فزّاعة ففزع ففزعة!
صلاح حميدة
المجتمع العربي في أغلبه مجتمع ريفي من بسطاء المزارعين، و للفزّاعة مكان مميز في الثقافة والتاريخ والحكايات الشعبية، والفزّاعة هي تعبير عن المزيّف اللا حقيقي الذي يثير الرعب في قلوب وعقول المستهدفين ويوصلهم إلى درجة من فقدان السيطرة على العقل والمشاعر وحركات الأطراف، ويجعلهم أسرى للخوف الذي تلقيه الفزّاعة في قلوبهم.
والطريف أنّ الفزّاعة عبارة عن صنيعة لمن يريد تخويف المستهدفين، ولصنعها أهداف يريد من يصنعها أن يجعل في العقل الباطن للمستهدفين خوفاً دائماً من الاقتراب منها، أو التفكير في مكنوناتها وتركيبها، وعدم التعاطي مع أي محاولة للاقتراب من المنطقة التي تتواجد فيها، وغالباً ما تصنع الفزّاعة ليس من أجل عدم الاقتراب منها فقط، ولكن من أجل عدم الاقتراب من محيطها، فهي حالة من التخويف الدائم، وعدم الاقتراب الدائم، والفراق الدائم، وعدم التفكير الدائم، والبقاء الدائم في حالة من الخوف من الفزّاعة التي هي بالحقيقة ليس فيها ما يدعو للخوف، ولكنها تستخدم لأهداف أخرى تتعلق بمصالح من يصنعونها ويخوّفون منها.
والفزّاعة ليست فقط ما يصنع لإخافة الطيور والحيوانات من الاقتراب من المزرعة لأكل الثمار التي ينتظر المزارعون نضوجها بعد عناء العمل في الأرض لشهور، ولكنها تصنع من قبل السياسيين والعنصريين والطائفيين والمناطقيين والفاسدين أيضاً لإثارة الفزع في قلوب الجمهور المستهدف، إن كان من العامة أو الأحزاب أو التنظيمات، أو غيره من التجمعات الشعبية، التي يراد لها أن تساق بعقلية القطيع، بلا تفكير من قبل الدكتاتوريات وسماسرة الشعوب، ولذلك تختلق الفزّاعة في الكثير من الحالات، وقد تكون الفزّاعة داخلية أو ربّما خارجية، ويتم استخدامها من نخب سياسية فاسدة أو مأجورة للتعمية على مخططات وعمليات فساد ومتاجرة بالبلاد والعباد، في ظل عيش المستهدفين أسرى للحالة التي تتركها الفزّاعة في نفوسهم، وحجبها للتفكير المنطقي والسلوك السليم.
تثير الفزّاعة حالة من الفزع في الجمهور المستهدف، والصورة التي يراد تصوير الفزاعة عليها، تثير في قلوب وعقول المستهدفين الهلع والخوف والفزع، ويفقد الجمهور المستهدف، الذي يكون في غالبه قليل التعليم والادراك لما يدور حوله من قضايا كبرى، يفقد هذا الجمهور القدرة على التفكير السليم، وبالتالي يفقد القدرة على التصرف السليم، ولذلك تقوده حالة الفزع المختلقة، وتتحكم في تصرفاته، وغالباً ما تكون هذه الحالة من الفزع مقترنة بقضايا أخرى، فالطبيعي أن الخوف والهلع والفزع حالة عابرة في السلوكيات الانسانية، ولا تبقى في نفس المستوى دائماً فهي ترتفع وتنخفض حسب الأحوال على الأرض، ودرجات الشحن العاطفي والتحريضي، ولذلك تسعى النخب المستفيدة من حالة الفزع إلى إدامة هذه الحالة، وتأجيجها كلما خفتت، بل واختلاق ما يثير حالة الفزع من الفزاعة كلما سنحت الفرصة، كما تسعى تلك النّخب لخلق حالة من المصالح والامتيازات من استمرار حالة الفزع، فحتى عندما يقتنع المستهدف من الفزع بأن الفزّاعة ليست إلا لعبة لا تفزع، وأنه لا وجود ولا ضرورة للفزع، يحاول ويعمل على أن يقنع المستهدف نفسه بأنه من الأفضل له أن يستمر في الفزع، بل أن ينضم أيضاً لصانعي تلك الحالة، ويساهم في تأجيجها، ويمتهنها.
وعندما يصبح الفزع مهنة وصناعة، تقود الفزّاعة إلى الفزع، والفزع يقود تلقائياً إلى ما يعرف بالفزعة، والفزعة في التراث الشعبي العربي عبارة عن حالة من الاستنفار الشعوري والجسدي والتسلحي، وهي من أعلى حالات الاستنفار والاستعداد للقتال والدفاع عن قضية محقة ومجموعة ما، ولكن قديماً كانت الفزعة منتشرة للدفاع عن العائلة والبلدة وغيرها،فيما تطورت إيجابياً فيما بعد للتجنّد والتصدي لحالات الاحتلال والعدوان على المناطق العربية والاسلامية، وتمثلت باستعداد المستهدفين للدعم المالي والمعنوي، والتجنيد والتضحية بالذات من أجل المجموع العربي والمسلم بشكل عام، أما الفزعة المطلوبة من صانعي صورة الفزّاعة والمستفيدي من حالة الفزع في الوقت الحالي، فالمطلوب منها شيء آخر يتناقض مع الصورة الايجابية للفزعة التي نرغبها، فالمطلوب في عصر الارتداد عن الأفكار الجمعية، هوالعودة الى عصر ما قبل الدولة، وأن يصبح من الطبيعي أن تقود حالة الفزع إلى ما يعرف بالفزعة، وهي ارتداد المجموع إلى مجموعات، تمارس الفزعة حزبياً ومناطقياً وقطرياً وطائفياً ودينياً، وجهوياً وعائلياً، وهي بالمحصلة حالة من التفتيت المقصود من المستفيدين من هذه الحالة، وهذا يعتبر أحد أشكال التحوصل على الذات والمذهب والقبيلة والعائلة والحزب والتنظيم الضيّقة الأفق، وهذا يلحظه كل مراقب يهتم بالشأن العربي بوجه عام، وهذا هو المطلوب من صنّاع الفزاعة والمستفيدين من حالة الفزع، فانكفاء الرعاع ومعهم المتعلمين في أغلبهم لحالة الفزعة من أجل الحزب والقبيلة والعائلة والمنطقة والطائفة، يؤدي تلقائياً لسهولة تمرير المشاريع الكبرى لصنّاع حالة الفزع، وفي مثل هذه الحالات ينسى المستهدفون تضررهم من قبولهم الانسياق والتوظيف ضمن حالة الفزع، ودفعهم ثمن ما يدور، مقابل شعورهم الزائف بالتحوصل والفزعة لقضايا هامشية لا أهمية لها، بل هي بالمطلق مضرة أبلغ الضرر بهم.
من المؤكد أن الحالة الحالية من صناعة الفزاعة وما يليها من حالة الفزع ومن ثم الفزعة على شاكلة قبائل داحس والغبراء ليس مفيداً بالمرة، وأن البقاء أسرى لحالة من الغرائزية والثأرية والانتقام لن يقود إلى حلول حقيقية لمشاكل العالم العربي والاسلامي التي تلازمها صفة الادمان في هذه الفترة، ولا بد من الاعتراف بأن الحل لا يبدو قريباً جداً، بل الحالة سيئة، ولكن يجب الاستمرار في نشر الوعي وكشف حالة التزاوج بين بعض النّخب الثقافية والعلمية مع الطبقات السياسية والاقتصادية المستفيدة من صناعة حالة الفزع ورفض الآخر الشريك، ورفض التقارب معه في أي حالة من الحالات، وادعاء الخوف والفزع منه حتى ولو كان مسجوناً ملاحقاً.
كما أن صناعة الفزع ليست قاصرة على العرب والمسلمين في تبرير إقصاء فئات معينة لفئات أخرى، ولكن هذه الصناعة امتدت لتشمل فئات وشعوب وأديان أخرى في أرجاء المعمورة، وامتدت لتطال الحجاب والنقاب والمآذن والمساجد والمدارس والكثير من القضايا التي تمس حاضر ومستقبل الفئات المستهدفة من هذه السياسة، والتي هي في محصلتها سياسة استئصالية ترفض الآخر، وتتدرج في حظر كل ما يشير إليه من قريب او بعيد، بصناعة الفزّاعة وإدامة حالة الفزع، وباستخدام الفزعة التي في محصلتها عملية إبادة شاملة للآخر المختلف.