رمضان.. شهر البطولات والانتصارات

رضوان سلمان حمدان

رمضان.. شهر البطولات والانتصارات

- فتح مكة -

رضوان سلمان حمدان

[email protected]

يقول عنه ابن القيم  رحمه الله  : هو الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين ، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين ، من أيدي الكفار والمشركين ، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء ، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء ، ودخل الناس به في دين الله أفواجاً ، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجاً .

وفى الواقع لقد كان صلح الحديبية إرهاصا قوياً بهذا الفتح العظيم حتى أن الله  سبحانه وتعالى  أسماه " الفتح المبين " فقال  عز من قال  " انا فتحنا لك فتحا مبينا " وقد كان من بنود ذلكم الصلح أن من أحب أن يدخل في عقد محمد  صلى الله عليه وسلم  دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم دخل فيه ، وعلى حسب هذا البند دخلت خزاعة في عهد رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ودخلت بنو بكر في عهد قريش ،وقد كانت بين القبيلتين عداوة وتوترات في الجاهلية ، فلما وقعت هذه الهدنة ، وأمن كل فريق من الآخر ، اغتنمها بنو بكر وأرادوا أن يصيبوا من خزاعة الثأر القديم ،فأغارت بنو بكر على خزاعة ليلاً ، وأصابوا منهم ، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح ، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم ، وكان ذلك إيذانا بنقض صلح الحديبية ، فقد أسرع عمرو بن سالم الخزاعي فخرج حتى قدم على النبي  صلى الله عليه وسلم  المدينة فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال :

يا  رب  إنى  ناشد محمداً        حلفنا وحلف أبينا الأتلدا

إن قريشاً أخلفوك الموعدا        ونقضوا  ميثاقك المؤكدا

وهم   أذل   وأقل   عددأ        هم بيتونا  بالوتير هجدا

 فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  :" نصرت يا عمرو بن سالم " ثم عرضت له سحابة من السماء فقال : " إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب " . ثم خرج بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة ، حتى قدموا على رسول الله  صلى الله عليه وسلم  المدينة فأخبروه بمن أصيب منهم ، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم .

ولقد أحست قريش بغدرها وأدركت شؤم عاقبته فقررت أن ترسل قائدها أبا سفيان ممثلا لها ، وعبثا حاول أبو سفيان تجديد الصلح ولكنه فشل فى مهمته بعد أن طرق كل الأبواب التي ظن أنها قد تساعده على إقناع رسول الله  صلى الله عليه وسلم  فقد كان رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قد عقد العزم على غزو قريش وفتح مكة .

وهنا أخذ الرسول  صلى الله عليه وسلم  يعد العدة لغزو قريش وكان يريد مفاجأة قريش ، فلا تعلم شيئاً قبلها فقال :" اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها فى بلادها " ، وزيادة في الإخفاء بعث رسول الله  صلى الله عليه وسلم  سرية قوامها ثمانية رجال تحت إمرة أبى قتادة بن ربعي إلى بطن أضم فيما بين ذي خشب وذي مروة وذلك في أول شهر رمضان سنة 8 .

وهنا وقعت حادثة ذات دلالة نتوقف أمامها قليلاً ، فقد كتب كتب حاطب بن أبى بلتعة إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله  صلى الله عليه وسلم  إليهم ثم أعطاه لامرأة وجعل لها جعلاً على أن تبلغه قريشاً فجعلته في قرون رأسها ثم خرجت به وأتى رسول الله  صلى الله عليه وسلم  الخبر من السماء بما صنع حاطب فبعث علياً والمقداد والزبير وأبا مرثد الغنوى فقال :" انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فان بها ظعينة معها كتاب إلى قريش " وعندما أتوا بالكتاب كما أخبرهم رسول الله  صلى الله عليه وسلم  دعا حاطباً فقال ما هذا يا حاطب ؟ فقال : لا تعجل علىً يا رسول الله والله انى لمؤمن بالله ورسوله ، وما ارتددت ولا بدلت ، ولكنى كنت امرأ ملصقاً بقريش ، لست من أنفسهم ، ولى فيهم أهل وعشيرة وولد ، وليس لي فيهم قرابة يحمونهم ، وكان من معك معه قرابات يحمونهم ، فأحببت إذ فاتنى ذلك أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي فقال عمر بن الخطاب : دعني يا رسول الله أضرب عنقه فانه قد خان الله ورسوله ، وقد نافق فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  : " انه قد شهد بدراً ، وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " فذرفت عينا عمر وقال : الله ورسوله أعلم . وهكذا فقد أعطى الرسول الكريم  صلى الله عليه وسلم الدرس العملي في التعامل مع زلات وهفوات أولى الفضل والسبق، فقد كان حاطب ممن شهد بدراً وكانت هذه من الحسنات العظيمة التي محت هذه الفعلة التي فعلها بإرشاد قريش عن عزم رسول الله  صلى الله عليه وسلم  على غزوهم . وهنا يقول ابن القيم  رحمه الله  : " وفيها إن الكبيرة العظيمة مما دون الشرك قد تكفر بالحسنة الكبيرة الماحية كما وقع الجس من حاطب مكفراً بشهوده بدراً فان ما اشتملت عليه هذه الحسنة العظيمة من المصلحة وتضمنته من محبة الله لها ورضاه بها ومباهاته للملائكة بفاعلها أعظم مما اشتملت عليه سيئة الجس من المفسدة وتضمنته من بغض الله لها فغلب الأقوى على الأضعف فأزاله وأبطل مقتضاه.... " .

وكما يقول الشاعر :

إذا جاء الحبيب بسيئة           جاءت محاسنه بألف شفيع

والماء ا ذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث كما يقول الفقهاء فكذلك أصحاب السبق و الفضل قد يكون لهم من الأعمال ما تكون سبباً فى تكفير الذنوب ومحو السيئات وهذا هو الدرس الذي يجب علينا أن نعيه ونستوعبه جيداً .

وفى شهر رمضان المبارك لسنة 8 من الهجرة غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم  المدينة متجهاً إلى مكة، في عشرة آلاف من الصحابة  رضي الله عنهم  ، وفى الطريق لقيه عمه العباس بن عبد المطلب ، وكان قد خرج مهاجراً ومسلماً ومعه أهله وعياله ، وركب العباس  بعد نزول المسلمين بمر الظهران  بغلة رسول الله  صلى الله عليه وسلم  وخرج يلتمس لعله يجد بعض الحطابة أو أحداً يخبر قريشاً ليخرجوا يستأمنون رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قبل أن يدخلها ، وفى الطريق قابل العباس أبا سفيان وكان قد خرج يتلمس الأخبار ، فقد كان يشعر بان الرسول  صلى الله عليه وسلم  سيتحرك للرد على ما فعلوه ، فكلمه العباس وأتى به إلى الرسول  صلى الله عليه وسلم ، واستأمن له وكلمه الرسول  صلى الله عليه وسلم  فأسلم وشهد شهادة الحق ، وفى صباح يوم الثلاثاء السابع عشر من رمضان غادر رسول الله  صلى الله عليه وسلم  مر الظهران الى مكة وأمر العباس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها ففعل فمرت القبائل على راياتها ، كلما مرت به قبيلة قال : يا عباس من هؤلاء ؟ فيقول  مثلاً  سليم فيقول : مالي وسليم ؟! وهكذا حتى قال: والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيماً قال العباس: إنها النبوة قال: نعم إذن . وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة فلما مر بأبي سفيان قال له : اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الحرمة  ، اليوم أذل الله قريشاً فلما حاذى رسول الله  صلى الله عليه وسلم  أبا سفيان قال : يا رسول الله الم تسمع ما قال سعد ؟ قال : وما قال ؟ فقال : قال كذا وكذا ، فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف : يا رسول الله ما نأمن أن يكون له في قريش صولة ، فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  :  "بل اليوم تعظم فيه الكعبة اليوم أعز الله فيه قريشاً " ثم أرسل إلى سعد فنزع منه اللواء ودفعه إلى ابنه قيس ورأى أن اللواء لم يخرج عن سعد . وهكذا يضرب الرسول الكريم  صلى الله عليه وسلم  المثل في سمو الأخلاق وكرم النفس فها هي قريش في قبضته وتحت سيطرته ، هاهي قريش التي ناصبته العداء منذ بعثته ، هاهي قريش التي أخرجته طريداً وتآمرت على قتله ، هاهي قريش التي لم تكتف بكل ما سبق ولكن ذهبت إليه في تحاربه وتؤلب عليه قبائل العرب ، ها هي قريش بعد كل هذا تقع في قبضة النبي  صلى الله عليه وسلم  ويدخل مكة منتصراً مظفراً ولكنه كان رءوفا رحيماً بهم مصداقاً لقوله تعالى : " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم " التوبة . حتى إذا تم الأمر واستتم له الفتح وأطبقت كتائب المسلمين على مكة من كل حدب وصوب واجتمعت قريش بين يدى الرسول  صلى الله عليه وسلم  قال لهم : " يا معشر قريش ، ما ترون أنى فاعل بكم ؟ " قالوا : خيراً أخ كريم ، وابن أخ كريم ، قال : " فاني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته : ( لا تثريب عليكم اليوم ) اذهبوا فانتم الطلقاء "

 إنها أخلاق النبوة التي ينبغي على كل داعية أن يعلمها ويتمثل بها ، فليس الشأن شأن الانتقام للنفس أو الانتصار لها ، بل الشأن شأن هداية الخلائق والحرص على الأخذ بأيديهم إلى الله  تعالى  لم يفكر النبي  صلى الله عليه وسلم  في محاسبة قريش ، حتى من أمر النبي  صلى الله عليه وسلم  بقتلهم كانواً نفراً معدوداً ارتكبوا جرائم شنيعة في حق النبي  صلى الله عليه وسلم  وفى حق المسلمين ، لقد كانوا يعتبرون  بلغة عصرنا  من مجرمي الحرب الذين لابد من محاسبتهم ، حتى من جاء من أولئك النفر تائباً قبل النبي  صلى الله عليه وسلم  توبته وعفا عنه كعكرمة بن أبى جهل .

لقد كان يوم فتح مكة يوما مشهوداً دخل رسول الله  صلى الله عليه وسلم  مكة وهو يضع رأسه تواضعاً لله  تعالى حين رأى ما أكرمه الله من الفتح حتى إن شعر لحيته ليكاد يمس واسطة الرحل ، الآن يدخل الرسول  صلى الله عليه وسلم  إلى المسجد الحرام ليحطم الأصنام وهو يقول : " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً "ً هذه الأصنام التي عاش الرسول  صلى الله عليه وسلم  طويلا وهو يراها تعبد من دون الله وما كان في استطاعته  يومئذ  إن يفعل شيئاً ، ولكنه عاد اليوم ليحطمها إعلانا لخلوص العبادة لله وحده لا شريك له .

وقف النبي  صلى الله عليه وسلم  في المسجد وقد ملأته قريش وخطب فيهم وكان مما قاله لهم : " لا اله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا كل مأثرة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ............ يا معشر قريش إن الله قد اذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب . ثم تلا هذه الآية : " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير " .

يا له من يوم أعز الله فيه جنده فهاهو بلال  رضي الله عنه  يصعد على ظهر الكعبة ليؤذن ويعلن كلمة التوحيد في سماء مكة ، بعد سنوات من القهر والتعذيب عاشها بلال فى مكة وأمية بن خلف يعذبه في رمضاء مكة .

تلك هي غزوة فتح مكة ، وهى المعركة الفاصلة والفتح الأعظم الذي قضى الله به على كيان الشرك والوثنية ، لقد أزال فتح مكة آخر الستور التي كانت تحول بين الناس وبين الإسلام ، لقد سيطر المسلمون بهذا الفتح على الموقف السياسي والديني في شبه جزيرة العرب ، وأمر الرسول  صلى الله عليه وسلم  بتحطيم الأصنام التي تعبد من دون الله .

حقاً لقد كان فتح مكة يوماً عظيماً مشهوداً في شهر رمضان شهر البطولات والانتصارات.