العمل الجماعي وأسباب فشله في المجتمعات العربية
العمل الجماعي
وأسباب فشله في المجتمعات العربية
م. أسامة الطنطاوي
كانت الشريعة الإسلامية رائدة في تبني مبدأ العمل الجماعي، لأن في ذلك توحيدًا للهمم والطاقات، وتعاونا تتهادى أمامه أصعب المهام وتتحقق من خلاله أعظم الإنجازات، فالخطاب الرباني في القرآن الكريم كله دعوة للعمل الجماعي، إذ جاء بصيغة الجمع في غالبية التكاليف، وكثيرًا ما ينادي القرآن المسلمين بنداء الجماعة بقوله «يا أيها الذين آمنوا» ، والآيات التي تحث على بث روح الجماعة والعمل بصيغة الفريق الواحد كثيرة ومتعددة ومنها قوله تبارك وتعالى «واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا» آل عمران: 103، وقوله «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان» المائدة: 2 حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (( يد الله مع الجماعة )) .
إلا أن مجتمعنا في ظروفه الحالية يفتقد إلى القدرة على تشجيع التعامل الجماعي الناجح فيما بين أفراده ، نتيجة انحراف بعض مفاهيمنا وتحولها إلى صراعات سلبية تقضي على أهدافنا وتبدد طاقاتنا وقدراتنا المتنوعة، لأنها تهدرها في مسارات جانبية ومتشعبة تبتعد كثيرا عن خط مسار المصلحة الجماعية.
ويبدو أن هناك بعض العوامل المختلفة التي تساهم في ديمومة الفشل
الجماعي وسيادة النزعة الفردية واحتدام الصراعات الداخلية بين أبناء المجتمع الواحد
.....
ومن هذه العوامل فقدان روح التربية الجماعية حيث ان
تربيتنا بصورة عامة لا تستند على أسس التفاعل الجماعي وإنما تميل إلى تأكيد الذات
الفردية والتسلط والتفاعل السلبي مع بعضنا. وهذا يتواصل معنا في صبانا وشبابنا
ورجولتنا، مما يؤدي إلى تنامي ظاهرة التفاعل الخشن و الغير متمدن أحيانا كثيرة فيما
بيننا .
كما يلعب غياب مفاهيم وأصول وقواعد العمل الجماعي ، إذ
أن أكثرنا يجهلها ولم يسمع بها، بل نشأنا على تأكيد العمل الفردي ونبذ التفاعل
الجماعي لخوفنا منه وجهلنا لقواعده وأصوله .
و إن عدم توفر الوعي الديمقراطي والبيئة الصالحة
لازدهاره ، حيث أن الديمقراطية كلمات نتحدث بها ومقالات نكتبها، شانها شأن أي شيء
اعتدنا على الإفاضة في الكلام عنه ولكن دون ممارسة جادة وواضحة لما نقوله وندعيه
عنه. وهذا ينطبق على جميع التفاعلات الاجتماعية في حياتنا، من حزبية وغيرها الكثير
مما نقوله ولا نفعله. وقد أدى ذلك الى حالة من التخمة و الإشباع من الشعارات
الفضفاضة ذات المدلولات العامة و المفرغة من رصيدها على صعيد الواقع الفعلي و
بالتالي أثرت سلبا على ثقافة وتربية الأجيال الناشئة وفقدت المعاني الرفيعة بريقها
، وتشتت في ظلمات المجهول ومتاهات الضياع .
وتجدر الإشارة إلى أن صفة الذاتية و التأكيد الذاتي هي
حالة فاعلة ومستعرة في بنياننا النفسي والفكري وتقودنا إلى ترسيخ معالمها على جميع
المستويات. وهذه النزعة الذاتية تعززها العديد من السلوكيات المتوارثة في حياتنا
عبر الأجيال. فعلاقتنا تكون مبنية على الخشونة لأنها تسعى إلى تأكيد الذات وتحقيق
مراسيم شرائع الغاب، وهي لا تعترف بالمعاصرة والتحضر ومنطوقها "إذا لم تكن ذئبا
ذؤوبا بالت على رأسك الثعالب" وبهذا المفهوم التربوي الكامن في أكثرنا فنحن نتحرك
ونتواصل مع بعضنا البعض وفقا له .
ومما لاشك فيه أن المجتمعات المقهورة يحقق أبناؤها قهرا
متبادلا فيما بينهم لكي يتوافق سلوكهم مع الحالة الجمعية التي هم فيها. فلا يمكننا
أن نرتجي من مجتمع مقهور ومضطهد أن يسلك سلوكا اجتماعيا جماعيا مفيدا وذا قيمة
إيجابية, لأن القهر يثير العواطف السلبية ويشل القدرات العقلية الفاعلة ويمنع
التفكير البناء ويصبح التفاعل مجرد استجابات فورية وردود أفعال غير محسوبة ومشحونة
بجميع متطلبات ومبررات البقاء الطبيعية .
و الوضع السائد للفهم السلبي للاختلاف والذي يعتبر معضلة
لازلنا لم نرتقي إلى تجاوزها، فنحن مشحونون بالطاقات الغاضبة والانفعال الشديد تجاه
أي موقف مخالف لنا. ولا يمكننا أن نرى بعين العقل ونفهم ما يدور لأن الثورة
الانفعالية التي يحققها الاختلاف فينا تتفوق على جميع قدرات الحكمة والحلم والعقل.
ولازلنا لا نعرف التعامل مع الاختلاف ونجهل مهارات التعبير عن مواقفنا المختلفة
وكيف نصيغها في بوتقة واحدة لنصنع منها لبنة راسخة والتي تمثل ضرورة للبناء
الاجتماعي والحضاري المعاصر .
و أحد أهم أسباب فشل منظومة العمل الجماعي هي صفة
الأنانية ، فالكثير من أبناء مجتمعنا يتسمون بهذه الصفة المقيتة والتي هي نقيض
العمل الجماعي . وهذه الصفة المتمكنة منا هي التي تقف حاجزا صلدا أمام تحقيق العمل
وبناء القرار الجماعي. والشواهد على ذلك واضحة في مسيرة مجتمعاتنا وعلى مر العقود
ولازلنا لا نعرف إلا التعبيرات الأنانية ذات الآفاق الضيقة ، والمصالح المبنية على
تأكيد الذاتية وتحقيق الرغبات القبلية والعشائرية والعائلية والحزبية والفردية
الضيقة .
و تمثل ضعف الخبرات القيادية لدى الكثيرين منا إلى أننا
لم نتعلم أصول ومبادئ وفنون القيادة ، فلم ندرسها في المدرسة ولم نشاهدها في حياتنا
العامة، ولا نعرف القائد إلا مَن تصدر مراكز القوة وجلس على كرسي الوعيد. فالقيادة
عندنا متمثلة بالقوة والخوف وما عداها لا يقترب في أذهاننا من معنى القيادة .
وإن غياب دور القانون في حياة الناس يكون العمل الجماعي بعيدا عن المنال ، لأنه مبني على أصول وقواعد وضوابط ، وعندما لا تعرف الجماعة قيمة الانضباط والقانون، فأن العمل الجماعي يكون ضحية وبعيدا عن التحقيق. فكيف يمكننا أن نعطي منتجا جماعيا ناجحا ونحن غير منضبطين قانونيا. بل أن فينا قِوى ودوافع قاهرة تأخذنا في مسارات تتعدى على القانون وتتجاوزه ، ففي عرفنا الجمعي الخضوع للقانون ضعف والخروج عنه قوة وفخر ورجولة..
والخلاصة أن العمل الجماعي نشاط وثقافة ونمط حياة يجب أن نتعلمه في البيت والمدرسة والمجتمع. حيث أن الكثير منا لم يتربى على هذا الأسلوب في صناعة الحياة لأنها غير محددة المعالم في تصوراتنا. ولا يتم التغلب على هذه المعوقات إلا بالرجوع إلى تعاليم عقيدتنا السمحاء ، وكذلك دراسة وتفهم ما وصلت إليه الحضارة الإسلامية في العصور الزاهرة والتي قد أخذت بمبدأ العمل الجماعي الجاد والعمل بروح الفريق قبل أن تظهر مدارس إدارة وتقنين العمل الجماعي المختلفة في الغرب إلى حيز الوجود.