ثقافة الثقافة
زهير سالم*
في عصر شيوع المعرفة بكل إيجابياتها الواعدة المرجوة، أصبح الحديث عن المنهج في طرائق التعاطي العلمي والثقافي أمرا أكثر ضرورة. كان سلفنا الصالحون يوصون ألا يُقبل العلم من صحفي. ويقصدون بالصحفي ذاك الذي تلقى المعلومة عن صحف وليس عن شيخ. بمعنى أنه لم يتلق المعلومة في إطارها المنهجي. هذا يوم كانت الصحف عزيزة ولا تتوفر إلا بالجهد الكبير.
ومع حلول الشبكة العنكبوتية محل السطر المخطوط أو المطبوع أصبحت مصادر المعرفة أكثر عرضة للتهديد، تستطيع أن تسطر على صفحات الشبكة المعلومات الصحيحة أو الخاطئة التي تريد، ثم سيستقيها آخر على أنها حقائق يقول مستقيها قرأتها على شبكة الإنترنت..
طريقة تثبيت المعلومات على الشبكة العنكبوتية مشكلة، وطريقة استقاء المعرفة مشكلة أخرى، وطريقة التعامل مع العلوم والفنون عليها مشكلة ثالثة.
في مفردات العلوم هناك علم اسمه (منهج البحث) الخاص بكل علم، هناك مناهج أو طرائق قراءة المعلومات، وهناك طرائق إعادة تقديم المعلومات، أو البناء عليها. غياب هذه المنهجية اليوم عن الوسط الثقافي بشكل عام يخلق الكثير من المشكلات، فتجد رجلا في رتبة من يقال له: اكتب بيمينك وتحدث عما يليك، يهجم على عمالقة الفكر والفلسفة والدين، وكأنه يميط عن وجهه ذبابا هكذا أو هكذا..
يفتقر الوسط الثقافي الحاضر، بغض النظر عن مضامين الثقافة أو توجهاتها، إلى ثقافة الثقافة. إلى القواعد التي تضبط قراءة المثقف، وكتابته، ومعجمه، ونبرة صوته، مع الموافقين والمخالفين على السواء. نحتاج إلى معرفة أجوبة أسئلة مثل: كيف نقرأ الأفكار في التاريخ ؟ وكيف نميط عنها ثوبها الزماني والمكاني لتوظيفها في مصلحة مشروع إنساني؟ كيف نرى الإيجابي في سياق عصره وليس في سياق عصرنا؟ ثمة من يعيب علينا أن أجدادنا كان يستاكون بعيدان الأشجار!! وهناك من لا يرى بديلا لعود الآراك!!
درسنا في الجامعة مادة تسمى (الكتاب القديم)، حصة قراءة منهجية في كتب لعصور خلت، تعلمنا على أيد أستاذة متخصصين كيف نقارب كتب الأقدمين بمنهجية علمية، وروح مستبصر، وقلب شهيد..
وفي جوامعنا كان العلماء يعلموننا كيف نقارب كتب العلم، مطلق العلم. يحدثوننا كيف كان الإمام مالك، رحمه الله، يتزين ويتطيب، ويلبس أحسن ثيابه لمجلس علمه، وكيف كان يتوضأ ويصلي ركعتين بين يدي التحديث. علمنا الشيوخ في الجوامع، كيف نقارب صفحة الكتاب وكيف نعاملها باحترام، ونقلبها بأدب، ونعلق عليها إذا علقنا بوقار.
علمنا أهلنا في البيوت _ ومنذ أيام كنت أقرأ لصحفي أمريكي يسخر من عادتنا هذه_ أن الصفحة المطبوعة بحرفنا العربي مقدسة. لا يجوز أن تمتهن ولا أن تداس ولا أن تُستعمل فيما لا يليق، وفيها حرف هو بعض (ألف لام ميم..). كان علينا إذا وجدنا ورقة مطبوعة بالحرف العربي ساقطة على الأرض أن نكرمها بالحرق، أو أن نصونها ببعض ثقوب الجدران..
وتعلمنا أننا حين نفتح كتاباً قديماً أن نتصور أنفسنا في حضرة مؤلفه، وإن كنا لسنا من مدرسة مؤلفه الفقهية أو الفكرية أو الدينية..
هذه هي الثقافة التي تعلمنا الخشوع في محرابها، والإبحار في محيطاتها. عليك أن تعلم أنك غواص يبحث عن دره وسط الموج والعواصف والطين والأشنيات. هذا كلام الشيوخ، فإن ظفرت بمبتغاك فأنت السعيد..
وفي قواعد الأدب الأولي لهذه الأمة (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون..) والهدى والرشاد والخطاب الرباني الإلهي إنما أنزل أصلاً للذين (يعقلون) و(لأولي الألباب) إنما يتذكر أولو الألباب، وإن كانت كثيرة هي الأعين التي لا تبصر والقلوب التي لا تفقه (لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها..).
ومن دروس الثقافة التي يعجبني أن أكرر حديثها، أنني كنت وأنا طالب في الجامعة قد اشتريت نسخة من كتاب الإمام الشيرازي (كلستان). كانت طبعة فاخرة بترجمة الشاعر الفراتي. وكنت تياهاً بها معجباً بحكم وحكايات الشيخ الرائعة، وأسلوبه التربوي العظيم. ثم توافق لي في ذلك العهد أن أدخل المسجد الكبير في زيارة لي لعفرين..
دخلت المسجد (الكبير) المترب ببسطه المقطعة وسقفه الخشبي وكان إمام المسجد العجوز ينتحي جانباً بقامته المديدة، ووجهه المغضن ولباسه النظيف المتلائم مع طبيعة المسجد. صليت الظهر، واقتربت من الإمام مسلماً عليه، ثم جالسته قليلاً فوجدته وهو ـ الرجل الكردي ـ ضليعاً بالعربية شعرها ونثرها، فأعجبني أن أستمد منه، فأرخيت للحديث فجال الرجل وصال أكثر من كثير من خريجي كليات الآداب. شدني الحديث مع الرجل العجوز البهي الذي ماتزال صورته رغم مرور أربعين عاماً حاضرة في ذهني، فحدثته عن الشيرازي وعن كتابه (كلستان) وأبديت إعجابي به فكنت كمن يبيع الماء في حي السقايين، وإذ كتاب الشيخ سعد الدين هي بعض مما يحفظ الرجل. ليقول لي (كلستان) كتاب عظيم فيه حكمة بالغة تقول:
يبـاع الفحـم عنـد الفحـام
ويباع الزيـت عند الزيـات
ويباع الجوهر عند الجواهري
توقفت عند العبارة. لم أهتد يومها إلى المعنى الذي يشير إليه الشيخ ففي كتاب الشيرازي كثير من العبارات، بدت لي في حينها أكثر رواء..
ماذا أعجبه بها، حتى يختارها من بين الكثير؟!
الآن وأنا أراقب كيف يتعامل بعض الناس مع علماء الأمة، ومكنونات كتب التراث، وفرائد الحضارة الإسلامية، بمنهج الفحامين أكرر عبارة الشيخ الكردي التي اقتبسها عن الشيرازي: إنما يروج الفحم عند الفحام، والزيت عند الزيات، والجوهر عند الجوهري.. وسأجعل هذا المقال مقدمة لقراءة في وثيقة تاريخية أميط عن فرائدها سخام بعض الفحامين...
(*) مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية