الأحنف بن قيس الناصح الأمين
عصام أبو الدهب
لا نجد مدخلا للعبور إلى حقيقة شخصيتنا إلا أن نستخبر صفته وهيئته حسب ما أوردته كتب التاريخ، فهو رجل قصير القامة، ضئيل الجسم، أصلع الرأس، متراكب الأسنان، مائل الذقن، منخسف العينين ( أي غائر العينين )، أحنف الرجلين ( أي معوج الرجلين إلى الداخل )، وخلاصة القول أنه ليس في إنسان عيب إلا وله منه نصيب، هذه هي صفة هذا الرجل، ما أن تراه العين حتى تستصغره وتزدريه وتستنقصه لا تعمل له حساب ولا يؤبه له.
ولكن هذا الرجل بلغ مكانة عالية بين قومه، فكلمته مسموعة، وأمره مطاع، ونصيحته مقبولة.
بلغ من مكانته أن قال فيه الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه :" إن هذا الغلام والله؛ هو السيد، وإنه سيد أهل البصرة" وهو ما زال بعد شابا يافعا، وقال عنه أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه :" هذا الذي إذا غضب، غضب له مئة ألف من بني تميم لا يدرون فيما غضب " وقال فيه زياد بن أبي سفيان :" إنه بلغ من الشرف والسؤود ما لا تنفعه الولاية، ولا يضره العزل."
فمن هذا الذي بلغ مرتبة سوَّده فيه أئمة هدى وتقى وجعلوه سيد قومه، إنه أبو بحر الأحنف بن قيس سيد بني تميم، وأحد أفذاذ العرب وفرسانهم، ولد الأحنف في السنة الثالثة قبل الهجرة، وسماه والده الضحاك.
غير أن الناس ما لبثوا أن لقبووه بالأحنف لاعوجاج شديد في رجليه، ثم غلب اللقب على الاسم. وكان والد قيس من أوساط الناس فلم يكن غنيا ولا من كبار القوم أو حتى من ذوي المكانة فيهم، قُتل وما زال الأحنف طفلا لم تتحرك قدماه بعد.
هذه الخطوط العريضة لحياة الأحنف التي عاشها الكثيرون، ولكنهم لم يبلغوا هذه المنزلة ولم يمدحوا بهذا المدح.
فما السر وراء هذا الرجل النبيل؟ وما هي صفاته وخصائصه التي أهلته لأن يكون سيد قومه، مستشارا أمينا عند الخلفاء والولاة والأمراء؟
لقد كان الأحنف بن قيس رضي الله عنه بليغا فصيح اللسان، فارسا مقداما شجاعا، عالي الهمة، دينا صواما قواما، حليما كريما جوادا.
ولكن هذه الصفات جميعها كانت في كثير من أقرانه ولكنهم وقفوا عندها، وما بلغت بهم ما بلغه الأحنف من مكانة ومنزلة، فما السر وراء هذه الصفات الذي جعل الخلفاء والأمراء وكبار القوم والناس يسمعون له ويستجيبون لرأيه ومشورته.
بعد قراءة متفحصة في سيرة الأحنف وما ورد عنه من أخبار نلحظ أن الصفة التي بلغت به هذه المكانة هي إجادته فن المناصحة والمشاورة بأمانة وصدق، فلقد كان الرجل يكن في نفسه حبا عميقا لقومه، يحب لهم الخير ويبحث عن مصالحهم، وهو ذي ذلك كله يجيد فن إيصال الرسالة إليهم بحيث تقبلها عقولهم وقلوبهم بنفس راضية مطمئنة، ويدل على ذلك دلالة أكيدة موقفين من مواقف حياته التي سطرها له المؤرخون.
فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم بداعية يدعو قوم الأحنف وجماعته إلى الإسلام، فاجتمع بهم وحثهم على الدخول فيه شارحا لهم مبادئه وقيمه وأخلاقه، وأخذ الجدال بينهم يدور ناظرين إلى بعضهم البعض مترددين في قبول الإسلام، يريدون كلمة هادية ترشدهم، فبادر الأحنف وكان ما زال شابا في مقتبل العمر فقال:" يا قوم مالي أراكم مترددين، تقدمون رجلا وتؤخرون رجلا؟! والله إن هذا الوافد عليكم لوافد خير، وإنه يدعوكم إلى مكارم الأخلاق، وينهاكم عن ملائمها (أي سيئها)، والله ما سمعنا منه إلا حسنا، فأجيبوا داعي الهدى، تفوزوا بخيري الدنيا والآخرة. فما لبثوا أن أسلموا، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بما كان منه دعا له بالمغفرة.
أما الموقف الثاني فهو يؤكد ما قررناه من أن الرجل كان شفوقا على قومه، محبا لهم الخير، يجيد فن الإقناع، وهذا ما جعل عمر الفاروق رضي الله عنه يحبسه حولا كاملا ليبلوه ويختبره، وبعد مرور الحول، قال له: يا أحنف إني قد بلوتك وخبرتك، وخبرت علانيتك؛ فلم أر إلا خيرا، وأنا أرجو أن تكون سريرتك مثل علانيتك، وإنا كنا نتحدث: إنما يهلك هذه الأمة كل منافق عليم. وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن انظر الأحنف فأدنه وشاوره واسمع منه.
أرسل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب إلى عتبة بن غزوان يأمره أن يرسل عشرة من صلحاء عسكره وأحسنهم بلاء في القتال ليقف على أحوال الجيش ويعرف منهم خبره، فاستجاب عتبة وأرسل العشرة ومنهم الأحنف، فتلقاهم عمر أحسن اللقاء، وسألهم عن أحوال الجيش وحوائج الناس وحوائجهم، فتكلموا جميعا، كلهم يتكلم فيما يخصه، قائلين:" أما عامة الناس فأنت وليهم، وصاحب شؤونهم، وأما نحن فنتكلم عن خاصة أنفسنا." ثم طلب كل واحد منهم حاجته، حتى جاء دور الأحنف وكان آخرهم لصغر سنه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:" يا أمير المؤمنين: إن جند المسلمين الذين حلوا في مصر قد نزلوا في الخضرة والنضرة والخصب من منازل الفراعنة، وإن الذين حلوا في ديار الشام قد نزلوا في الرغد، والثمار، والرياض من منازل القياصرة، وإن الذين حلوا في ديار الفرس قد نزلوا على ضفاف الأنهار العذبة، والجنان الوارفة من منازل الأكاسرة، ولكنا قومنا الذين حلوا في البصرة قد نزلوا في أرض هشاشة نشاشة ( أي لينة مالحة لا تنبت زرعا) لا يجف ترابها، لا ينبت مرعاها، أحد طرفيها بحر أجاج، وطرفها الآخر فلاة قفر.
ثم تابع الأحنف كلامه وطلبه:" فأزل يا أمير المؤمنين ضرهم، وأنعش حياتهم، ومر واليك على البصرة أن يحفر لهم نهرا يستعذبون منه الماء ويسقون النعام والزرع.. فتحسن حالهم، ويصلح عيالهم.. وترخص أسعارهم.. ويستعينون بذلك على الجهاد في سبيل الله."
رأي سديد وحجة بينة استطاع بها الأحنف أن ينقل رسالة قومه إلى خليفة المسلمين، فنظر إليه معجبا، ومن هو عمر الذي كان حريصا على مصالح المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، لذا فهو يدرك قيمة شخص كهذا، بل لقد كان الأحنف شديدا أشد الحرص على أن تنفذ حاجات قومه، فعندما قدَّم عمر إلى الوفد جوائزهم، وقدم للأحنف جائزته، قال له:" والله يا أمير المؤمنين ما قطعنا إليك الفلوات، ولا ضربنا للقائك أكباد الإبل في البكور والعشيات لنيل الجوائز.. وما لي حاجة لديك إلا حاجة قومي التي ذكرت..
للأحنف مواقفه التي تؤصل لهذه الصفة فيه وهي قدرته على معرفة احتياجات قومه وسعيه إلى قضائها بأحسن الطرق وأفضلها، ولذا فقد ملك هذا الرجل قلوب الناس جميعا كبيرهم وصغيرهم، فلم ترد له كلمة لأنه يعرف متى يقولها، ولم يرفض له طلب لأنه لا يطلب شيئا فوق الطاقة بل في حدود المستطاع والممكن، لم يطلب لنفسه يوما شرفا أو ولاية بل على العكس من ذلك كان يحاول أن يقرب مسافة الخلاف بين الولاة والرعية وينزع ما بينهم بشكل لا انفعال فيه ولا بحثا عن النقائص، كان ينظر في جوانب الخير وينميها ويرى جوانب الشر فيطوقها وينحيها، وله مع أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان في ذلك المواقف التي تشهد برجحان عقله ونظرته البعيدة القائمة على القاعدة الشرعية التي أصلها علماؤنا الكرام خير تأصيل وأوفاه وهي أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.