لا مآذن أخرى في سويسرا
ابتهال قدور
وخرجت سويسرا المحايدة من صمتها بصرخة مدوية، مؤذية...
كان ذاك حين قرر مسؤول حزب يميني إجراء استفتاء بخصوص بناء المآذن فجاءت النتيجة 57% لرفض بناء المزيد من المآذن!
أدهشت النتيجة صاحب الفكرة، وصرح بأنه لم يكن يتوقعها، إنما توقع أن لا تزيد النسبة عن 45%.
وأعلن مسؤول يميني سويسري، في خضم نشوة الفوز بأنهم سيستفيدون من هذا الفوز ويوظفونه: "الآن المآذن، وسيأتي دور البرقع، ثم الزواج بالإكراه، ثم قضية التمييز ضد المرأة.."
وأعلن آخر أن الإسلام سيكون محور الاهتمام خلال الخمسين سنة القادمة، إذ لا بد له من أن يتغير...(أي الإسلام)!
وآخر يصرح لقناة تلفزيونية بأن الحل الوحيد لتعايش المسلمين في الغرب، هو تحويل الإسلام إلى إسلام "لاإيكي" أي علماني ...!!
وتهنئ السيدة اليمينية الفرنسية "لوبين" الشعب السويسري بهذا الانجاز وتطالب المسلمين بالكف عن التفاخر بمظاهر دينهم، وبالاندماج التام في المجتمعات الغربية ..
وسارع البلجيكيون والهولنديون إلى إعلان رغبتهم في استصدار قانون يمنع إنشاء المآذن في دولهم..
والكثير الكثير من التصريحات التي يتسابق المتطرفون الغربيون إلى إعلانها في ما يشبه ثورة على المسلمين المتواجدين في الغرب...مما دعا أحد حكمائهم إلى التوجه إليهم بالقول - مهدئاً - بأنهم إنما يحاربون الإرهاب والتطرف، وليس الإسلام والمسلمين.
وأصيب آخرون بالدهشة لاكتشافهم أن المقاومة الغربية ليست للأسلمة كما هو معلن، إنما للإسلام نفسه...
كيف نفسر الأزمة..
وحاول أحد المحللين أن يفسر ما يحدث قائلا: "إن تمسك المسلمين بتعاليم دينهم كالصلاة، ونوعية الطعام، والمظهر، والحجاب، في بلدان تم تحويل شعوبها بصرامة إلى اللادينية والعلمانية، كفيلة بإحداث صدمة لدى هذه الشعوب، خاصة أن مظاهر التدين الإسلامي تبدو صارخة في وقت ضعفت فيه المسيحية وهي الديانة التي طالما سادت هذه البلاد.."
ولعله التفسير الأقرب إلى الدقة - إذا ما ابتعدنا عن الجماعات اليمينية المتطرفة ذات الأهداف والغايات السياسية الدينية- إذ أن الإنسان في المجتمعات الغربية، لا يجد في أعماقه تفسيراً يجعله قادراً على تقبل مظاهر مرتبطة بدين، وقد نشأ على رفض الدين كمرجعية للسلوك أو كموجه للأفعال .
فالعقل الغربي وحسب وصف السيد "علي عزت بيجوفيتش" في كتابه القيّم "بين الشرق والغرب" "أحادي النظرة"، لا يحتمل تلك الثنائية الرائعة التي ينهجها المسلم في إسلامه حين يوازن بتناسق بديع بين ما هو دنيوي و ما هو أخروي، وبما أنه قد كانت له تجربة تاريخية قاسية مع الدين والكنيسة أدت إلى نبذ الدين على اعتباره عدواً لدوداً للعلم وسبباً من أسباب التأخر والتخلف، نحى الغربي منحى العلم الذي ارتبط عنده بالحضارة والمدنية والتطور والرقي وارتضى به حلاً وحيداً...لأن الخيار عنده كان إما دين يرافقه تخلف أو علم يرافقه تطور، ويبدو أن هذه النظرة الأحادية للقضية تشكل إحدى أبرز أسباب رفضه للمظاهر الدينية الإسلامية على أرضه.
هذا بالإضافة إلى الامتداد التقليدي للعداء والصدام الحضاري المتواصل بين الإسلام والغرب والممتد منذ الحملات الصليبية إلى يومنا هذا...
ولا ينبغي أن يغيب عنا دور التوظيف القاسي والظالم لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، والحملة التي يشنها الغرب على المسلمين والعرب في كل مكان، وربطه للإسلام بالإرهاب والعنف والقتل والتمييز ضد المرأة وكبت الحريات والبذخ الرخيص والتخلف والكسل...تتكاتف هذه الحملة مع مناهج دراسية تلقّن التاريخ مغلوطاً وتقدم الحقائق منتقصة...يضاف إلى كل ما سبق ما يراه الغربي بأم عينه من واقع مترد لدول العالم الإسلامي أو من سلوكيات سلبية لبعض المقيمين على أرضه.
هل المطلوب اندماج أم ذوبان
ومما يبدو أشبه بمعضلات في طريقة التفكير الغربية، والتي طفت أيضاً خلال أزمة المآذن هذه، هي تطلع الإنسان الغربي إلى الاندماج الكلي للمسلم في المجتمعات الغربية، ويتكرر هذا الطلب على ألسنة المعتدلين والمتشددين فبينما يطالب المتشددون بضرورة الاندماج الفوري والتام بلا خيارات أخرى، يذهب المعتدلون إلى التماس الأعذار وتبيين العوائق أمام الاندماج مع تصويرهم للمندمجين بصورة بهية، ونزع تلك الصفة عن كل من يرفض الاندماج، والحديث عن الاندماج هو حديث عن نبذ كل ما يمت إلى الدين من صلة ظاهرة ومميزة، يضطر المسلم لإظهارها لا تفاخراً كما يفهمها الغربيون ولكن طاعة لله وتمسكاً ومحافظة على دينه، واقتناعاً حراً بها...
جاء على لسان صحفي حسن النية على صفحات جريدة لوموند الفرنسية "إن الشريحة الواسعة من المسلمين المعتدلين الراغبين في الاندماج في المجتمعات الغربية كثيراً ما تعترضها دعوات المتشددين لإقرار أمور عديدة مثل الحجاب في المدارس، ونوعية الطعام، ورفض الاختلاط، وهذه أمور مبالغ فيها في نظر المجتمعات المتحضرة... " ويطالب من ثمة المسؤولين الفرنسيين بأن يقدموا الدعم الكافي لهؤلاء المعتدلين من المسلمين!
ولكن الاندماج بالشكل الذي يتم الحديث عنه هو ذوبان ليس إلاّ، والذوبان الذي يأتي بالإجبار والإلزام، يعتبر مناقضاً لمبدأ الحريات الشخصية التي يدعو إليها الغرب، من حيث كونها سلب لحرية الفرد الشخصية في العبادة، وفي اعتناق ما يراه مناسباً من أفكار و قناعات...
إن الدعوة إلى اندماج كامل في الغرب هي تجاهل لإنسانية الإنسان وروحه وشخصيته، وهي دعوة لتدجينه وإدماجه لكي يصبح قطعة من النسيج الاجتماعي الغربي لا يُظهِر اختلافاً عنه... إلا أن عملية إدماج المسلم هذه، يحيط بها مساحات شاسعة، وأسلاك شائكة يصعب عبورها، من الإيمان، والتوحيد، والانسجام مع الذات، مساحات هائلة سجل المسلم في سبيل حفظها والذود عنها الملاحم، وقدم أغلى التضحيات عبر التاريخ...
والغرب بدعواته هذه يبدو وكأنه ينبذ الحرية إن تمسك بها غيره، ويرتضيها لنفسه، ويبدو كمن يفرض نفسه كنموذج على الإنسانية جمعاء، ويعتبر من يشذ عن هذا النموذج متمرداً إلى أن يتم تسكينه، ودعواته هذه تنم عن طرح "أحادي النظرة"، أناني المنحى، وواضح أنها تتطلع - بتفاؤل ساذج - لإقرار آلية لقولبة المسلم، وهي آلية وهمية ومستحيلة!؟
مراهناتهم ومراهناتنا
غير أننا نستطيع أن نجزم أن هذا التصعيد ضد كل ما يمت إلى الإسلام من مظهر، يدل على أن هذا الدين مازال حياً، وأن أبناءه من المهاجرين ينبضون بفاعليتهم وحراكهم المتعقل، فلا تكون المقاومة للموتى أبداً، إنما يقاوم القوي من يرى فيه عناصر قوة تشكل خطراً عليه ومنافسة له على الساحة الإنسانية...وهنا زاوية يأتينا من خلالها بعض التفاؤل، تفاؤل يدفعنا كمسلمين إلى المزيد من العطاء لأداء واجبنا تجاه الأمم الأخرى، لكي نبين لهم أن الإسلام هو دين يستطيع أن يصيغ "إنسانا متسقاً مع روحه وبدنه، ومجتمع تحافظ قوانينه ومؤسساته الاجتماعية والاقتصادية على هذا الاتساق ولا تنتهكه.."
مهم أن نعلم أنه لا يشترط في المسجد وجود المآذن، فقد كان سيدنا بلال يؤذن من على سطح أقرب بيت للمسجد، ولم ترفع المآذن إلا مع العصر الأموي، حسب المراجع، فالقضية رمزية أكثر من كونها شرعية وهي بذلك لا تستدعي الكثير من التأزيم، والتوتر بما أن المنع لم يأت لدور العبادة والمساجد ولا للمراكز الثقافية الخاصة بالمسلمين، إنما جاء لأن القوم، وهم أصحاب البلاد، لا يرغبون بأن تصبغ سماء بلادهم بصبغة الإسلام، وهو ما صوتت عليه الأغلبية.
ذاك هو القانون في ديارهم وتلك هي الديمقراطية عندهم، والساحة مفتوحة أمام كل العاملين، ولكن الأصوات هي القول الفصل، وهذا مجال إيجابي يحرض على العمل المتواصل لتغيير وجهات النظر وتصويبها...
لربما كان من الأجدى هنا عدم التركيز على الفئة الرافضة لبناء المآذن، فهي لا تشكل أغلبية عظمى، أي أن نسبة لا بأس بها من الشعب السويسري لم ترفض الأمر، ولا ترى فيه بأساً، وهذه نسبة يستحق الأمل في زيادتها، المزيد من الاجتهاد والعناء والتضحية..
على كل الأحوال، لا مكان للقنوط، ولا مجال لليأس، هم يراهنون على تغيير هذا الدين فلنراهن نحن على تحديث إستراتيجيتنا لكي نقف حجر عثرة أمام ما يكيدون، ولكي نعمل على تغيير عقلياتهم المنغلقة، وتحويلها إلى عقليات أكثر انفتاحاً... ولكن بكل انسيابية، وسلاسة، وهدوء.
*كاتبة سوريه مقيمة في الكويت