الطفل وثقافته البيئية

الطفل وثقافته البيئية

عصام أبو الدهب

[email protected]

إن العلاقة بين البيئة والطفل تزداد تعقدا وعمقا، كما أنها تأخذ أبعادا أكثر جدلية يوما بعد يوم بحيث يمكن أن نقول أن محصلة هذه العلاقة عملة واحدة ذات وجهين، تحتاج فقط إلى فترة من الوقت لقراءتها وتلمس حقائق وجودها على أرض الواقع.

فالطفل هو المستقبل النابض المتجدد المفعم بالحيوية الرابضة في سكون وانتظار اللحظات القادمة.

 هذا الكائن العظيم تسهم ثقافته وفكره بشكل أساسي في بناء الحضارات وتجسيد الإبداع والتقدم والرقي وتعطي المؤشرات الأولية إلى مستقبل أي أمة أو دولة، وقد تكون المعول في هدمها والارتكاس في دوامة التخلف والرجعية.

فمفردات ومقومات تكويناته الفكرية والثقافية والانفعالية والسلوكية ووعيه بما يدور حوله الدعامة الرئيسة في التعامل مع البيئة من حوله، فما تأسس في نفسية ووجدان هذا الطفل يكبر ليثمر شجرة طيبة تنتج الجمال والحب والسلام، وإما شجرة خبيثة طلعها كرؤوس الشياطين من الكره والعدوان والقبح.

والمعرفة بتنوع أهدافها وتعدد وسائلها هي الجسور التي يعبر الطفل عليها إلى البيئة، وما يجده خلالها وما تضفيه ظلالها في نفسه يكون المحصلة النهائية لهذا التواصل، فإما إنسان رؤوم حنون بهذه الأرض الطيبة وما عليها، وإما إنسان غليظ القلب شديد الحيلة في استغلالها وانتهاك حرمتها.

والمعرفة يمكن للإنسان أن يصل إليها بشكل نظامي محدد، أو يتلقاها بصورة ظاهرها العشوائية وحقيقة أمرها أنها منظمة غاية التنظيم في خطوات ممنهجة مؤطرة بشكل متقن لتوجيه سلوكنا نحو بغية بعينها، وكثيرة هي الأسباب التي لا تجعلها بارزة بوضوح بحيث يمكن رصدها وتلمس أهدافها بشكل إجرائي.

وما تؤكده الدراسات المتتابعة، وما تسطره المؤتمرات من توصيات منذ العام 1972م في مؤتمر "استوكهولم"، ثم ما تم التوصل إليه في العام 1987م بضرورة صياغة مستقبل العالم المشترك بإتباع سياسة ما يسمى " بالتنمية المستدامة " بهدف الحفاظ على مقدرات الأرض من الاستهلاك غير الواعي، وما صدر عن مؤتمر " ريودي جانيرو" من برامج أُطلق عليها " أجندة القرن الواحد والعشرين"، وكان آخرها مؤتمر الأمم المتحدة للقمة العالمية الذي عقد في "جوها سنبرج " يُظهر واضحا جليا حجم التدهور البيئي المستمر ومدى الكارثة التي تكاد تطال كوكب الأرض بأسوأ ما مر عليه على مدار التاريخ، وترجع معظم هذه المرجعيات الأزمة الحالية إلى الممارسات السيئة وشديدة السلبية تجاه الأرض سواء باستغلال مقدراتها بصورة تتنافى مع حجم إمكانياتها وقدرتها على تجديدها واستعادة حيويتها، وما يتبع ذلك بالضرورة من سلوكيات استهلاكية وأخلاقيات الإسراف المنافية لحقوق هذا الكوكب علينا.

وهنا تقف الطفولة التي تمثل أكثرية هذا الكوكب ومستقبله القادم ـ حيث أنها تمثل في الوقت الراهن من 40% إلى 45% من مجموع السكان وبعد أعوام قليلة يضاف إليها ما لا يقل عن 20% وعليه فأنها ستمثل خلال فترة قريبة حوالي 65% ـ  موقفا شائكا وغاية في صعوبة تجاوزه دون إشارة ولو سريعة، ويتمثل ذلك في أمرين أولهما: في عدم وعيهم التام بحقيقة ما يحدث في هذا الكوكب من انتهاكات وممارسات، لم يشاركوا هم فيها، ونرجو ألا يكون لهم ضلع فيها مستقبلا.

وثانيها: فأنهم يتعلمون ويربون بصورة غير مباشرة على ما يمكنه أن يكون ممارسات ضد البيئة؛ تسهم في هذا العديد من الجهات بصورة غير متعمدة في الأغلب، وبشيء من التعمد في القليل منه.

ومن أخطر هذه الجهات المسهمة في هذه الإشكالية الضخمة الإعلام المتهاطل علينا بقنواته وسمائه المفتوحة، ونسبته في ذلك لا يمكن إنكارها بحال، ودوره الأخطر يتمثل صريحا في الطفل وهو كما تقول الباحثة نهى عاطف العبد" إن متابعة القنوات الفضائية ألهت الطفل عن متابعة الدراسة والتحصيل العلمي وعوَدته على السهر والخمول وقتلت لديه روح البراءة وعلَمته أساليب الجريمة والعنف وبثت لديه روح الكراهية والعدوان وأكسبته سلوكيات خاطئة، وقضت على روح التفاهم والحوار داخل الأسرة" ( جريدة الاتحاد:7/9/2003)

إن ما رصدته الباحثة يجسد في ألم شديد وبلغة تزيدنا اشمئزازا كلما رأينا هذا واضحا على الواقع، فطفولتنا الآن تعاني أكثر مما مضى،  فقد كانت معاناتها قديما تمتاز بالجزئية والخصوصية في الإشكال، ولكنهم الآن يعانون حقا معاناة جماعية بحيث أصبحوا يتشابهون في كثير من الصفات المتناسخة بصورة كربونية.

وهناك بُعْدٌ آخر يزيد الإشكال تضخما في التعقيد حتى تكاد أطراف القضية تضيع من أيدينا، فقد أظهرت نتائج دراسة إعلامية حديثة أعدتها أمانة الإعلام بجامعة الدول العربية تؤكد أن القنوات الفضائية العربية تستورد جزءا كبيرا من مواد برامجها لأنها غير قادرة على إنتاج كامل حاجتها موضحة أن مجموع ساعات البث العربي يصل إلى نحو 300 ألف ساعة سنويا، والإنتاج العربي تلفزيونيا وسينمائيا بمختلف أشكاله بما فيها البرامج الرياضية والدينية والمنوعات والدراما لا يكفي إلا لربع وقت البث فقط، مما يضطرها إلى اللجوء إلى برامج تساعدها على ملء هذا الفارق بين المتاح والمطلوب، منها بث الإنتاج القديم وإعادة بثه مرات متكررة أو إنتاج برامج شديدة السطحية، وهذا الاحتياج يضطرها إلى استيراد برامج معروضة عليها وليس لها حرية الاختيار في إقرار الصالح والأصلح، وما يتوافق مع متطلباتنا الثقافية والفكرية والوجدانية وبالتالي مع أولوليتنا المعرفية والفكرية والثقافية وبالضرورة السلوكية، فالهدف النهائي هو ملء ساعات الفراغ بغض النظر عن مضمونها.

هذه بعض العوامل التي يتعرض لها الطفل العربي فتحوله إلى مسخ مشوه نفسيا كل ما يحتاجه هو الوقت ليظهر ما تشبّع به سلوكا حيا أثناء تعامله مع مفردات الحياة، و لكن لبعض المؤسسات الوسيطة ـ كالأسرة ـ جهودها في محاولة لتقليل هذه الآثار وتصفية وتنقية وتقويم ما يتلقاه الطفل، هذا إذا كانت مدركة لدورها وأهميته ولديها الأدوات الكافية التي يمكنها أن تستخدمها بشكل وقائي ومناعي ضد كل هذه الملوثات والميكروبات الإعلامية والفضائية.

إن أنظمة التعامل مع الحياة هي نتاج أكيد لأنماط متعددة من المدخلات الثقافية وأساليب التفكير ومخرجات الإنتاج، ومتطلبات الرؤية والتقدم تعد الطفل هو المستقبل الأكثر استعدادا لتقبلها واستساغتها وإخراجها سلوكا قد نستهجنه أحيانا كثيرة باعتباره منبت الصلة عن قيمنا وثقافتنا الأصيلة، وإن كان الحق أن هذا غير صائب في إجماله هنا، إن الطفل هو المعبر الصادق عن الثقافة دون مراوغة أو نفاق بل بشفافية ترصد الواقع الثقافي والأدبي بحذافيره وتفاصيله، فهو لا يفكر قبل أن يصدر سلوكه وتصرفه بل يفعله بتلقائية نابعة من قناعته أنه لا أحد يعيب ما يفعل.

 كما أن عددا من الرواد بذلوا جهودا مضنية في تأسيس ثقافة أدبية صحية للطفل نابعة من صميم قيمنا، وذلك لقناعتهم التامة بأهمية ثقافة الطفل في تكوينه وإضاءة حياته بتبصيرهم بقضايا مجتمعهم وبيئتهم وتقديم خبرات تعيينهم على السلوكيات الصائبة في حياة يسودها الكثير من السلبيات، متخذين العديد من الآليات التي تلقي بظلالها العميقة في تنمية الإحساس بالجمال، وتوسيع مداركهم وملء نفوسهم جميعا يقينا بوجوب الاتصال الحيوي والوثيق بينهم وبين بيئتهم من حولهم.

إننا بحاجة واعية إلى تطبيع العلاقة بين الطفل والبيئة بحيث يخرج الإنسان الصالح للتعايش السلمي مع هذه الأرض وتقبلها بشكل إيجابي، والخروج من قيم ومبادئ الحرب والصراع  وفلسفة هزيمة الطبيعة والانتصار عليها ونهاية التاريخ ونهاية الإنسان، إلى قيم السلام ومبادئ التلاحم والوئام والتكيف مع البيئة، وعدم انتزاع لبنها وخيرها قصرا بل بعد ملاينتها والحنو عليها، إنه مشهد لن تضيع ملامحه من ذاكراتنا أبدا هو مشهد الفلاحة التي تضع يدها على ضرع الحيوان تمسح عليه وتشعره بالأمان والحنان لتستجيب في غير عناد ولا مشقة، وإذا بالصورة تختلف لتأتي المصات الصناعية التي تستنزفها حتى آخر قطرة دون رحمة أو تواد ورأفة، ففي الصورة الأولى تبادل شعور بشعور، وفي الحالة الثانية استنزاف وإنهاك حتى بدون كلمة عطف أو حنان.

هذه الحالة من المرض البيئي التي نعاني منها تحتاج منا إلى علاج جذري لحواسنا التي صارت صماء آلية أفقدتنا الكثير من الشعور المتبادل بيننا وبين الحياة بتنمية هذه الحواس لجعلها عاملة شاعرة لا ترى الوجود مجرد مادة تستهلك، أو ثروات تستنزف، أو خيرات واجبة الامتلاك.

لا سبيل إلى الخروج من هذه المنطقة الموبوءة بالعداء للبيئة إلا بتغير أو تنظيف هذا الهواء الذي نستنشقه ليملأ رئتي أطفالنا ثقافة وفكرا قويما وسلوكيات تصلح.

أهداف لابد أن تتأسس فينا بتنمية الأخلاق الراقية في أبنائنا خاصة قيم احترام الإنسان والحيوان والنبات، والإحساس بالجمال والسمو به، احترام الطبيعة والتعاطف معها، والاتجاه نحو بلوغ الحقيقة في إطار من احترام الآخرين والاعتراف بالجميل مع البحث عن الاستقلال الذاتي وضبط النفس والإسهام في تحقيق الصالح العام بالعادات الخيرة والسلوك الحميد في الحياة اليومية.

إن تطوير ثقافة الطفل ـ هذه الثقافة التي ما زالت تعاني تغيبا وتهميشا فترفع كمجرد شعارات جوفاء  لا تصنع سوى اللامبالاة في أطفالنا تجاه ما يصدر لهم إلا في القليل النادر ـ مطلب حيوي واجب التحديد والتنفيذ من خلال فهم أبجدياته وتركيبته النفسية لنحسن مخاطبته وإفادته، فالطفل كائن في غاية الحيوية يلتصق تماما بما حوله وما يلامسه، تجسد هذه المعاني هالة معتوق في قصيدتها الأمل:

تحت النخلة

نلهو نلعب

نبي بيتا... نصنع مركب

نبحر في أحلام زرق

نجري....نجري.... لا لا نتعب

إنها توظف مفردات مأخوذة من صميم البيئة لتتجسد فاعلة في حيوية هذا الطفل لتعكس واقعا مليئا بالأمل الطموح.

وكذلك التجربة في حياة الإنسان لها أهميتها القصوى سواء على مستوى الشعور والعاطفة او على المستوى المادي، فعندما انهزمت اليابان بالقنبلة الذرية في الحرب العالمية الثانية قال إمبراطور اليابان ( هيروهيتو) :" نحن لم نهزم في الحرب ولكن هزمنا في المعمل" ومعه كل الحق لأن الشعب الياباني شعب فدائي في الدرجة الأولى، ويكفى أنه أُعلن ذات يوم أثناء الحرب عن طلب متطوع لتجربة سلاح جديد ـ علما بأن المتطوع في حال فشل التجربة سيلقى حتفه ـ فتقدم خمسة آلاف ياباني كمتطوعين  في ساعة واحدة، ( مجلة شؤون اجتماعية العدد 77 ص 133).

 التجربة بكل ما لها من دلالات الصواب والخطأ يجب أن نؤسس لها في عالم أطفالنا حتى يستطيعوا مواجهة الحياة وفق منهجية علمية قابلة للتدارك ومحاسبة الذات والرجوع وقابلية الإصلاح، شعرت " رهف المبارك " بأهمية التجربة كأساس من أسس الحياة في قصيدتها " درس في المختبر" فاستخدمت في ذلك لغة ملؤها الشفافية وسرعة الإيقاع وسهولة اللفظ متطلعة إلى ترسيخ فكرة أهمية التجريب في حياتنا عموما وفي حياة طفولتنا خصوصا، وألا نقف عاجزين أمام التصورات المقررة سلفا، فتضع الطفل "وسيم" في مأزق لا يجد حله في خوض التجربة، تقول:

نهض وسيم كالمنتفض

وهو يتمتم: جرب ... جرب

سحب الباب، فبان النور

خفق القلب

رقص وسيم كالعصفور

خرج من المختبر يغنى

جرب...جرب...جرب

نعم نحن بحاجة إلى دوام التجربة وتحمل تبعاتها مهما كانت النتائج.

والله أعلم