وأرخت السيوف بظلالها
وأرخت السيوف بظلالها
قصة رجل فلسطيني بائس من واقع الحقيقة لا من وحي الخيال
أ. تحسين يحيى حسن أبو عاصي
– غزة فلسطين –
من تحت ظلام سيوف الأوصاف المتجسدة بنعوت الحس والمعنى ، يتفيءُ البائس ركنا من أركان ظلال هذا العالم الظالم القاسي المخيف المؤلم القاتل المرعب ....
ظلال ظلام أم ظلال حرور ؟ ... هذه هي حقيقة واقع ذلك الرجل البائس ، واقع لم يخترة البائس لنفسه بل اختاره البؤس له ، ولم يختر الحرمان بل الحرمان اختاره لنفسه ولم يختر الجوع بل الجوع اختاره لنفسه ولم يختر العري والفقر والمرارة والألم والذل والهوان والجهل واالخمول ، بل اختارنه مجتمعة لنفسها وكأنها زيجة كاثوليكية لا انفكاك لعقدها إلا بالموت .
نعوت شائكة بألفاظها فكيف هي بمعانيها ؟ وكيف هي بمذاقها وكيف هي بمعايشتها وبمعاينتها وبتجرع كاسات معاني شرابها والذي يعتبر السم القاتل الزعاف أهون وأرحم من خوض وعورة سبرها وأغوارها ؟ .
كل تلك النعوت عشعشت وتغذت وارتوت في أوكار قلوب البشر ، نعوت لا يمكن أن تملك البساطة لتفقد معانيها ، ولا سبيل لإدراكها إلا بواسطة أقلام المقادير في هذا الوجود الغامض في مراميه .
فما هذه الدنيا ؟ عجيبة في أمرها غريبة في أطوارها ، فلا خلود ولا امن ولا سكينة ولا راحة ، ولا ارتكان لشيء فيها ، ولا لصفة من صفاتها ولا للذة من ملذاتها ، فكل شيء يؤول إلى حتمية قدرية تتحدث عن نفسها قائلة : كل شيء بقدر...... كل شيء كأنه لم يكن ...... كل أمر سيمسي نسيا منسيا ...... وكأنك يا عين مارحتي ولا جيتي ...... ، فرحها حزن ، وغناها فقر ، وسعادتها شقاء ، وراحتها تعب ، وصحتها مرض ، وهي سراب في بوتقة مآل مجهول غير معلوم إلا من حسن الظن بالله تعالى .
من الناس من تلده أمه وفي فمه ملعقة من ذهب ، ومن الناس من يقول بلسان الحال والمقال : ليت أمي لم تلدني ، فالبحر بحران مركوب ومرهوب ، والعلم علمان موهوب ومكتسب ، والدهر يومان ممدوح ومذموم .
الشارب من ماء كأس البؤس يتصفح كتاب قلوب البشر ، باحثا عن جنة المأوى أو جحر بيت فيها علّه يأوى ، ولكنه هيهات وهيهات إنها السيوف التي يتفييءُ ظلالها ، فهي القلوب التي فقعت ألوانها بفقاعة ألوان وجوه الموتى ، وهي القلوب التي علاها الغثاء الأحوى ، وهي القلوب عليها رانها وأختامها وأقفالها وأوزارها ، وهي القلوب التي تحولت إلى هشيم زرع لا ينفع إنسانا ولا طيرا ولا حيوانا باستثناء تلك الحيوانات المعترف بجنسياتها في عالم الأمم المنتحرة ومجلس الغم الدولي ومؤسسات حقوق الحيوان والدفاع عنه . قلوب تصلح فقط لكي تكون وقود أتون نيران تشتعل ، لا تبقي معها ولا تذر .
أيها البائس لا تحزن إنها الدنيا ، إنها مجموعة من العقد المعقدة المعقودة المتعاقدة ، هي ثلة من سكاكين الحلاقة ( لتزيين لحى وشوارب الرجال ) وضعتها أقلام القدر بين يديك أيها البائس ، مجتمعة متشايكة متداخلة أينما لامستها أوقعت بك الجروح والآلام ، وفوق ذلك كله مطلوب منك ورغما عن أنفك أن تلعب بها وبيد منفردة لا بكلتا يديك .
أيها البائس : إنها الدنيا ذلك النفق المظلم ، الآسن الوعر بمستنقعاته وأدغاله ووحوشه ، ولدت على ظهرها باكيا ..... وترحل عنها باكيا ..... ولم يكن لك عند القدوم إليها أدنى خيار في لون عينيك أو بشرتك أو شعرك ، ولا لشكل قوامك ولا لانتسابك ولا لاسمك أو عائلتك ووالديك .
ما أقسى هذه الحياة ! وما أشد إيلامها ! وما أعظم ويلاتها ومآسيها ! .
*** *** *** ***
ولد البائس محاطا بهالات من البؤس والخوف والحرمان والجوع والمرض والقلق والجهل والحزن والأذى والضعف و الفقر والفاقة والفشل ، وهالات أخرى أقسمت أن تخلع عليه أرديتها وحللها لتجلسه مرغما تحت ظلال سيوفها ، فقد أحبته بقدر ، وأبت أن تفارقه في لحظة واحدة حتى لو كانت هذه اللحظة أقل من الثانية على امتداد عمره ، لقد لازمته ولاصقته تلك الهالات بحللها ، ليس فقط ملازَمة وملاصَقة الظل لصاحبة بل إضافة لذلك امتزجت بكينونته امتزاج العاشق بالمعشوق ، هذا هو قدره ، وهكذا ولد وهكذا مضت حياة طفولته وشبابه ولربما شيخوخته فهو من مواليد غزة ( 1965 ) وهكذا سيمضي كل عمره بما شاء الله له سبحانه فلا راد لحكمه وهو الغالب على أمره .
لقد سلبت منه المقادير إرادته قي كل ما يدور من حوله ، وأسقته كل تلك النعوت من شرابها الآسن عبر كاساتها ما أسقته ، يتجرعها مرغما عنه فلا خيار أمامه غير خيارها وكيف لا وهو الضحية بعينها لظروف فوق مقدوره وطاقاته منذ أن التقم ثدي أمه في أول دقائق عمره ، ليعيش طفلا ليس كباقي أطفال العالم ، وقد تركت تداعيات ظلال السيوف بصماتها وآثارها على كامل شخصيته بدون أن يفقد حرية الحركة من بعد أن فقد حرية الاختيار .
هذه هي بداية قصة المرارة ورحلة العذاب ، خطأ طبيب !!! وقد سمحت أمه المسكينة أن يتحول ولدها البائس إلى حقل تجارب عن غير قصد منها ولا وعي ، فهي أم مثل كل الأمهات تحنو على ابنها وتغمره برعايتها وترجو له الخير .
كان أبوه عاملا في مقهى من مقاهي دول الخليج العربي ، هاجر إليها بعد سنوات عجاف ، ينتزع لقمة العيش كما ينتزع ثمن الدواء لابنه المريض البائس ، وابنه الآخر الذي سوف يصبح طبيبا عما قريب ، يغدق من الأموال من أجل شفائه ما الله أعلم بها ، وشأنه في ذلك شأن زوجته المسكينة الصابرة المحتسبة .
لقد ترك الطبيب المعالج بأخطائه بصمات وآثارا على ذلك البائس ، ستظل تلحق عليه وعلى من ساهم في تخرجه من الجامعة اللعنة والغضب ......سنوات طفولته الست كان يتردد عند طبيب واحد من أصل مصري ( للحقيقة ) وكانت النتيجة ومن أقلام وألسن أطباء آخرين أن الدواء الذي خضع له مدة طويلة وعلى يد طبيب واحد ، اوصله إلى هذه الحالة ، وبعيدا عن التفاصيل فيكفينا ملل القلوب والأرواح والأبدان والأقوال والأفعال ......
عندما بلغ الطفل البائس ، العمر الذي يؤهله لدخول المدرسة ، ألحقته أمه في صفوفها شأنه شأن باقي التلاميذ ، ولكنه لم يفلح ألبته ، ومكث خمسة سنين في المدرسة التأسيسية لم يتمكن خلالها من كتابة أو قراءة سطر واحد بالشكل الصحيح ، فالفشل الصارخ يبدو أنه صفة مخلوعة عليه منذ أن كان في بطن أمه ، كيف لا وهو الذي يتفييءُ ظلال السيوف .
فكرت الأم من جديد بولدها البائس وبحظه التعيس ، فاهتدت إلى رجل يعمل حائكا ، استجدته طويلا كي يقبله ويعلمه مهنة الحياكة ؛ على أمل ان يكتب الله له النجاح والفلاح في هذه المهنة ، بعد الفشل الذي مني به في مدرسته .
كان عمره لم يتجاوز الثانية عشر ، وكان صاحب مشغل الحياكة كثيرا ما يشكو كثرة تغيبه وهروبه كما كان يشكو من تحطيمه لكثير من أدوات الخياطة عن غير قصد أثناء محاولات تعليمه ، وكان صاحب المشغل حاد الطباع عصبي المزاج ، غير أنه كان رؤوفا ، فقد قدم له كل شيء ولم يبخل عليه في شيء رغبة منه في أن يعلمه المهنة .
مكث عنده البائس ست سنين حتى كاد أن يتعلم أوليات المهنة ، وانتقل بعد ذلك إلى حلقة أخرى من حلقات المعاناة .
تحت ضغط الحاجة ووطاة الحياة ، وهو لا يزال في أول محطة من محطات شبابه ، ذهب ليبحث عن رزقه في مصانع الحياكة ، فعمل عند رجل ليقع ضحية لنزواته ورغباته وغرائزه ، استطاع هذا الرجل أن يتمكن منه وأن يستغل ضعفه ووضعه ونفسيته وسوء حالته ولمدة خمس سنوات حتى تحول إلى عاشق للإنحراف والشذوذ مثله .
وبدأت تفوح من البائس رائحة الشذوذ وانتشرت الفضائح بأحداثها وتداعياتها مما دفع والديه للبحث عن زوجة له معتقدين وبقلب الوالدين الرؤوفين أن زواجه سيغير من سلوكه ......
تزوج البائس واستمرت المشكلة وتفاقمت الأمور ، وكان حظ زوجته لا يخلو من البؤس ، كما أنها ليست أحسن حظا من الأطفال الذين أنجبتهم منه وهكذا ترخي السيوف بظلالها شيئا فشيئا .
كان البائس يعيش في بيت العائلة بصحبة والديه وإخوته الذين كثيرا ما كانوا ينقذونه من مشكلات كثيرة وقاسية ، كما كانوا وبدون كلل ولا ملل يحاولون إصلاحه وعلاجه .
أما زوجته فلطالما تركت أطفالها وهجرت بيتها إلى بيت أهلها ؛ احتجاجا وعدم رضى ؛ لتمكث في بيت أهلها الأسابيع والشهور، وكثيرا ما دبت بينهما الخلافات والنزاعات ، والتي كانت تنعكس بدورها على الوالدين العجوزين ( أم البائس وأبيه ) وليتغذى الأطفال على حياة البؤس والألم والحرمان ، فلا أم ترعى ولا أب يهتم
تعود الأطفال الصغار أن يختاروا ركنا بعيدا في منزلهم للإنزواء فيه ، إذا نظرت إلى عيونهم قرأت كل معاني الرفض والتساؤل والحيرة والقلق ، وقد سطر الزمن على صفحات وجوههم سطورا من براءة الأطفال المعذبين في الأرض .
تحمل الوالدان المسنان مزيدا من المعاناة والألم ، ما لا تتحمله الجبال الشاهقات ، فإبنهما البائس لا يصلح لزوجة ، ولا يصلح لتعليم ، ولا يصلح للعمل ، ولا لتربية أطفال ، ولا يصلح حتى لنفسه ، وامتهن حرفة النصب والاحتيال ؛ ليزيد وضعه اشتعال ، يبحث عن الشذوذ ، والناس في كل يوم يقرعون باب العجوزين ، أما مطالبين بحقوقهم ، وإما مشتكين ، والشرطة تبحث عنه ، وزوجته تاركة صغارها وبيت زوجها ، وقد ضجرت وسئمت الحياة معه بعد صبر طويل .
تحول نهار الأسرة البائسة إلى ليل ، بل إلى ظلام دامس ، إذا حاولت أن تخرج يدك لم تكد تراها ، وتحول ليلها إلى عداد لنجوم السماء ، سهر وقلق وهم وحزن ، الجميع يتنفس وينظر إلى الحياة من ثقب إبرة هو أوسع من ذلك العالم الظالم ، وقد حط الزمن من صحتهما ووهن من عظمهما .
الأطفال يبكون ، ويختلط بكاؤهم بنحيب وزفرات العجوزين ، كنت أسمع ذلك من بيتي الملاصق لبيتهم ، فأشاركهم وجيراني لحظات الشعور التي تخط سطورها بمداد من الدمع على صفحات الوجوه ، نشارك جميعنا في وليمة عصر العولمة والعالم الحر الحديث ، والتي لا تخلو ويلاتها ، معظم بيوت الشعب الفلسطيني في داخل الوطن وخارجه ، مقيدين بقيود من تحت سيوف أرخت على الجميع بظلالها .
لم يشفع مع البائس أي شكل من أشكال الترغيب والترهيب ؛ من أجل معالجته ، فقد خضع للعلاج النفسي فترة ليست بقصيرة ، والتحق بالمسجد ثم بالزاوية ، وعومل بحترام كبير، واستعد الكثير من أصحاب مصانع الحياكة المحترمين لقبوله رغم علاته المفضوحة ؛ شفقة على أطفاله ، وكل ذلك على غير فائدة ، وتعرض للضرب والتربيط ، وحلق الشعر والحبس ، ومنع التدخين على أيدي اهله ، كما تعرض للسجن والضرب على أيدي رجال الشرطة ، وخضع للمحاكمة مرات كثيرة ، وكل ذلك على غير قائدة ترتجى .
وفي عنفوان الحركة العشوائية الظالمة السوداء ، شهقت أمه العجوز أنفاسها الأخيرة مسلمة روحها إلى بارئها ، تاركة من خلفها زوجها العجوز يقلع الشوك برموش عينيه .
كان ابنهما الطبيب قد غادر البيت بصحبة زوجته الروسية ، هاربين من جحيم البيت ، وقد نصحه أخوه الأكبر من قبل بعدم الخروج من البيت ، و كان أخوه الأكبر فقيرا صاحب عيال ، يكاد أن ينستر في حياته ، مقتنعا بالكفاف نصحه بنصائح ثلاث :
الأولى : كيف تخرج من البيت ووالديك قد يتعرضان أو أحدهما إلى مرض يحتاج كل منهما للخدمة ولرعاية ؟
الثانية : على من تترك والديك وهما في حالة من العوز والضيق ما الله أعلم به .
الثالثة : توقع نشوب حرب أو معارك هنا اوهناك ، وقد تركت والديك وحيدين .
كان أخوه الأكبر صادقا في نصائحه لأخيه الطبيب ، فهو صاحب تجربة ودراية في الحياة ، وكانه ينظر إلى الواح القدر ، فقد مرضت الأم ثم ماتت ، وعاش الوالدان العجوزان ظروفا قاسية للغاية ، واندلعت انتفاضة الأقصى وكثف الاسرائيليون من هجماتهم على قطاع غزة .
بعد وفاة الأم العجوز، باع زوجها بيته المتواضع ليشتري بيتا أكثر تواضعا لزوجة ابنه البائس وأطفالهم ؛ لكي يعيشوا به من بعد وفاته ، وليصرف ما تبقى من ثمن البيت القديم على هذه الأسرة البائسة .
وما أن مضى سبعة شهور على موت زوجته العجوز، حتى أسلم الروح إلى مولاه مستريحا من رحلة عذاب ، الله أعلم بأسرارها .
عاشت أسرة الرجل البائس من بعد موت والده على حسنات المحسنين والتزام أخيه الأكبر بأسرته ، وكان البائس يتربع في صحن البيت يأكل كل طعام الأسرة جملة واحدة ، فقد كان ذو شهية عالية ، ولم يكن ليفكر مرة واحدة في طعام أطفاله ، كما كان شأنه من قبل ، ولا يزال المشتكون يطرقون باب زوجته المستورة والعاكفة على أطفالها تارة ، ويطرقون باب أخيه الأكبر تارة أخرى .
هكذا استمرت حياته حتى اصبح ابنه شابا في العشرين من عمره ، وهو الذي حاول منذ أن كان في العاشرة أن يمارس معه الجنس ولكنه فشل ، وأصبحت ابنته شابة يانعة ، وهو الذي حاول أيضا أن يمارس معها الرذيلة ، منذ ان كانت طفلة ، ولكنه أيضا فشل بفضل الله ومنته ، فلم يسلم حتى أطفاله من أذاه وشره ، أصبح لا يؤتمن على شيء ، الجميع يتوقع أذاه ولا خير من ورائه ، حضنه أخوه الأكبر مدة من الزمن ، ومنعه عن الخروج تجنبا للمشاكل ، وكان يكرمه من ميسور ما أنعم الله عليه ، ولم يبخل عليه لحظة واحدة حتى في سجائره ، واهتم برعايته وبصحته ، فلم يرق له هذا الحال فهرب من بيت أخيه في ليلة ليست مقمرة ليمكث في السجن للمرة الرابعة والعشرين .
خرج من السجن بعد حوالي العامين وذهب إلى بيته كعادته ، ولكن هذه المرة لم يقبله أحد ، فقد طردته زوجته كما لفظه ابنه وأسرته ؛ لينام في الطرقات هائما على وجهه ، وما هي إلا فترة وجيزة حتى عاد إلى السجن من جديد للمرة الخامسة والعشرين ، ولكن هذه المرة ليست كسابقاتها ، فقد أُصيب بمرض الكبد الوبائي ، ولم يزره في سجنه أحد لا من قريب ولا من صديق ، وقد بلغ من العمر اثنتين وأربعين عاما ، يبتظر مستقبله المجهول .
وهكذا أرخت السيوف بظلالها