عالم للشعارات وآخر للتخلّف

عبد العزيز كحيل

[email protected]

الفشل في تسيير شؤون الأمة بعد الاستقلال وربح معركة التنمية والدخول بالبلاد مرحلة التحضّر هو السمة البارزة لأنظمة الحكم في الوطن العربي والإسلامي والقاسم المشترك والأساسي بينها، والّذي يلفت الإنتباه  في سياسات هذه الأنظمة أنها بدل الإبداع في تحويل الأفكار إلى آلات وتحويل البرامج الطموحة إلى واقع تفنّنت في تحويل كل ذلك إلى شعارات ، وعاشت الشعوب المهمّشة والطبقات المقهورة أحقابا طويلة تستهلك الشعارات البرّاقة ولا تتقدّم في صناعة الحياة خطوة أو تكاد،بل رضخت بفعل الترويض للتّخلف والاستبداد والانهيار تحت شعارات التنمية والديمقراطية والسؤدد،وقد عمّت الشعاراتية واستفحل أمرها في العقود التي تلت الاستقلال حتى حلّت محلّ البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية ،وضاعت الجهود في العناية بالأشكال على حساب الحقائق مع ملاحظة أن الأنظمة اكتسبت براعة فائقة في إنتاج الشعارات الجذّابة وتغطية أي هزيمة نكراء بشعار جديد...لقد دخلت الشعاراتية سياسة الحكم في البلاد العربية  مع انقلاب 1952 بمصر الذي  سيّر البلاد  بانتكاسات متتالية وكمّّ هائل من الشعارات الثورية ،وصدّر ذلك لكثير من الدول الأخرى ،ولعلّ أخصب نظام للشعارات هو دولة ليبيا التي تعيش منذ أربعين سنة ديناميكية تراجعية خسرت فيها الثروة والكرامة والحرية والتقدير الدولي وهي تملأ الدنيا بشعارات العظمة وتحدي الإمبريالية وصنع المعجزات،ومن المفارقات العجيبة أن شعار "ارفع رأسك يا أخي" تغنّى به في الستينات من القرن العشرين نظام عبد الناصر وشغل به الناس في حين كان يسوسهم بأقسى أنواع القهر بحيث لا يمكن لمواطن أن يرفع رأسه خشية قطعه !!!ولو أردنا الاسترسال في الأمثلة لاحتاج ذلك إلى مجلّدات ، ومن منّا ينسى أضحوكة " أمّ المعارك " المخزية في العراق المقهور التي فرضت على الناس الإنتشاء بالانتصار الساحق وهم يعيشهن الهزائم ويتجرّعون غصصها ويدفعون دماءهم ثمنا للغرور الذي حوّلته الشعارات إلى سياسة حكيمة دوّخت الورى !!! وفي الجزائر نماذج أخرى معبّرة،فحين رفع النظام البومديني شعار"الكفاءة والنزاهة والالتزام"لتقلّد المناصب القيادية كان الواقع يصرخ بضدّها،وقد فتح ذلك الشعار الباب – كما تبيّن عند تقويم تلك المرحلة- للانتهازيين والنفعيين والمتملّقين،وتمّ تهميش الأكفاء والنزهاء،وعندما رفع من خلفه على رأس السلطة شعار"من أجل حياة أفضل"لم يكن في الحقيقة سوى تغطية لرهن الجزائر ومواردها ودفع المجتمع نحو النمط الاستهلاكي لأغراض سياسوية واضحة.

إن الشعاراتية أضحت بديلا عن التغيير الذي تعد به الأنظمة وتعجز عن تحقيقه أو ترفض أن يتحقق ،والواقع الجزائري- على سبيل المثال- يؤكد ذلك ،فنظام بومدين سمي انقلابه تصحيحا ثوريا،لكنه لم يصحّح شيئا وإنما كرّس السياسة السابقة التي جاء لتغييرها ، وزاد في تعميق سلبياتها،وليست شعارات"الثورات الثلاث"بأحسن حالا،فقد أدّت الثورة الزراعية إلى تخريب الفلاحة الوطنية ولم تكن الثورة الصناعية سوى إرضاء لجنون العظمة لم تجن منها البلاد إلا تناقضات ومشاكل تنموية تعاني منها إلى اليوم,أما الثورة الثقافية فيكفي للمس آثارها الوخيمة ملاحظة الحال التي عليها اللغة العربية المهمّشة  والهيمنة التغريبية التبجّحة ، وما آلت إليه أخلاق المجتمع من ألوان الإنحراف العقدي والفكري والسلوكي.

ولعلّه من المفيد تتبع شعارات السلطة المنبثقة عن انقلاب 11 جانفي 1992والتي عرفت في ظرف ثلاث سنوات فائضا حقيقيا من الشعارات،فأوّل خطاب ألقاه بوضياف بعد استقدامه وعد فيه ببناء "ديمقراطية أصيلة وترقية الإسلام"، والكلّ على علم بكل ما حدث في عهده للديمقراطية والإسلام معاً، أمّا خلفه في هرم السلطة فقد شغل الساحة بشعار "المشروع الوطني المتجدّد" وهو مشروع خرج من القاموس مع خروج صاحبه من الرئاسة، وبدأ الجنرال تلاه فترته بشعار "النظام الوطني الجديد" ولم يأت بأي جديد، وثنىّ بشعار "الوثبة الوطنيّة" وبقيت الأوضاع تراوح مكانها، وثلّث بشعار "التصحيح الوطني" ولم يحدث أي تغيير في السياسة المتّبعة وعلى أي صعيد.

لماذا هذا التركيز على الشعارات في البلاد المتخلّفة بدل العمل الميداني؟

يؤكّد الواقع أن الكمّ الشعاراتي يقترن دائماً بالانتكاسات والتجارب الفاشلة، فهو يهدف إذاً إلى تغطيّة الزيف وتزكيّة الانحراف وتكريس الرداءة في التصوّر والإنجاز والتسيير، وهو أداة للتحايل على الواقع وعلى الحلول الصحيحة، لذلك نجده يستشري في عالمنا العربي الإسلامي في حين لا يكاد يوجد في البلاد الّتي تمارس بالفعل عمليّة البناء والتغيير وتلتحم فيها الشعوب والأنظمة بحيث يشغلها العمل عن رفع الشعارات.

وإنّه لمن الخير للحركات التغييريّة _ ومنها الحركة الإسلامية _ أن تنتبه لخطر الشعاراتية حتّى لا تشتغل بذمّه وتسقط فيه كما حدث لكثير منها.