الفنون الجحوية
الفنون الجحوية
د. كمال يونس
الأدب الشعبي هو تعبير فني أدبي عن الموروث الثقافي والحضاري والقيم الإنسانية والمثل الاجتماعية للشعب ، مبرزة خصائصه القومية ، مما يسمه بالعراقة والأصالة، ويضفي عليه حيوية يستمدها من مرونته وقدرته على النماء والتطور ، والانتقال عبر الأزمان ، ذلك لأنه يفي بحاجات المجتمع الشعورية والفكرية والمعنوية والجمالية ، إذ يصدر عن وجدان جمعي ، قوامه الرواية الشفوية ، والملكية المشاعة ، فالشعب هو المؤلف والمتذوق ، والمتلقي في آن واحد.
ومن الشخصيات الشعبية الأثيرة شخصية جحا التي وصفها العالم الراحل د.محمد رجب النجار في درته الخالدة تلك الدراسة التي تعد المرجع لأشمل والأوفى عن جحا ، والتي أوردها في كتابه " جحا العربى.. شخصيته وفلسفته في الحياة والتعبير " بأنها تحمل في طياتها تأكيدا للوحدة القومية ، وتجسيد لغاياتها وقيمها من وحدة العادات والتقاليد، وانتهاء بوحدة الإبداع الشعبي كالقصص والملاحم والسير والحكايات والنوادر والأمثال ،إذ أنها تمثل تواصلا ثقافيا وأصالة تاريخية".
وتكمن عبقرية جحا في ملامح شخصيته فهي عصا توازن في خضم التحديات والمعوقات ، التي تؤكد على ضرورة التمسك بالقيم الإنسانية العليا ، والغايات القومية التي تعمل الجماعة على تحقيقها ، وهي زاد نفسي و فنى بعيد الأثر يدفع إلى الابتسام والسخرية والضحك والدعابة ، كوسيلة حيوية في الدفاع عن التراث، ورد اعتبار الذات للذات ، وهي الأقرب دورا إلى دور الكاريكاتير( الصورة ) في العصر الحديث ( كاريكاتير الكلمة)،إذ تمثل عبقرية الشعب في ابتداع أسلوب ثقافة المقاومة والمواجهة بالحيلة ،إذ تحول المأساة إلى ملهاة، فيحولها الناس بدورهم إلى طرائف ونوادر ونكتا ذات طابع إنساني ،متفردا بتحويل نفسه من مشارك إلى متفرج ، وما بين الواقع والرمز يسلك مسلك الحكماء في التعبير الفني والأدبي، وفلسفته هي الإيمان بالضحك ،ودوره في التغلب على متاعب الحياة ، ونمط شخصيته الإنسان الموهوب الذي يجيد قول وابتداع الفكاهة في غير تكلف ، سريع البديهة والخاطر ، حسن التخلص من المآزق ، يتمتع بتوازن نفسي متفرد ، يجمع بين المتناقضات ، يلعب الدور والدور الآخر ، وكونه رجل من العامة سهل اتهامه وصفه بالحمق والجنون( مما يطيح بالقيود الاجتماعية التي تثقل كواهلنا ، و تحول دون قول الرأي جهرا ) ، والتغابى والتحامق مما يخفي ذكاءه المتقد ، وهو الأب ، والزوج ،والقاضي ، ومستشار القاضي ، والمواجه للحاكم، مما يفيد ويمتع المتلقى. ، وقد جمع التراث الجحوى النادرة ، النادرة الحكمية ، المثل الشعبي ، اللغز.
( النادرة الجحوية )
وهي تعبير درامي عن موقف جحا من الحياة ، وفيها الغمز واللمز ،و للنادرة الجحوية عدة سمات فهي سهلة الألفاظ اللغوية ، قريبة الدلالة ، شائعة التداول ، ممعنة في القصر ، وكلما كانت النادرة أقصر كانت أقرب إلى النكتة ، وكلما كانت أقرب إلى النكتة كانت أكثر إثارة للضحك، تصاغ نثرا ، تدور حول الحياة اليومية، وتياراتها العامة ، وتجاربها الإنسانية ، عاكسة لرأى الجماعة في الهيئة الاجتماعية والسياسية ، بل وفي السلوك السلبي للفرد ، إنسانية الشخوص والأبطال ، والعنصر الخارق لا يظهر فيها إلا نادرا ، خالية من التعقيد في الحبكة والصياغة ، نمطية الأبطال والشخوص ، لها محور رئيسي واحد ( موتيفه ) ، تعمد إلى الإخلال المقصود بين التوازن أو التناسب الواجب للموقف، و صورة الشخصية ، فهي غير مألوفة أو فجائية ، تعتمد أساسا على المفارقة وتعرض للمتناقضات من المواقف ،مثل الذكاء والغباء ، والطيبة والغفلة ، والجنون والعقل ، والسلطان والضعف ، تجمع ما بين القول اللاذع ، وجوامع الكلم ، واللغز والتورية والمغالطات المنطقية ، والحيل البيانية، وتنتهي إلى موقف مرح ذي مغزى عميق.
لذا يمكن تناول خصائصها بالنظر إليها من عدة محاور ، أولها المحور الموضوعي، من حيث كونها تعبر عن رأى الجماعة التي أنشأتها أو أوردتها ، وتقوم بترديدها ،كي تروح عنها من وطأة الأحداث العامة، مرسخة الحكمة العملية للشعب ، ثانيها المحور النفسي مسخرة الموقف المرح ، وذلك بأن يجعل جحا من نفسه من خلال نوادره شخصا آخر يشاهد نفسه، ويسخر منها ، فتتحول لدى الناس إلى طرائف وملح ، مما يجعلها تسرى بين أفراد الشعب كله تأسيا به ، خالقة روحا من المرح ، تسرى عنه همومه على طريقة "شر البلية ما يضحك" ، دون أن تمس دورها الجدي ، ثالثها المحور الفني ، فكونها نثرا ، موجزة " فخير الكلام ما قل ودل "، فنمطية الشخصيات ييسر متابعة تلونها ، وردود أفعالها في المواقف المختلفة ، وأعطاها القدرة على النماء والتطور، مما أضفي عليها صفة المرونة والطواعية ، بما يميزها من غلبة الطابع الواقعي الذي يعطيها روح الملائمة لكل الأزمان، مما جعلها عرضةـ دون اختلال بمضمونها وهدفهاـ للتحريف والتبديل والإضافة .
ولذا يجب التأكيد على تلك الحقائق حول النادرة الجحوية ، فجحا ليس صاحب كل النوادر التي نسبت إليه ، فقد استلهم الجانب الإنساني من جحا العربي ( الأصل ) ، والجانب الاجتماعي من جحا التركي والفارسي ، والجانب السياسي من جحا المصري ، الذي لقي من الشيوع والانتشار في مصر دون غيرها من البلدان العربية، مع أنه غير مصري ، وليس له واقع تاريخي مثل جحا الفزارى ( ينتسب جحا العربي إلى قبيلة فزارة ، وعاش بالبصرة ومات بالكوفة) ، أو جحا الرومي ( الخوجة نصر الدين )، ولذلك أسباب منها كونه رمزا فنيا منقولا إليها في إطار السخرية ، والتندر والفكاهة ، وهو إطار أثير لدى المصريين ، مع اعتباره رمزا شعبيا يعكس من خلاله أنماط الإبداع الأدبي الأخرى ، وقد شكل جانبا رئيسيا من جوانب ثقافة المقاومة بالحيلة ، المقاومة ، والتعبير عن الشخصية ، لذا كان الأسلوب الجحوى في مصر، تعبيرا ووظيفة سابقة لوجود الرمز الجحوى ( التركي والمصري )، لما يدور في إطارها من فلسفة، كونها جزءا أصيلا من تكوين الشخصية المصرية في المواجهة والتعبير.
( جحا والنادرة الحكمية )
ومن صنوف الإبداع الجحوى النادرة الحكمية ،وهذا جانب جاد تأملي، ذو نزعة صوفية ، ويقترب من الوعظ المباشر ، أو الكلم الجامع ، ويخلو تماما مما أثر عن النموذج الجحوى من التندر والسخرية والدعابة ، وهو بهذا اقرب إلى الحكمة الجادة ، مثلا " قيل له أين مكان الحق فقال وهل يعلم مكان وجود الحق حتى يعين موضعه" .
(المثل الجحوى)
ولما كان المثل هو لسان الشعب ، وشكل بارز من أشكال الإبداع الشعبي ، يعكس خلاصة تجاربهم ، مستمدا رمزيته من كل طبقات الشعب ، ما جعله قولا يجرى على ألسنة الشعب ، فلقد تحقق للمثل الجحوى هذا كله ،حتى صارت الأمثال الجحوية معينا خصبا لكثير من الأمثال، بما لها من علاقة موضوعية، تعكس فلسفته في التعبير عن متناقضات مجتمعه ، فكرية وسياسية واجتماعية ، ثقافية وسلوكية،لتكون تلك العلاقة الشرطية الفريدة ، التي تربط جحا في الذهن الشعبي بالجانب الفكاهي الساخر ، حيث يعرى أو يكشف عيوب مجتمعه، إضافة إلى العلاقة الفنية ،حيث يتوافق المثل القالب العام للنادرة الجحوية بما للمثل الشعبي من بناء اجتماعي وشكل فني ، ويحكى المثل قصة أو حكاية قصيرة جدا أشبه بالنادرة ، متميزا بالإيجاز والبلاغة ، متفردا في أسلوبه التعليمي ، وبساطة تركيبه اللغوي ، وأسلوبه سهل مختصر ، وفلسفته فلسفة موقف ، وفيه استخلاص لنتائج التجربة، في عبارة كلية موجزة ، عميقة الدلالة ، تحقق الشعور بالرضا أو الارتياح لسماعها، بل وترديدها، وقد يكون المثل نادرة من نوادره الموجزة ، أو قولا من أقواله الشائعة ، أو عنوان لنادرة من نوادره مثل مسمار جحا ، بوابة جحا ، بيت جحا ، وقد يشيع المثل وتطغى شهرته على النادرة ، فينسى الناس النادرة التي أخذ عنها هذا المثل ، أو يجمع بين عبارتين مثل" قالوا يا جحا فين بلدك قال اللي فيها مراتى " ، ولا يخفي ما فيها من شيوع روح السخرية والتهكم والاستهزاء، بل والسلبية مثل جحا أولى بلحم طوره ، ودنك منين يا جحا ، وأغلبها أفرزته البيئة المصرية منسوبة لجحا دون أي تباين يذكر، وتتضح الفلسفة الجحوية في المثل الشعبي وقد أصبح لها إطار من خلال مواقفه التي صورها النموذج الجحوى منها ، وضوح الموقف الفردي ( جحا أولى بلحم طوره ) ، التبعية والتوافق الاجتماعي ( قالوا فين بلدك يا جحا قال اللي فيها مراتى ، ومن فاته اللحم فعليه بالمرق ، الحرص والحذر والشك بالآخرين ( جحا طلع النخلة خد بلغته وياه ) ، مواقف العداء التقليدية ( قالوا مرات أبوك بتحبك قلت عساها اتجننت) ، التهكم والسخرية من التدخل فيما لا يعنيه ، والإدعاء الكاذب ( يكفاه نعيرها ) ، اللامبالاة والسلبية وعدم الاهتمام بالغير وفيها تجسيد لروح الشماتة والحقد ( قالوا يا جحا بقرة أبوك خدوها الحرامية قال هي عند الحرامية زي عند أبويا ) ، المكر والدهاء والغاية التي تبرر الوسيلة( مسمار جحا ، قالوا يا جحا عد موج البحر قال الجايات أكتر من الرايحات ).
( اللغز الجحوى )
لما كان اللغز يعنى الصراع في سبيل الوصول للمعرفة ، بإزالة الحواجز بين السائل والمسئول، تفرد اللغز الشعبي الجحوى بكونه بسيطا غاية البساطة ، لا يقدم معرفة بالمعنى الصحيح ، ولا معلومة معينة ، بل يحمل في طيا ته حسن التخلص والبراعة في إيجاد مخرج من السؤال أو اللغز المحير المعقد، ولذا جرت ألغازه مع العلماء المتحذلقين ، المتعالين ، مدعى المعرفة ، فالسؤال معضلة ، والإجابة أكثر تعقيدا ، مما يخرجه منتصرا مسفها ذلك المتنطع مثل "كم عدد موج البحر؟.. قال الجايات أكتر من الرايحات".