العلم وأعداؤه وتأثير داء الغرور

العلم وأعداؤه وتأثير داء الغرور

محمود خلوف

[email protected]

صحفي وباحث فلسطيني

جملة من التناقضات لمستها طيلة مشواري العلمي الشاق الممتد لعشرين عاماً دفعتني لخط هذه الكلمات، وخصوصاً أن الإنسان بات تائها بين من وصلوا إلى درجات عليا في العلم والبحث العلمي وهم في قمة التواضع، والأدب وبين من لم يتملكوا بعد أبجدية البحث العلمي، ويعتبرون أنفسهم أكثر فلسفة من أرسطو وأفلاطون، واهم من نيوتين وأبن سيناء.

قبل أيام ابلغني الزميل، الكاتب سعيد أبو معلا عن قصة كان لها وقع كبير في قلبي، ومفادها انه بذل جهدا كبيرا مع احد الباحثين المتخصصين في الصحافة على أمل أن يسمح له بتصور مادة علمية دون جدوى، وكأن العمل بات محتكراً على سين دون صاد!!....ونحن في زمن الثورة التكنولوجية الهائلة، و"السماوات المفتوحة"، والقرية الكونية الصغيرة.

في الوقت الذي رفض فيه هذا الباحث الذي لا زال في بداية مشواره البحثي مساعدة زميل له، يأتي أستاذ قدير في الإعلام مثل الدكتور أشرف صالح، أحد أعمدة الصحافة في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، وبكل تواضع ويبلغ أحد طلبة الدكتوراه بأنه على استعداد لإرسال أية مادة بحثية، وتأمينها إلى فلسطين دون أية إزعاج، لا لشيء إلا لإيمانه وحبه للعلم والباحثين، وحبه لأهل فلسطين.

الواقعة السابقة تظهر بان الأستاذ الدكتور صالح، رغم إسهاماته البحثية الطويلة، وطول مشواره العلمي والأكاديمي لم ينس اللحظات التي كان فيها طالبا بمرحلة الماجستير أو الدكتوراه، حينما كان يبحث عن هذه المعلومة أو تلك، ويطلب العون من هذا الأستاذ أو ذاك.

ولم يكن هذا الأستاذ الوحيد ممن احتضنوا الباحثين على مختلف مراحلهم التعليمية، فهنالك كوكبة من الأستاذة الذين يقدمون من وقتهم الكثير لخدمة الباحثين العرب والأجانب، ودون أي مقابل راجين فقط الأجر من الله العلي القدير، ومن ضمنهم السعودي الأستاذ الدكتور فايز الشهري، من خيرة من كتبوا وبحثوا في الصحافة الفورية، والأستاذة الدكتورة راجية قنديل من كلية الإعلام بجامعة القاهرة، المعروفة باسهاماتها الكثيرة، وخصوصاً ففي الأبحاث المتخصصة بالصحافة الإسرائيلية، والأمريكية، وغيرها....، واللافت بأن من هم كرماء في العلم وكرماء بالخلق الحسن وفي كل شيء.

ولم يخطيء أحدهم عندما سألته عن سبب هذا الكرم والتواضع الكبير، وأجاب "الأصل بان الإنسان كلما زاد علماً زاد تواضعاً"، ولكن كثيرين من الباحثين يتجاهلون ذلك عن قصد وغير قصد.

وفي سياق تجربتي البحثية والإعلامية، فاجأني احد الأستاذة أرسل بتعليق غريب وعجيب لموقع الكتروني شرفني بنشر مقال حول الصحافة الالكترونية والصفوة، وهو عبارة عن خلاصة لبحث علمي محكم...والغريب بان هذا المحاضر الجامعي جاء لينفي نتائج دراسة علمية محكمة، وبموجبها حصلت على درجة علمية، مع أن من هم أطول منه سناً وعلماً قد أعجبوا بهذه الدراسة، وطلبوا بنسخ منها للاحتفاظ بها، وطالبوا بطباعتها على شكل كتاب ليكون في متناول الباحثين.

والمؤسف بأن عددا من الباحثين يتناسون "أن عدم العلم لا يعني علماً بالعدم"، فيأتون ببعض "الفتاوى" المضللة، والأحكام المطلقة البعيدة عن العلم والواقع، لا لشيء الا للتقليل من قدر أناس آخرين قد يكونوا أكفأ منهم.

وكم وجدت، خلال مشوار العلم والمعرفة، من الطلبة "الهواة"، ممن يتفننون في تضييع الوقت، في أمور "لا تسمن ولا تغني من جوع"، وكان من ضمنهم طالب في مرحلة الماجستير الذي جاء يوم المناقشة ليبرر أسباب رجوعه إلى دراسات قديمة للغاية، أحدثها دراسة عام 1974م، بالقول أنا أعيش في وطن محاصر والاحتلال يمنعنا من نقل المواد العلمية!، ومن شراء الكتب، ومن...، ولذلك رجعت إلى أبحاث قديمة!!!،...مع أننا في عصر الانترنت، وان الكثيرين من الباحثين يدخلون مئات الكتب إلى بلده دون أية إشكاليات تذكر.

ولم تكن تجربتي مع الباحثين في موضوع الوقت سوداوية إلى حد كبير، فهنالك باحثون يعتز بهم، وهم حصلوا على مستوى عال من المعرفة كأمثال الأستاذ حسام إلهامي، المحاضر في أكاديمية أخبار اليوم المصرية، والباحثة مها عبد المجيد صلاح، طالبة الدكتوراه في كلية الإعلام/ جامعة القاهرة، والغريب في حالة هذين الباحثين والآخرين من أمثالهم بأنهم وصلوا إلى مستوى رفيع من العلم والمعرفة، ويظهرون تواضعاً للآخرين بأنهم لازالوا في بداية المشوار، مع أن لهم دراسات معمقة وغنية في مجالات عدة.

والواضح أن عالم العلماء والباحثين غريب مليء بالمتناقضات والمفاجآت، ولذلك على أي باحث أن يقرر أن يحمل شهادة، دون مضمون أو دون تواضع، أو العكس، ونحن في البلاد العربية والبلاد النامية نبتعد عن باقي الأمم الكثير الكثير في العلم والمعرفة، وان افتقد الباحث إلى التواضع واحترام الوقت، وتقدير الآخرين فمن الصعب أن نحقق قفزة نوعية كباقي الأمم.