرض تأثيره على المجتمع شاء الناس أم أبوا.
3- التكامل بين الرخص والعزائم.
فلئن أخذ الداعية نفسه بعزائم الأمور فهذا شأن القدوة وحاله، ولكن عليه أن يقبل من الآخرين أخذهم بالرخص إن اختاروا ذلك، وإن أراد رفعهم إلى مستوى العزائم فليكن عبر التربية الحكيمة والنفس الطويل الهادئ. مع ملاحظة أن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، وليس الترخص أدنى الحالتين دائماً، والأمر يحتاج إلى فقه عملي وحياة مع الربانيين من الدعاة لتمييز هذا من ذاك من خلال فقه الواقع ومعرفة الملابسات والبواعث والخلفيات وبيئة الحدث ومآلات الأمور وتداعيات الأحوال.
الرابع: فقه الأولويات في ميدان الدعوة
ولعل هذا الأمر من أهم ما يحتاجه الدعاة لتكون الجهود في محلها ولتؤتي ثمارها ومن أجل ذلك لابد من مراعاة أمور في هذا السياق أهمها.
1- تقديم الأهم على المهم.
2- تقديم الأصول على الفروع.
ولا يعني هذا إغفال الفرع أو المهم بل يجب وضع كل شيء في مكانه وتوجيه النبي % معاذاً عندما بعثه إلى اليمن داعياً هو الأصل في هذا الباب حيث قال له عليه الصلاة والسلام: >ادعهم إلى لا إله إلا الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم.. الحديث<([2]).
3- معرفة واجب الوقت وموقعه من الأحوال العامة.
إذا أدركنا أن هناك مهم وأهم فلا بد أن ندرك أن واجب الوقت ـ أي اللحظة الآنية التي يعيشها الداعية ومن حوله ـ هو الأهم دائماً ولا يقدم عليه غيره بحال.
فمثلاً إذا كان الدعاة يقومون بواجب الدعوة ومهماتها المختلفة وحان وقت الصلاة، فلا يقدم على الصلاة غيرها مهما كانت أهميته ذلك الغير والحاجة إليه طالما بالإمكان تأخيره عن أداء الصلاة الواجبة والتي حضر وقتها. وكذلك إذا كان الدعاة يقومون بمهمة التخطيط والتنظير للدعوة أو العمل الدعوي العام من أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر أو تعلم فروض العين والكفاية مثلاً، ولاحظوا أثناء حالهم الذي هم عليه أن أخاً من إخوانهم بحاجة إلى المساعدة في أمر خاص ألمّ به فلا يقدم على هذا الواجب الاستمرار في العمل العام أو التنظير للمستقبل. هذا ولابد لإدراك هذه المعاني جميعها من الدربة وطول المعاناة في ميدان الدعوة. وصدق الله العظيم القائل: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولو الألباب}([3]).
الخامس: ترك الفاضل والمندوب تأليفاً للقلوب
إن للدعوة إلى الله فقهاً خاصاً ما لم يلم به الداعية فقد يبعد عن الحكمة ويزل عن الصواب، وأهم أساسيات هذا الفقه المرونة في الحركة وحسن انتقاء الخطاب الذي يناسب الزمان والمكان والحال والشخص.
وقد كان لعلماء السلف رحمهم الله مواقف يهتدى بها في هذه المقامات.
فهذا شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله يقول: >وقد استحب أحمد أيضاً لمن صلى بقوم لا يقنتون في الوتر وأرادوا من الإمام ألا يقنت لتأليفهم فقد استحب ترك الأفضل لتأليفهم وهذا كله يرجع لأصل جامع وهو: أن المفضول يصير فاضلاً لمصلحة راجحة. وإذا كان المحرم كأكل الميتة قد يصير فاضلاً للمصلحة الراجحة ودفع الضرر فلئن يصير المفضول فاضلاً لمصلحة راجحة أولى<([4]).
وقال رحمه الله في مقام آخر: >ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا. كما ترك النبي % تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب.
وكما أنكر ابن مسعود على عثمان رضي الله عنهما إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متماً وقال: الخلاف شر<([5]).
وقال رحمه الله: >والمسلم قد يترك المستحب إذا كان في فعله فساد راجح عن مصلحته.. ولذلك استحب الأئمة وأحمد أن يدع الإمام ما هو عنده أفضل إذا كان فيه تأليف المؤمنين<([6]).
حقاً إنه الفقه الرشيد والوعي والتوفيق يصدر عن هذا الإمام الشيخ رحمه الله.
وما أحوج الدعاة اليوم وفي كل يوم لمثل هذا الفهم الذي يجمع ولا يفرق ويحبب ولا ينفر، ويحرص على الروح والمقاصد البعيدة لكل عمل بعيداً عن النظرة السريعة والجمود عند ظاهر النص أو الحكم المألوف لدى العامة من الناس. ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً.
السادس: فضائل الأعمال بحسب ما يحف بها من الأحوال
هل الفضل في العمال الفاضلة يرجع لذات العمل دائماً أم للأحوال التي تحف بهذا العمل وبمن يقوم به؟
لاشك أن التحسين والتفضيل يرجع فيهما من حيث المبدأ إلى الشرع ونصوصه فلا حسن إلا ما حسنه شرع الله تبارك وتعالى. ولكن مراتب هذا الحُسن والفضل قد تتفاوت لاعتبارات مختلفة تكتنف العمل من زمان أو مكان أو حال أو نحو ذلك، وهذا أمر يدركه من آتاه الله حظاً من الحكمة وفتح عليه أبواباً من التوفيق.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: و قد يكون العمل المفضول أفضل بحسب حال الشخص المعين ككونه عاجزاً عن الأفضل أو لكون محبته ورغبته واهتمامه وانتفاعه بالمفضول أكثر فيكون أفضل في حقه لما يقترن به من مزيد عمله وحبه وإرادته وانتفاعه .. ومن هذا الباب صار الذكر لبعض الناس في بعض الأوقات خيراً من القراءة. والقراءة لبعضهم في بعض الأوقات خيراً من الصلاة، وأمثال ذلك لكمال انتفاعه به لا لأنه في جنسه أفضل([7]).
ومن هذا الباب أيضاً ما قال عنه الشاطبي رحمه الله: إن ترك السنة واجب إذا أدى فعلها إلى تضييق واجب لأن الواجب مقدم على السنة المندوبة قطعاً.
ندرك من جميع ذلك أن الحال والوقت والشخص كل ذلك له اعتبار في تقرير الأفضل من الأعمال ولابد للفقيه والمفتي والداعي إلى الله من مراعاة ذلك كله حتى يكون ناجحاً في مهمته وموفقاً في دعوته، ومن القواعد المقررة عند الفقهاء أن الفتوى تختلف زماناً ومكاناً وشخصاً وحالاً، ومثل هذه القضايا لا تدرك إلا بصحبة العلماء الربانيين والتلمذة عليهم بروح الاستفادة والتعلم فإلى أولئك العلماء أيها الدعاة قبل فوات الأوان.
السابع: الهدف بين الواقع والأمل
لابد لكل دعوة إسلامية من وضوح الأهداف التي تسعى لتحقيقها. ولابد من خطة مرحلية تراعى فيها الأولويات، ولابد أن يراعى في الخطة الواقع القائم والحقيقي لحال الدعوة وبنائها الداخلي أولاً ثم الظروف المحيطة بالدعوة محلياً وعالمياً ثانياً.
أما الغبش والضبابية في الهدف. والعفوية والسطحية في التحرك. والغفلة عن فقه الواقع والتستر على حقائقه المرة المؤلمة أما هذا فهو الانتحار للدعوات والفشل المؤكد لروادها لا سمح الله.
ولئن كانت الأهداف البعيدة للدعوة والدعاة تحقيق مرضاة الله تعالى ثم إعادة بناء الفرد المسلم والمجتمع المسلم والأمة المسلمة وإقامة شرع الله في الأرض من خلال إيجاد الحكومة المسلمة فإن الأهداف المرحلية والتي لها الأولوية هي:
إعادة بناء الصف الدعوي الداخلي وإحكام هذا البناء واستكمال خصائصه ومؤسساته وأجهزته العاملة.
ولا يعني هذا بحال التخلي عن مواقع حققتها الدعوة الإسلامية في مسيرتها العامة بل المطلوب وضع الأمور في نصابها وإعطاء كل قضية ما تستحق من الجهد والبذل والاهتمام.
والتربية الإسلامية تتكامل مع المسير والحركة لا مع الجمود والتوقف لفلسفة النظريات والأفكار في الفراغ.
الثامن: وقفات حركية في فقه الدعوة الإسلامية
1- الشورى وإعطاؤها مداها وأبعادها في العمل الإسلامي أساس في نجاح العمل.
2- الأنظمة واللوائح يجب أن تكون واضحة ويجب احترامها وإلا حدث النزاع والشقاق.
3- العناية بالمؤسسات الجماعية والبعد عن الروح الفردية ضمانة لاستمرار الدعوة.
4- العناية بالتخطيط والبعد عن العفوية مطلب له الأولوية في العمل الجماعي.
5- العناية بالنقد الذاتي والتقويم الدائم للعمل والإنجازات لابد منها.
6- الاهتمام بالجماهير وعدم الاقتصار على الصفوة والنخب وإلا فالانحراف واقع.
7- العناية بروح التوجيه بدلاً من إصدار الأوامر هو المنهج الصحيح في العمل.
8- التركيز على الكفاءات لا على الوجاهات وإلا ضاعت الأمانة.
9- قيادة الأمة وقيادة الدعوة تنبع من داخلها. ولا للقيادة من بعيد.
10- مواكبة الأحداث واستشراف المستقبل والبعد عن الانهماك في الجزئيات ضرورات حركية في فقه الدعوة.
كانت هذه الوقفات والأفكار رؤوس أقلام تحدثت عنها بين أحبة من إخوة أرض الأقصى المبارك في ليلة إحياء كان لها صفاؤها ونقاؤها وقد كان للحديث صدى طيب في نفوس الإخوة وأسأل الله الإخلاص والقبول.
([1]) سورة يوسف الآية 108.
([2]) الحديث رواه البخاري ج1 ص505.
([3]) سورة البقرة الآية 269.
([4]) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية ج22 ص344- 345.
([5]) المرجع السابق ج22 ص407.
([6]) المرجع السابق ج24 ص195.
([7]) انظر الفتاوى ج24 ص198.