حرية الرأي والسحاق الليبرالي
د. علي الملحم
كثيراً ما يحار المتتبع في تفسير تخبط الخطاب الليبرالي وفشله في تقديم خطاب ثقافي ينسجم مع ممارسات من يدعيه ، فالخطاب الليبرالي خطاب متفلت غامض لا ينضبط بضوابط معينة ولا ينسجم مع مبادئ واحدة. فتارة تسوقه العصا والجزرة وتارة تحكمه البراغماتية الفاضحة ، وقلَّ من صدق في نقده بصدق وصراحة وشجاعة كما فعل د الغذامي في البيان التالي . ولا غرابة فالجد الأكبر الذي تنسب إليه الليبرالية زنيم مجهول النسب في تحرير المصطلح .جاء في الموسوعة البريطانية: وحيث إن كلمة Liberty – الحرية- هي كلمةٌ يكتنفها الغموض فكذلك هو الحال مع كلمة "ليبرالي" . وورد تعريف الليبرالية في موسوعة "لالاند "الفلسفية بأنها: "الانفلات المطلق بالترفع فوق كل طبيعة ".
فالتعريفان السابقان يشيران إلى أن "الغموض والانفلات" من أهم ما يغلف الفكر الليبرالي ، وقد أجاد ذلك كثير من الكتاب الليبراليين في مجتمعنا إلى درجة باتوا فيها نموذجاً يحتذى من أضرابهم ، إذ يلحظ المتتبع لكتاباتهم أنها منفلتة من كل شيء في غموض مريب ، فلا أمانة في النقل ، ولا دقة في التحليل ، ولا ورع عن الافتراء ، ولا تسليم بوجود حرية الرأي ، بل لا زال بعضهم يحرج ويجرح البعض الآخر متهماً إياه بالتنصل من الليبرالية أو مخالفتها في محاولة لإقصائه وربما حرمانه من فتات الكعكة التي يشمون رائحتها ولما يتذوق بعضهم طعمها بعد ، ويمني النفس بالنصيب الأكبر منها .
هذا التجريح والإقصاء لم يعد حديث مجالسهم الخاصة بل خرج إلى وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية ، وما انتقاد المنظر الليبرالي د خالد الدخيل للدكتور الغذامي على شاشة قناة دليل بخاف ، يوم أن اتهمه بالانتكاس عن الليبرالية ومحاباة الإسلاميين ، ومن قبله شهدت الساحة الليبرالية عدداً من التراشقات والاتهامات و{كلما جاءت أمة لعنت أختها} .
فهم يمارسون إقصائية مطلقة لا تكتفي بإبعاد المخالف ، بل ترمي إلى وأد رأيه والقضاء على وجوده الفكري إلى الأبد ، ولا عجب أن يُقصوا المخالفين ، إذا كان بعضهم يحاول أن يقصي البعض الآخر ، ووصل بهم الأمر – بعد أن أقصو كل مخالف _ إلى التلذذ بما يشبه السحاق الفكري في شبكة يجمعها "شهوة الافتراء ولذة الانتقام ".
ومن خلال متابعتي لما قاله الأستاذ الفاضل بدر العامر (دكتور استفهام)، حيث رماه القوم بالردة والكفر بالفكر الليبرالي - وأنعِم بها من ردة – برغم عنايته وحرصه على الانصاف معهم ، لمستُ أنهم بارعون في إقامة حفلات "السحاق الفكري " الحمراء ، فترى الواحد منهم يتلذذ بالمثلية، فلا يسمح بمواجهة الرأي الفحل الذي يقبل الحوار، وخذ هذا المشهد مثلاً حيث يبدأ أحدهم في موقع الشبكة بالافتراء على الدعوة والحسبة والعلماء والدعاة ، ثم يعقبه من يساحقونه في هذا الافتراء إذ يقتضي إتيكيت سهرة "السحاق الفكري" أن يفتري الأول ، والثاني يوافقه ، والثالث يؤيده ، والرابع ينحو نحوه ، والخامس يعضد حجته ، وهكذا تستمر "حفلة السحاق" حتى يشبعوا غريزتهم ويقضوا نهمهم من حظرٍ وإبعادٍ لكل من يخالفهم في الرأي .
كلنا تابع التطاول على سماحة الشيخ الفوزان والتي تولى كبرها أشقاهم، ثم تتابع الفريق على اللمز والطعن ، تلتها حملة شانئة على سماحة الشيخ اللحيدان أطلق شرارتها أحدهم ثم تهافت الآخرون خلفه ، أعقبتها الحملة الظالمة على معالي الشيخ الشثري ثم تناوب القوم على الهجوم ، ومن قبله محاولتهم للنيل من د البريك بهجوم منظم مدروس ، وما رأيناه قبل فترة وجيزة من هجمة خاطئة على الشيخ محمد المنجد "بالأيدي والأرجل والأنياب" أشعل فتيلها "الصرامي" وتبعه "ناب" ولم يتخلف عن إضرام نارها كتاب المنتديات الليبرالية الحقيقيون والوهميون ، وكان سبب الحملة المعلن هو فتوى للشيخ حول الرسوم الجمركية ، لكن السبب الحقيقي الذي يعرفه من تتبع الحراك الفكري على الساحة هو تصفية الحساب مع الشيخ المنجد على خلفية موقفه القوي والجريء في موضوع الاختلاط ، وإلا ما معنى التفتيش والتنقيب بالمكبر والمجهر في الفتاوى الموجودة في موقع الشيخ والتي تبلغ عشرات الآلاف؟!! .
بدأ الأول فاتهم الشيخ بأنه يجيز الرشوة ويرفض "فكرة الدولة وأجهزتها وسيادتها" "وساحَقَه" الآخر فكرياً في الشبكة فلمز الشيخ بأنه "مستثمر" ويفتي لمصلحته الخاصة ، وثالث رماه بأنه "سوري" و "أجنبي" في مشهد عنصري جاهلي حذرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم منه .
يأتي هذا الغمز واللمز في وقت تغافلوا فيه عن عدد من الكتاب – الأجانب وفق تعبيرهم – من السوريين والفلسطينيين واللبنانيين وحتى الغربيين والذين تتصدر مقالاتهم صحفاً يتحكم الليبراليون في زمامها ، وتنضح مقالاتهم طعناً في بعض الثوابت الشرعية التي تقوم عليها الدولة وبعض الفتاوى الفقهية المعمول بها والتي أفتت بها أعلى هيئة دينية رسمية في المملكة ، لكن لم يثرب أحد على هؤلاء بأنهم أجانب وأنهم يكتبون بما ينافي سيادة الدولة وتوجهاتها ، فهل هذا تغافل عن هؤلاء المستكتبين ، أم هو تواطؤ سببته النشوة المشتركة والمصلحة الليبرالية العليا ؟!!.
لست أدري لماذا ناب بالتحديد هو الموكل بإشعال الفتن في الشبكة لتلغ الألسن والأقلام في الأعراض تشفياً وحسداً من إبداعات الآخرين ومواقفهم الشجاعة التي تقهر الجبان المهزوم ، وقد تجلى هذا بوضوح فيما كتبه ناب عن د عبدالله بن هضبان الحارثي يوم استضافته قناة أبو ظبي فبدأ بالقرابين في الشبكة ليحمل من بعده أوزار القالة في الأعراض.
ولو أراد أحد أن يقطع عليهم تلذذهم بهذا "السحاق" ، فأراد أن ينشر في واحدة من صحفهم أو منتدياتهم ما يدفع به الفرية عن نفسه ، أو يذب عن عرض العلماء والدعاة ، أو ينبري إن كان محايداً لبيان ما يراه حقاً ، أقفلوا الأبواب في وجهه ، هرباً من مناقشة الفكرة وتشريح الرأي وحرث المعلومة بمحراث العقل والانصاف ، بل إنهم عوضاً عن ذلك يقومون بشخصنة الموضوع بالهجوم على الشخص وتجريح كرامته في محاولة لإسقاط شخصه إن لم يتمكنوا من هزيمة فكره !! .
فأين "احترام حرية الرأي" ولماذا التفلت من "مبدأ إتاحة الفرصة" الذي تنادي به الليبرالية ؟ ، أم أن كل المبادئ والمثل تتهاوى في أجواء سهرات "السحاق الفكري" الساخنة لينفلت القوم من كل عقال ، وهو ما عبر عنه المفكر الفرنسي "لاشييه " بقوله: " الليبرالية هي الانفلات المطلق " ؟.