سنة التدافع وعواما النصر (8)

عمر حيمري

ومن الإيمان بالغيب ، الإيمان بالملائكة ، كقوة خفية ضاربة يؤيد الله بها ، وينصر من يشاء على من يشاء ، فدورهم هو تعديل كفة النصر وتحقيقه بإذن الله . ولقد تحدث القرآن الكريم عن دور الملائكة ومشاركتهم في الغزوات ، التي خاضها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال : [ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ] ( سورة  الأنفال آية 12 ) . وقال أيضا : [  إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ] ( سورة  آل عمران آية 124 -125 -126 ) . إن  الله  هو الفاعل الحقيقي للنصر والمدبر له ، والملائكة هم مجرد عامل بشرى وتثبيت واطمئنان للقلوب ،لأنه ليس بمقدور المؤمنين طبقا لقانون الحياة مواجهة أعدائهم  لكثرة عددهم وعدتهم ، ولذلك تتدخل العناية الإلهية ويكون القتل الفعلي، الحقيقي  من الله ومن المجاهدين  قصد قتل المشركين ونيته في سبيل الله . [ فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى  وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم ] ( سورة الأنفال  آية 17 – 18 ). و مشاركة الملائكة في القتال أمر وارد ، إذا توفرت شروطه في كل زمان ومكان ، وليس قاصرا على عهد النبوة ، ولقد سمعنا من يتحدث عن مشاركة الملائكة في القتال ، الذي دار بين الروس ومجاهدي أفغانستان ، وفي الحرب الأخيرة على غزة صرح جنود العدو الإسرائيلي أنهم كانوا في غزة  يقاتلون بشرا لا كالبشر ، يقاتلون رجالا بطول ثلاثة أمطار يطلقون عليهم الرصاص  فلا يموتون .

ومن الإيمان ، الحرص على طلب  إحدى الحسنيين : إ ما  النصر أو الشهادة . إما الظفر بالعدو والتنكيل به ، وفيه الأجر العظيم ، والغنيمة ، والعودة إلى الأهل بسلام . وإما الاستشهاد والموت في سبيل الله والفوز بالجنة وهو المبتغى الأمثل ، وكلاهما فيه خير كثير  . [ قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون ] ( سورة التوبة آية  52 )  ليفوز باختيار الله له  كشهيد ، إلى جانب الملائكة  وأولي العلم . [ وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين  وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ] ( سورة آل عمران  آية 140 – 141  ) . خصوصا وأن الله سبحانه وتعالى خص الشهداء ، الذين يقتلون في سبيله  بوضعية فريدة ، وحياة خاصة ، في عالم الأرواح  ، تكون  بعد الاستشهاد أو الموت في سبيل الله مباشرة وقبل البعث والحساب . هذا العالم  هو من عالم الغيب ، لا نعلم عنه إلا ما علمنا من الوحي وما أخبرتنا به السنة  . يتمتع الشهداء عند ربهم  فيه بحياة خاصة ، فيها رزق ، وأكل ، وشرب ، وسعادة ، وفرح  ، وأمن ، وبشارة بنعمة من الله  وفضل منه ،  قبل أن يتمتع غيرهم  من المؤمنين بالجنة  بعد البعث والحساب ، فأجرهم إذا مرتين من الله مسبقا ، قبل أن يجف دمهم ، ومؤجلا بعد البعث والحساب . فالأجر الأول في تصوري  هو هبة من الله ،  عبارة عن حياة ثانية تتوفر فيها كل مقومات الحياة ، تكون بعد الاستشهاد مباشرة  وقبل البعث والنشور والحساب ، وهو ما أخبرنا به الحق سبحانه وتعالى في  قوله  : [ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله  ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ] ( سورة  آل عمران آية 169 – 170 – 171 )  وقوله  :[ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أمواتا بل أحياء ولكن لا تشعرون  ] ( سورة البقرة  آية  154) . فالشهداء إذن أحياء في الحس والشعور ، يتنعمون عند برهم ،  والله سبحانه وتعالى نهانا أن نقول عنهم أو نحسبهم أمواتا ،  فهم يعيشون في عالم نوراني عالم الحقيقة والجوهر، لا نعرف كنهه  وماهيته ، لأنه يتجاوز إدراكاتنا الحسية والعقلية القاصرة ، المحدودة بحدود العقل والواقع الحسي التجريبي ، ولا نملك الأدوات والآليات الضرورية  لمعرفته ، ولكننا نؤمن به ، ونعلم علم اليقين بجوده اعتمادا على شهادة الله سبحانه وتعالى وكفى به شهيدا ، واعتمادا على ما أخبرنا به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، إذ قال عن الشهداء : { أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت }( عن عبد الله بن مسعود حديث مرفوع ) واعتمادا أيضا على فهمنا لفاعلية الشهداء  في حياتهم الجديدة ، الشبيهة بالحياة الطبيعية ، التي يمارسها الأحياء ، مثل السعادة  ،الفرح بما رزقهم الله وآتاهم من خيره وفضله ، كما أنهم يأكلون ويشربون وينعمون كالأحياء تماما إلا أنهم  يتمنون أن يقتلوا في سبيل الله  مرات ومرات ، لما ذاقوا  من حلاوة الاستشهاد ، وخبروا من نعم الله عليهم .  وهذا ما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه :{ يا جابر مالي أراك مهتما ؟ قلت يا رسول الله استشهد أبي وترك دينا قال، فقال ألا أخبرك ؟ ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب ، وإنه كلم أباك كفاحا قال علي : والكفاح المواجهة ؟ قال سلني أعطك قال: أسألك أن أرد إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية فقال الرب عز وجل إنه قد سبق  مني القول أنهم إليها لا يرجعون ، قال : أي رب فأبلغ من ورائي فأنزل الله [ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون  ] ( عن طلحة بن خراش الأنصاري ، رواه جابر بن عبد الله) .  وهم أحياء كذلك بناء على العديد من شهادات العلماء  الثقات وبناء على القصص المروية بالتواتر عن أشخاص ثقات ، بأن بعض الشهداء في سبيل الله لم تتحلل أجسامهم ولم يتغير لون الجلد ورائحة المسك كانت تفوح من دمائهم التي لم تتوقف عن النزيف رغم مرور زمان طويل على استشهادهم ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال : [ لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك ] ( حديث صحيح مروي عن أبي هريرة ) . وصدق قوله : [ إن الله حرم على الأرض أكل لحوم الأنبياء والشهداء ] . ويقول عالم الدين العراقي " محمد محمود الصواف " رحمه الله : ( كنت ممن فتح قبر سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ورأيته عظيم الجثة قوي البنية وقد بقر بطنه وجذع انفه ومثل به، وقد تم وضع يده على بطنه فلما رفعناه سقطت يده عن بطنه وتدفق الدم القاني من جديد وكأنه قتل اللحظة رضي الله عنه . ) ( نقلا عن الدكتور فاروق المناصير مقال نشر تحت عنوان فتح قبور الشهداء برابطة أدباء الشام ) . وحتى الذي لم يدفنوا من الشهداء ، لم تأكلهم السباع والكلاب واسألوا أهل أفغانستان وفلسطين عن ما شاهدوا وسمعوا عن كرامات الشهداء . إن الظفر بإحدى الحسنيين يحتاج بالإضافة إلى العوامل الغيبية التي سبق ذكرها إلى عوامل نفسية وأخرى مادية .

عوامل نفسية  ( يتبع )