الإخوان ومظاهرة فبراير 1954
أ.د/
جابر قميحةقدم محمد نجيب استقالته من منصب الرياسة في 22 فبراير 1954 اعتراضا على انحراف ضباط الثورة ..وفي 25 فبراير أصدر مجلس القيادة بيان إقالته , وحاول البيان الانتقاص من دور نجيب وتشويه صورته أمام الجماهير . اتخذ ضباط مجلس القيادة هذا القرار وكلهم ثقة في أنهم قد نجحوا في مخططهم بإزاحة نجيب, وحينما أذيع بيان إقالته علي الملأ خرجت الجماهير تحتج عليه وانهالت البرقيات علي المجلس ودور الصحف ترفض الاستقالة .. واندلعت المظاهرات التلقائية في القاهرة والأقاليم لمدة ثلاثة أيام تؤيد نجيب وكانت الجماهير تهتف (محمد نجيب أو الثورة) وفي السودان اندلعت مظاهرات جارفة تهتف (لا وحدة بلا نجيب), وانقسم الجيش بين مؤيد لعودة اللواء محمد نجيب وإقرار الحياة النيابية وبين المناصرين لمجلس قيادة الثورة , وكان سلاح الفرسان أكثر أسلحة الجيش تعاطفا مع نجيب . وأشرفت البلاد علي حرب أهلية وتداركا للموقف أصدر مجلس القيادة بيانا الساعة السادسة من مساء 27 فبراير 1954 جاء فيه " حفاظا علي وحدة الأمة يعلن مجلس قيادة الثورة عودة اللواء أركان حرب محمد نجيب رئيسا للجمهورية وقد وافق سيادته علي ذلك"... وهكذا عاد نجيب إلي الحكم علي أكتاف الجماهير التي خرجت في مظاهرات شعبية لم تعدها مصر من قبل.
**********
وقامت مظاهرة الإخوان
وخلاصة رؤيتي الميدانية للمظاهرة التي قام بها الإخوان, وتجمعت داخل سور قصر عابدين وخارجه, وبلغ عدد المتظاهرين مائة وخمسين ألفًا تقريبًا في 28/2/1954, خطب فيهم محمد نجيب, وطلب منهم الانصراف فلم يستجيبوا للأمر, فاستعان بالأستاذ عبد القادر عودة, فصرف المظاهرة في دقيقة واحدة.
وإليكم التفصيل...
- تنفيذًا لأمر القيادة الإخوانية - تجمعنا في جامعة القاهرة في الصباح الباكر يوم 28/2/1954. ثم تحركنا وانضم إلينا طلاب المدرسة السعيدية وخرجنا من الجامعة قاصدين الانضمام إلي التجمع الرئيسي في عابدين. لم يكن كوبري الجامعة قد بُني بعد, فسرنا إلي كوبري قصر النيل سالكين شارع «مراد». لم يكن هناك هتاف واحد للمظاهرة لضخامتها, فقد قُدر عدد المتظاهرين بستة وثلاثين ألفًا.. في «كراديس» أي مجموعات متجاورة بهتافات متعددة ذات مضمون أساسي واحد ، ومنها : إلي الثكنات إلي الثكنات - إلي الثكنات رجال الجيش» - «انتصر الشعب فجاء نجيب» - «الحرية.. الحرية يا أعداء الإنسانية» .. إلخ, وكان للتجمع السوداني تميز واضح.
ووصلنا إلي كوبري قصر النيل وقطعناه إلي حيث يصب في ميدان التحرير, حتى ننطلق منه إلى عابدين . كنت في طليعة المظاهرة, وكان معي من المنزلة مسقط رأسي الأخوان: أمين منصور عميش, وأحمد عامر الزيني رحمهما الله.رأيتهما لدقائق ، ثم ذابا في الجموع . وكان قائد الطليعة بهتافاته القوية الأخ حلمي حنفي (من المعادي). نظرنا فرأينا الكوبري قد سُد بالجنود موجهين «السونكيات» إلينا, ورأيت وراءهم عددًا آخر يرقدون علي الأرض وأمامهم مدافع «البرن» وأصابعهم علي «الزناد» .. ترسانة حربية في وضع الاستعداد وكلهم في عدة كاملة...
زاد الضغط علينا من الخلف وكنا في الصف الأول من المظاهرة لأن الإخوان خلفنا لا يرون ما نراه.. حتي أصبحت السونكيات ملاصقة لصدورنا وبطوننا. كل ذلك رأيناه, ولآخر لحظة كنت أعتقد أن ذلك لن يتعدي التهديد النظري. إلي أن رأيت الضابط الكبير يصيح مشيرًا بيده: «اضْرب» ..وبدأت المجزرة: سقط من إخواننا شهيدان.. وجرح عشرات.. وتفرقت المظاهرة.. جرينا ناحية اليمين, ودخلنا دهليز فندق «سميراميس». كنا قرابة عشرين أذكر منهم الأخ عبد المنعم الشيخ (ابن دماص - ميت غمر محافظة الدقهلية ، وزميلنا في دار العلوم).. وخشينا أن يتبعنا الجنود ويقضوا علينا ... صعدنا إلي أعلي حيث المدخل الرئيسي واتفقنا علي الخروج واحدا.. واحدا ، واثنين اثنين...
خرجت أنا والأخ عبد المنعم ..وبقية المجموعة ورأينا أمام الكوبري بركة من الدم.. سرنا في الكوبري , ووقفنا في وسطه ... كنا قرابة مائة من الإخوان ، وعلى دراجته البخارية "الموتوسكل" قبضنا على أحد جنود الشرطة العسكرية ، ورأى بعض الإخوة أن نلقي بدراجته في النيل ، ولكنا اكتفينابتفريغها من البنزين ، وأخذ الجندي يجرها بيديه كالبهيمة إلى أن وصل إلى التجمع العسكرى ، فرأينا مصفحة تتجه إلينا .
فجرينا إلي شاطئ النيل أمام حديقة الأندلس, وركبنا «القوارب» إلي الشاطئ الآخر بعيدًا عن تجمع الجنود, وسرنا علي الأقدام إلي قصر عابدين حيث المظاهرة الكبرى , كان المتظاهرون قرابة مائة وخمسين ألفًا.. منهم عشرات ألوف يرفعون المصاحف, وقرابة عشرة يرفعون مناديل مضرجة بدماء ضحايا مجزرة كوبري قصر النيل, وسمعنا ضمن الهتافات «دماء الجامعة يا نجيب».. كان محمد نجيب يقف في الشرفة, وكان عبد القادر عودة - رحمه الله - يقف تحت الشرفة مع مجموعة من الإخوان, ولم يرفع منديلاً مضرجًا بالدم كما ذكر حسين الشافعي, بل كان الإخوة الذين يرفعون المناديل بعيدين عنه, لأنهم وصلوا متأخرين.
بذلت جهدا خارقا إلى أن وجدت نفسي قريبا جدا من الأستاذعودة رحمه الله .وخطب محمد نجيب ، وكان بجانبه خالد محيي الدين أو شخص يشبهه بالحلة العسكرية (والكاب الأحمر). قال نجيب ضمن ما قال «أما الذين أساءوا إليّ فقد عفوت عنهم ، وستتكون جمعية تأسيسية لوضع دستور, وإقرار نظام نيابي حر».
وبعد أن انتهى من خطبته حاول صرف المتظاهرين, فلم يستجب أحد.فطلب من الأستذ عودة أن يصعد إليه ، فاستجاب ، ووقف بجانبه ، وألقى كلمة قصيرة جاء فيها "إن الإخوان المسلمين يؤيدون محمد نجيب, ويقفون في صف الحرية والديمقراطية.وعودة الحكم للشعب " . وبعدها رفع الأستاذ عودة يده مشيرًا بها قائلاً: «والآن انصرفوا دون هتاف..».. سبحان الله .. إنهم جنود ملتزمون.. وهذا هو سر نجاح هذه الجماعة المباركة...مهما تكالبت عليها المحن ، دقائق تعد علي أصابع اليد الواحدة.. وكأن الأرض قد ابتلعت هذه الكتل البشرية..
وغادرت ساحة عابدين وأنا أكاد أطير من الفرح ، والتقيت وأنا منصرف بالأخ حسن عبد الغفور الذي كان يسبقنا بعام أو عامين في كلية دار العلوم..وهو من أبناء "الدِّر" بأقصى جنوب مصر .وهالني أن أري دموعًا في عينيه...
ما هذا يا أخ حسن .. إنه يوم الفرحة الكبري... عاد محمد نجيب. وأثبت الأستاذ عبد القادر أن دعوتنا: قيادة وجندية, فعلام تبكي إذن ؟!!!
أبكي علي الأستاذ عبد القادر عودة... لقد حكم علي نفسه بالإعدام.. من دقائق.
يا رجل لا داعي للتشاؤم ...أنسيت هتافنا " الله معنا ، عزت أواصرنا ، طابت عناصرنا . لا عبد يخزينا " ؟!
وحاولت أن أغير مجرى الحديث ( وكان له سنَّة مخلوعة في فكه العلوي ) .فأخذت أداعبه :
هيه خلينا في سنتك المخلوعة ... لازم تركب واحدة جديدة ، وإلا لن تكون عريسا مقبولا.
ولكنه لم يستجب لمداعبتي .
وصدق حدس الأخ الحبيب.فدبرت مسرحية المنشية ثم كانت المحاكمات الظالمة .واعدم الأستاذ عبد القادر وثلة من الإخوان ، وتعرضت الجماعة لمحنة عاتية .
وبالنظر إلي هذه المظاهرة يأخذ أحمد منصور علي الإخوان وقيادتهم ما يأتي:
1- أن هذه المظاهرة تأخرت في توقيتها, وكان يجب أن تقوم قبل ذلك, أو في البداية علي حد قوله.
2- أن المظاهرة - بهذا الحجم الضخم - كان يجب أن تخرج إلي شوارع القاهرة, فتنضم إليها آلاف أخري, وبهذه الحركة السلمية يتحقق الحكم الشعبي الديمقراطي, وينسحب الضباط إلي الثكنات. ولن تحدث مصادمات, أو إراقة دم.
وأقول : يا أخ أحمد.. أنت تحكم علي التاريخ «بالقطعة» » المعزولة عن سياقها, وما يحيط بها من ظروف, وطبيعة النطاق الذي يمكن أن تتحرك فيه. فهذه المظاهرة كانت «ضرورة» في وقتها لأسباب لا يتسع المجال لشرحها. ولا يمكن أن تكون في بداية الثورة» إذ كان الناس ينظرون للضباط كمنقذين للأمة من ظلم فاروق وفساد الحكم
فعلي أي أساس يري الأخ أحمد منصور أن المظاهرة كان يجب أن تواصل السير... مؤكدًا أنها ستكون سلمية. وستسلم من أي «خدش» يصيبها!
وأقول: بل كانت ستحدث مذابح يروح ضحيتها الآلاف لا المئات, فقد كان عبد الناصر مازال ممسكًا بكل المقاليد, والنفوذ الأول والأقوي له لا لنجيب. وكنت ستجد رجال عبد الناصر يحرقون سيارات ويدمرون محلات وسينمات, ويلصق ذلك بالإخوان, وتعمل المدافع الرشاشة, ويسقط ألوف القتلي, ويُعتقل عشرات الألوف, لأن الجيش سيعتبر المظاهرة تحديًا له, ومحاولة لتحجيمه.
**********
هذا وعملا بالتوجيه المأثور" لا تجهزوا على جريح " كنت قد عزمت علي ألا أواجه أحمد رائف بعد أن عرَّاه الكتورجمال نصارفي مقاله الموثق . لكني للأسف رأيت رائف يتمادى في التمادي ، ففي مساء السبت 28 11 2009 في قناة الجزيرة قال أحمد رائف : في عابدين في 22 2 1954 وقف عبد القادر عودة ، وبشيء من البلاهة والسذاجة صرف الإخوان ، وكان من المفروض أن ينطلق بهم في ثورة شعبية للقضاء على الحكم العسكري ، وإعادة الحكم للشعب . وكان عدد المتظاهرين في عابدين مليونا ، من شعب لا يزيد على 18 مليونا .
وهنا نرى السيد رائف يحصد آثاما ثلاثة :
1 فقد أساء الأدب إذ وصف عبد القادر عودة بالبلاهة والسذاجة ، وما أراه إلا من قبيل " الإسقاط " .
2 وانسلخ من خلق المسلم الذي يوجب أخذ النفس بالقول المأثور " اذكروا محاسن موتاكم " . وخصوصا مع رجل عاش مجاهدا ومات شهيدا .
3 وسقطته في " الأرقام " فاضحة ؛ فعدد المتظاهرين لم يكن مليونا كما ذكر ، بل كان على أعلى تقدير لا يزيد على 150 ألف متظاهر.
أنار الله بصرك وبصيرتك ... يا رائف