لغتنا الجميلة

أيمن بن أحمد ذو الغنى

لغتنا الجميلة

( 16 )

بقلم: أيمن بن أحمد ذو الغنى

عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية

بذل علماء العربية جهوداً جبّارة مضنية في تتبع كلام العرب شعره ونثره، والإحاطة بجمهرته إحاطة مكّنتهم من كشف قوانين اللغة وخصائصها، وصوغ قواعدها وبيان أحكامها.

وإن جُلّ قواعد العربية هيّن على الأفهام، يسير على الأذهان، بيد أننا استخففنا بلغتنا، واستدبرنا قواعدها، وأهملنا تعلّمها وإتقانها، فكثُر في استعمالنا لها الخطأ واللحن.

ومن القواعد التي نتجنب بمعرفتها كثيراً من الخطل قاعدة التثنية للأسماء المنتهية بألف، فمن المعلوم أن الاسم يدل على المثنى بزيادة ألف ونون (حالة الرفع) أو ياء ونون (حالة النصب والجر) في آخره، سواء في ذلك المذكر والمؤنث، فنقول: أقبل الولدان والبنتان، ورأيت الولدين والبنتين، ومررت بالولدين والبنتين.

أما إذا كان الاسم منتهياً بألف فله –عند تثنيته- ثلاث حالات:

الأولى: إن كانت الألف ثالثة (أي: ثالث حرف) ترد إلى أصلها، (الواو أو الياء).

مثال ذلك: كلمة عصا، الألف فيها منقلبة عن واو، فتُرد عند التثنية إلى أصلها، فنقول: في يد الراعي عَصَوان، ورأيت في يد الراعي عَصَوين، ويهشُّ الراعي على غنمه بعَصَوين (أي: يضربُ أغصان الشجر ليسقط ورقها وتأكلها الأغنام).

ومن ذلك أيضاً: كلمة فتى، الألف فيها منقلبة عن ياء، فنثنيها: فتَيان (في الرفع) وفتيين (في النصب والجر)، نقول: طحَنَ الفَتيانِ القمحَ برحيين كبيرتين (الرحى: أداة يُطحن بها).

الثانية: إن كانت الألف رابعة فصاعداً: تُقلب ياءً.

فتثنية أعشى (لضعيف البصر): أعشيان وأعشيين، وحُبلى: حُبْليان وحُبْليين، وأُولى: وأُوليين، وعُظْمى: عُظْمَيان وعُظْمًيًيْنِ، نقول: فازت الطالبتان الأُوْلَيَان بالجائزتين العُظْميين.

الثالثة: إن كانت الألف ممدودة للتأنيث (الاسم الممدود هو: اسم آخره ألف زائدة بعدها همزة) تُقلب الهمزة واواً.

فتثنية صحراء: صحراوان وصحراوين، وحسناء، حسناوان وحسناوين، وشقراء: شقراوان وشقراوين. نقول: عبرت فتاتان حسناوان صحراوين واسعتين على ناقتين حمراوين.

لغتنا الجميلة ( 17 )

غير خافٍ على ذي لب أن الحفاظ على اللغة العربية سليمة معافاة من أوضار اللحن والعجمة واجب ديني ومطلب حضاري، إذ العربية لغة قرآننا ولسان نبينا صلى الله عليه وسلم، وما لم نتقنها ونحسن استعمالها نبقى مُنْبَتّين عن تاريخنا مستدبرين تراثنا.

ولن يتأتّى لنا ردم الهوّة العميقة بيننا وبين لغتنا إلا بالغيرة الصادقة، والهمة العالية، والسعي الجاد الدؤوب، لإحياء العربية الفصحى على ألسنتنا وأقلامنا، وبذل الوُكْدِ في تجنّب الخطأ واللحن في استعمالها.

ومما يزيد الخرق اتساعاً أن نرى ألوان التحريف والتشويه لجمال العربية على أيدي بعض المتخصصين بها، القائمين على نشرها وتعليمها، فأي خير يرتجى ممن يتلقون منهم ويتخرّجون بهم إذا كانوا هم في هذا الدَّرْكِ من معرفة العربية والإحساس بها؟!

ومن عظيم المصائب أن تتسرب الأخطاء إلى الكتب المدرسية المقررة، لأنها في أعين الطلاب مراجع موثوقة يعتدّون بها الاعتداد كله، ويظنون فيها الصدق والعصمة، وأنها لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، فيأخذون بكل ما فيها، مسلِّمين بصحتها، فتنطبع أخطاؤها في عقولهم، وهيهات بعد ذلك أن تُمحى!.

ومن الأخطاء التي راعني تكرارها واطرادها في أحد الكتب المدرسية لطلاب المرحلة الابتدائية: ضبط صيغة الأمر من الفعل (نطق) فقد ضُبطت في جميع المواضع من الكتاب المشار إليه بضم الطاء: (اُنطُقْ) وانبنى على ضمها: ضم همزة الوصل، وكل ذلك خطأ مردّه إلى الجهل بالباب الذي يتصرّف منه هذا الفعل بهذا المعنى، والجادة أن يضبط بكسر الطاء: (انطِق) وتُكسر معه همزة الوصل، لأن الفعل (نَطَقَ) يتصرف من الباب الثاني من أبواب التصريف، وهو باب: (فَتْحُ كسرٍ) أي أن عين الفعل –وهي الطاء هنا- مفتوحة في الماضي مكسورة في المضارع، على غرار: ضربَ يضرِبُ، وحملَ يحمَلُ. نقول: نطَقَ الشيخ بالحكمة، وينطِقُ العلماءُ بلسان النبوّةِ، وانطِق بالحق وإن كان مُرّاً.

ومن ذلك قول العليم الحكيم، في وصف نبيّه الأمين، عليه أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم: 0وما يَنْطُِقُ عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى) (النجم 3-4).

أي: ليس يتكلم بهوى نفسه وشهوتها، ولكن بما هو حق ووحي منه سبحانه.

وقوله تعالى على لسان نبيه إبراهيم الخليل عليه السلام يُحاجُّ قومه:

(بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا يَنْطِقون) (الأنبياء 63).

وأخيراً لا يفوتني الإشارة إلى أن الفعل (نطق) يتصرّف أيضاً من الباب الخامس، أي باب: (ضمُّ ضَمٍّ) على زنة: شَرُفَ يَشْرُف، وكَرُمَ يكرُم، ولكن بمعنى آخر مختلف عن معناه حين يكون من الباب الثاني. نقول: نَطَقَ الرجل ينطُقُ نُطوقاً: إذا صار بليغاً فصيحاً مبيناً.

لغتنا الجميلة

( 18 )

أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما –وهما أصح كتابين بعد كتاب الله العظيم- ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، عن محنتها في حادثة الإفك، وعظم الابتلاء الذي ابتلاها الله به، وما عانته من جرّاء ذلك من ضيق وهمٍّ وكآبة.

ولقد أصاب النبي صلىَّ الله عليه وسلم مثلُ ما أصابها من حزن وغمّ، فالخَطْبُ عظيم جَلَلٌ، ليس بالهيّن على زوج لم يعرف من زوجته إلا الغفلة عن مواطن الريبة والزلل، حتى جاء الفرج من ربّ العزة جل جلاله بشهادته لها بالطهر والبراءة مما قذفها به بعض من لا خلاق لهم من المنافقين ومِرَاض القلوب، بقرآن يُتلى إلى يوم الدين.

وحينما اشتد على النبي صلى الله عليه وسلم ما يقوله هؤلاء الخرّاصون متولّو كِبْرِ الإفكِ ومفتروه، صعِد منبرَه وخطبَ أمته قائلاً:

"يا معشر المسلمين، مَنْ يَعْذِرُنِي من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي؟! فوالله ما علمتُ على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمتُ عليه إلا خيراً).

ومعنى قوله: "من يَعْذُرُني من رجل" أي: من يقوم بعذري إن كافأته على سوء صنيعه، فلا يلومني؟

وما أودُّ التنبيه عليه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم هو ضبط الفعل (عذر) في صيغتي المضارع والأمر، فقد كثر الخطأ في ضبطهما وشاع، حتى بات الصواب فيهما عزيزاً نادراً، فغالباً ما يضبطان: (يَعْذُرُ) و(أعذْر) بضم عين الفعل، (وهي حرف الذال هنا) والصواب كسرُها، لأن هذا الفعل يتصرّف من الباب الثاني (فتح كسرٍ) يقال: عذرَهُ على ما صنع يعْذِرُهُ عُذراً ومعذرة: إذا رفع عنه اللوم فيه، وأوجب له العذر، قال ابن قتيبة: الناس لا يَعْذِرون بالعذر الواضح، فكيف بالعذر المُلْتَبِس؟! ويقال: اِعْذِرْ أخاكَ ولا تُكثر ملامَته يَصْفُ لك وُدُّه.

هذا، ويتصرّف الفعل (عذر) من البابين الأول والثاني معاً، ولكن بمعنيين آخرين، يقال: عَذَرَ الرجل يَعْذِرُ ويَعْذُرُ (بكسر الذال وضمها): إذا كثرت عيوبه، وعَذَرَ الفارس جواده يعذِره ويعذُره: إذا شدَّ عِذارَهُ وألجمه، والعِذار: هو ما سال على خد الفرس من اللجام.