تعذيب العقل
تعذيب العقل
أحمد الخميسي . كاتب مصري
منذ فترة بسيطة قرأت عن تعذيب المواطن التونسي وليد العوني تعذيبا أدى به إلي فقدان عقله أو حسب التعبير الرسمي فقدان مداركه ! وهو نوع من الحوادث يتكرر وقوعه على امتداد الخريطة العربية.هكذا ثمة شخص اسمه وليد أو عبد الله أو رشدي، طويل القامة ، أو قصير ، متزوج أو أعزب ، فقد عقله بالتعذيب إلي درجة أنه لم يعد قادرا على استيعاب أو قراءة أو فهم كل ما يكتب الآن دفاعا عنه . وليس فينا من لم يسمع عن التعذيب بشتى الطرق ، لكن معظم وسائل الجلادين تستهدف في العادة بدن الإنسان ، يديه ، صدره ، ذراعه . أما الوقائع التي تعذب العقل فإنها أقل شيوعا، لأنها تستلزم أحيانا قليلا من الخيال ، والحرفية ، التي لا وقت لها . وتعذيب العقل عمل شيطاني قديم ، تعرض لأحد فنونه الأديب الروسي الكبير فيودور دوستويفسكي في سيبيريا خلال اعتقاله ، حين كانوا يجبرونه على تقطيع كميات ضخمة من الشجر طيلة النهار ليلقي بها عند الغروب في مياه النهر. التعذيب هنا لا يتعلق بالجهد البدني الشاق المبذول ، التعذيب هنا يتجه إلي العقل مباشرة ، إلي تدمير الدعامة التي يقوم عليها وهي المنطق القائل بأن لكل عمل غاية ، وأن لحياتنا هدفا ، وأن لوجودنا وكدنا معنى . العقل يقول إنك إذا قطعت أشجارا طيلة النهار فذلك لأنك ستبني منها كوخا أو بيتا ، أما أن تعرق على قطع الأشجار لتلقي بأخشابها إلي النهر فهذا يعني أن العالم لا يحتاج إلي العقل ، دمره إذن ، وارمه بعيدا ، لأن الوجود بلا منطق . وحينما يكون جهدك كله عبثا ، يغدو وجود العقل والمنطق مدعاة للسخرية ، والاستهزاء ، وتدوي في أذنيك أقوى فأقوى رسالة الجلادين : امسح عقلك ، لأنك لست بحاجة إليه ، لأنه لن ينفعك لا في تفسير العالم ولا في التحكم به . وقد اكتشف العلم الحديث أن القلب الذي نتغنى به في الشعر والروايات ليس أكثر من مضخة للدماء ، وأن العقل هو حصن التفكير والمشاعر والطموح . وحينما تعذب العقل أو تدمره ، فإنك تعذب وتحطم التكوين الإنساني المميز والبلورة الخاصة المشعة بكل أعماق وأبعاد الشخصية . واكتشف العلم الحديث أيضا أن الموت هو موت العقل ، إذ يمكن استبدال الساق أو الكلى بأخرى ، ووضع شريحة زجاجية في العين المعتمة لترى من جديد ، وتغيير صمامات القلب أو القلب بأكمله ، وزرع كبد ، ورئة ، لكن كل تلك المعجزات لا ترقي إلي المساس بالعقل الذي يجري مليارات من العمليات في أقل من ثانية والذي مازلنا لا نستخدم سوى جزء ضئيل من قدراته . في هذا السياق أتذكر كتابا للدكتور عبد المحسن صالح اسمه " ما هو الموت ؟ " . يقص فيه تجربة أجراها العلماء على كلب لمعرفة " ما هو الموت " ، فيقول إن العلماء فصلوا كل أعضاء الكلب عن جسمه واحتفظوا خلال ذلك برأسه فقط حيا منزوعا من البدن ، ثم قاموا عبر الأنابيب بضخ المحاليل والدماء إلي الرأس المنزوع ، ففتح الكلب عينيه ، وتعرف إلي صوت صاحبه وأخذ يلعق يديه. العقل إذن هو الذي يصون الحياة والوعي والذكريات والإرادة بل وقلق الحب وهواجسه الرقيقة. وقد تم تدمير عقل وليد العوني المواطن تونسي ، في ظروف ، تشبه الظروف التي يتم فيها تدمير عقل الكثيرين على امتداد الخريطة العربية وبقدر سجونها . يختلف الاسم ، والسن ، وسمك أبواب الزنازين ، واللهجات ، وبدانة الزوجة ، أو هزال الحبيبة ، ولكن ثمة دائما إنسانا يفقد عقله وحده خلف أبواب موصدة .
لكن تعذيب العقل ونفي دوره لا يجري في السجون وحدها ، بل إنه يجري على نطاق المجتمع بأكمله أكثر بملايين المرات مما يتم وراء قضبان . وحينما تصبح الفوارق بين الدخول ضخمة إلي هذا الحد الذي نراه ، يعجز العقل عن تفسير ذلك ، وحينما يصبح من يحتكرون الحديد والأسمنت وغيره سادة المجتمع من دون عرق أو سبب ، بينما لا يساوى كدح الشرفاء شيئا ، وحينما يبنى البعض قصورا خيالية في طريق الإسماعيلية والبعض مازال ينام على الأرصفة، وحينما يبرز كل شخص عديم الكفاءة ليتحكم في شئون الثقافة، وحينما يصمت الأدباء ويتكلم أشباه الكتاب ، وحينما تحل بالرشوة والعلاقات كل ما لا يحل بالطرق الشريفة ، وحينما تربح الراقصة بهزة وسط واحدة أضعاف ما يربحه عالم على مدى حياته كلها ، وحينما ، وحينما، وحينما ، فإن ذلك الواقع يصبح نوعا من التعذيب المستمر للعقل الذي لا يستطيع لا فهم ولا تفسير كل تلك المفارقات والفوارق ، وهو تعذيب ينقل لٌٌلإنسان رسالة واحدة : امسح عقلك ، لست بحاجة إليه ، لأنه غير نافع لا في فهم العالم ولا في تفسير أحواله ولا في التحكم به.