مفهوم الدولة

بين الفقه السياسي المعاصر

والفقه السياسي الإسلامي

صهيب محمد أفقير

باحث في تاريخ الإسلام

وجدة-المغرب

مفهوم الدولة عند اللغويين:

ورد لفظ "الدولة" في القرآن الكريم في قوله تعالى : ( كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ )[1]."وبضم الدال من( دولة ) قرأ جميع قراء الأمصار، غير أنه حكي عن أبي عبد الرحمن الفتح فيها"[2].

وقد اختلف أهل التفسير واللغة في معنى الدولة، في حال ضمت الدال أو فتحت، "فقال بعض الكوفيين: إذا فتحت الدولة تكون للجيش يهزم هذا هذا، ثم يهزم الهازم، فيقال: قد رجعت الدولة على هؤلاء؛ قال: والدولة برفع الدال في الملك والسنين التي تغير وتبدل على الدهر، فتلك الدولة والدول. وقال بعضهم: فرق ما بين الضم والفتح أن الدولة: هي اسم الشيء الذي يتداول بعينه، والدولة الفعل"[3].

وقد اشتهر استعمال مفهوم الدولة في اللغة للدلالة على معنيين متقاربين: قال الكسائي: "الدُّولة في المال يتداوله القوم بينهم، والدَّوْلة في الحرب، وقال عيسى بن عمر: يكونان جميعاً في المال والحرب سواء"[4]. وقال الجوهري "الدَوْلَةُ في الحرب: أن تُدالَ إحدى الفئتين على الأخرى. يقال: كانت لنا عليهم الدَوْلَةُ. والجمع الدُوَلُ. والدُولَةُ بالضم، في المال. يقال: صار الفَيْءُ دُولَةً بينهم يَتَداوَلونَهُ، يكون مرّةً لهذا ومرَّةً لهذا، والجمع دُولاتٌ ودُوَلٌ"[5]. وقال أبو عبيد: "الدولَةُ بالضم: اسمُ الشيء الذي يُتَداوَلُ به بعينه. والدَوْلَةُ بالفتح: الفعل. وقال بعضهم: الدُولَةُ والدَوْلَةُ لغتان بمعنىً. وأَدالَنا الله من عدوّنا من الدَوْلَةِ. والإدالَةُ: الغلبةُ. يقال: اللهم أَدِلْني على فلان وانصرني عليه. ودالَتِ الأيّامُ، أي دارت. والله يُداوِلُها بين الناس. وتَداوَلَتْهُ الأيدي، أي أخذَتْهُ هذه مرّةً وهذه مرَةً. وقولهم: دَوالَيْكَ، أي تَداوُلٌ بعد تَداوُلٍ"[6]. "وقد أدَلْتُه وتَدَاوَلْنا الأَمْر أخذْناه بالدُّوَلِ"[7].

وقيل"الدولة بفتح الدال المهملة: بمعنى الإدالة وهي الغلبة"[8]. وقال ابن منظور:"الدَّوْلة الانتقال من حال الشدَّة إِلى الرَّخاء. ومنه حديث أَبي سُفْيان: وهِرَقْلَ نُدالُ عليه ويُدالُ علينا أَي نَغْلِبه مرة ويَغلبنا أُخرى"[9]. وقال "الحَجّاج: إِنّ الأرضَ ستُدالُ مِنّا كما أدَلنا منها أي نكون في بَطْنها كما كُنّا على ظَهْرها"[10]. وقال أيضا: "يوشِك أَن تُدال الأَرضُ منا كما أُدِلْنا منها أَي يُجعل لها الكَرَّةُ والدَّوْلة علينا فتأْكل لحومَنا كما أَكلنا ثِمارها وتَشرب دماءنا كما شربنا مياهها. وتَداوَلْنا الأَمرَ أَخذناه بالدُّوَل"[11].

يتضح من التعريفات اللغوية السابقة, أن كلمة دولة لا تخرج على احد معنيين. "المعنى الأول مرتبط بالاستخدام الذي ورد في القران الكريم, حيث استخدمت كلمة دولة( بضم الدال) للإشارة إلى الهيمنة الاقتصادية لفئة على فئة أخرى, بينما يرتبط المعنى الثاني بالاستخدام الذي أصبح شائعا في فترة لاحقة عندما استخدمت كلمة دولة( بفتح الدال) للإشارة إلى الهيمنة السياسية والعسكرية لفئة من فئات المجتمع على الفئات الأخرى. ويتضح الترابط بين المعنيين عند ملاحظة عدم انفكاك الهيمنة الاقتصادية عن الهيمنة السياسية في الغالب"[12].

مفهوم الدولة في الفقه السياسي المعاصر:

يعرفها فقهاء القانون الدستوري بتعريفات عديدة . نقتصر منها على التعريفات الآتية:

الدولة:"وحدة قانونية دائمة, تتضمن وجود هيئة اجتماعية لها حق ممارسة سلطات قانونية معينة, في مواجهة امة مستقرة على إقليم محدد, وتباشر الدولة حقوق السيادة بإرادتها المنفردة وعن طريق استخدام القوة المادية التي تحتكرها". هذا التعريف لبونار. ويعرفها هولاند "بأنها مجموعة من الأفراد يقطنون إقليما معينا أو يخضعون لسلطان الأغلبية أو سلطان طائفة منهم"[13].

وعرفها محمد يوسف موسى بأنها "جماعة من الناس تقيم دائما في إقليم معين, ولها شخصيتها المعنوية, ونظامها الذي تخضع له ولحكامها, واستقلالها السياسي"[14].

ويتفق الفقهاء على" أن الدولة في الفكر القانوني الحديث لا تقوم دون توافر ثلاثة أركان على الأقل, هي الشعب والإقليم والسلطة"[15]. أي أن توجد جماعة من الناس هم شعب الدولة يعيشون على إقليم محدد، و ينتظم هؤلاء الناس تحت حكومة معينة بيدها سلطة قانونية.

وتعتبر الدولة القومية المعروفة بشكلها الحالي نتاجا حديثا, ظهر في بداية العصور الحديثة (في القرن السادس عشر)، وجاء كرد فعل للتفاعلات السياسية الناتجة عن الاستبداد في الحكم, وعن توزع السلطة, في العصور الوسطى في أوروبا, في يد أقليات أرستقراطية تميز نظامها بتقوية سلطة الملك أو الحاكم بشكل عام.   

وتختلف الدولة القومية عن الدولة الإسلامية في شكلها ونظامها ودستورها ومصدر السلطات فيها. وتتفق معها في أركانها الأساسية المتفق عليها: الإقليم, الشعب والسلطة.

مفهوم الدولة الإسلامية:

"مصطلح الدولة لم يأخذ مفهومه السياسي المحدد في الأدبيات السياسية الإسلامية إلا بعد مرور قرون عديدة على قيام المجتمع الإسلامي الأول. فقد استخدم علماء المسلمين الأوائل مصطلح دار الإسلام أو الأمصار للإشارة إلى الأقاليم التابعة للسلطة الإسلامية: كما استخدموا مصطلحات الخلافة أوالإمامة أوالولاية للدلالة على الهيئات السياسية المركزية للأمة" [16]

"دار الإسلام" هو المصطلح الشائع في كتابات المؤرخين قديما, كان يؤدي معنى الدولة الإسلامية بالمفهوم المعروف اليوم. و"دار الإسلام" هي :"الدار التي تجري عليها أحكام الإسلام ويأمن من فيها بأمان المسلمين سواء كانوا مسلمين أم ذميين"[17] . وقد استعمل مصطلح دار الإسلام في مقابل  مصطلح دار الحرب و"هي الدار التي لا تجري فيها أحكام المسلمين"[18].

وكان هذا المصطلح هو الشائع في الكتابات السياسية والتاريخية. فاستعمله على سبيل المثال: السرخسي في كتابه: شرح كتاب السير الكبير للمقريزي, الطَّرَسوسي في: تحفة الترك فيما يجب أن يعمل في الملك, ابن تيمية في:  السياسة الشرعية, الماوردي في: الأحكام السلطانية, ابن حزم في: الفصل في الملل والأهواء والنحل, ابن الأثير في: الكامل في التاريخ, المسعودي في:  مروج الذهب, اليعقوبي في: تاريخه, بدر الدين العيني في: عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان, الذهبي في: تاريخ الإسلام, أبو شامة المقدسي في: الروضتين في أخبار النورية و الصلاحية, المقريزي: في المواعظ والاعتبار, ياقوت الحموي: في معجم البلدان, ابن الوردي: في خريدة العجائب وفريدة الغرائب, والإصطخري: في المسالك والممالك. وغيرهم كثير.

ثم فيما بعد استبدل مصطلح "دار الإسلام" ومصطلح "دار الحرب" بمصطلح الدولة. وهذا هو السبب في كون "مفهوم الدولة لم يضبط انضباطا دقيقا حتى منتصف القرن الثامن الهجري عندما استطاع عبد الرحمن بن خلدون أن يطور مفهوم الدولة من خلال دراسة القاعدة الاجتماعية التي ترتكز عليها السلطة في المجتمعات السياسية المعاصرة له والمتقدمة عليه"[19]. وهذه القاعدة الاجتماعية, حسبه, هي العصبية.

ثم إن تعريف الدولة تطور بشكل كبير في العصر الحديث. وتأثر بشكل بالغ بالتجربة الأوربية والتصور السياسي الغربي. ولما كان "يؤدي تبني هذا التعريف, المنبني على التصور والتجربة السياسيين الغربيين, إلى نتيجتين خطيرتين. الأولى, التسليم بشرعية التقسيم الحالي للمناطق الإسلامية, وبالتالي قبول الخريطة السياسية التي تكرس مركزية الغرب وتبعية المناطق الإسلامية"[20]. اجتهد المفكرون الإسلاميون في وضع تعاريف وحدود تميز الدولة الإسلامية عن غيرها من الدول.

نجد أبو الأعلى المودودي يركز على مبدأ السيادة والحاكمية في تعريفه للدولة الإسلامية, لان "الحاكمية بكل معنى من معانيها لله تعالى وحده, فانه هو الحاكم الحقيقي"[21]. فالدولة الإسلامية, عنده, هي الدولة التي تتعلق الحاكمية فيها بالله تعالى. وليخرج من الإشكال التاريخي الذي طرحه مفهوم الحاكمية لدى الخوارج, فهو يميز بين الحاكمية القانونية والحاكمية السياسية" فالحاكمية القانونية تتعلق بحق الله في التشريع للناس, بينما تتعلق الحاكمية السياسية بتنفيذ الأحكام الإلهية. والحاكمية القانونية خارجة عن نطاق الفعل الإنساني, في حين يمارس البشر الحاكمية التنفيذية نيابة عن الله عز وجل" [22].

إن مبدأ الحاكمية القانونية حسب المودودي هو الذي يميز الدولة الإسلامية عن غيرها. ويرى حسن السيد بسيوني هو الآخر" أن الدولة الإسلامية دولة قانونية, تقوم على التشريع الإسلامي وتهتدي به في أمور الدين والدنيا"[23]. ويرى في هذه القانونية السمة المميزة لها. يقول: " تتسم الدولة الإسلامية بأنها دولة قانونية إذ يسود فيها أحكام الشرع الإسلامي, والذي يستمد مصادره, من القران الكريم باعتباره الدستور الأعلى, الذي يبين الحقوق ويحدد الواجبات ويرسم للدولة القواعد الكلية والمبادئ العامة التي تنظم شؤون الأفراد, وتأتي السنة كمصدر تال له"[24].

هذه الدولة الإسلامية القانونية "يخضع الجميع فيها حكاما ومحكومين لأحكام التشريع الإسلامي" وبهذا فهي "أسبق الدول قاطبة في التمتع بهذه السمة وتلك الخاصية"[25]. ومن مبدأ القانونية, هذا, تستمد الدولة مشروعيتها السياسية وشرعيتها الإسلامية." والشرعية الإسلامية تعني أن تكون شريعة الله هي الحاكمة وان يكون الدين كله لله بلا تجزئة"[26]. ومن سمات هذه الشرعية:" إنها ربانية, شاملة, عادلة, متوازنة, فعالة"[27].

ووجد لؤي صافي في المفهوم الذي قدمه ابن خلدون للدولة, المدخل الصحيح لتعريف الدولة الإسلامية. وانتهى إلى التعريف الآتي: " الدولة الإسلامية – هي – البنية السلطوية للأمة التي توجه الفعل السياسي وتحدده وفق منظومة المبادئ السياسية الإسلامية"[28].

وان التركيز على مبدأ القانونية والشرعية ومنظومة المبادئ الإسلامية في تعريف الدولة الإسلامية لا يلغي بحال من الأحوال أركان الدولة: الإقليم, الشعب والسلطة. التي ينص عليها القانون الدستوري. فالدولة الإسلامية تضمنتها منذ نشأتها الأولى. وعلى هذا يؤكد محمد يوسف موسى حين يقول:" انه باستقرار الرسولr وأصحابه في المدينة, واتخاذها وطنا لهم ومقاما دائما, تم للعرب والمسلمين إقامة دولة لها أركانها ومقوماتها, دولة يشير القران والسنة إلى وجوب قيامها وينطبق عليها التعريف القانوني للدولة, دولة لها إمامها ورئيسها الذي يخضع له المسلمون جميعا على اختلافهم في الأصول والأجناس, والألوان"[29]. هذا مع وجود من لا يسلم بهذا الأمر ممن يعتبر فقط "أن الجماعة المسلمة, في حياة الرسولr , بالمدينة كادت تكون دولة بمعناها القانوني الصحيح"[30]. أي لم تتحقق الدولة فعليا, أو ممن يذهب إلى ابعد من ذلك, ويرى أن رسول الله لم يؤسس دولة, ويدعو إلى فصل الدين عن الدولة. وشيخ هذه الطائفة " علي عبد الرازق وهو أزهري دعا إلى فصل الدين عن الدولة في كتابه الشهير" الإسلام وأصول الحكم".[31]

(رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). البقرة:201.

               

- الحشر: 7.[1]

- الطبري. جامع البيان في تأويل القرآن. مصدر سابق. ج23ص279. [2]

-نفسه. الصفحة نفسها. بتصرف.[3]

- - ابن السكيت. إصلاح المنطق.ج1ص35.[4]span>

- الصحاح في اللغة. مصدر سابق. ج1ص 218.[5]

- نفسه. الصفحة نفسها.[6]

- ابن سيده. المخصص. ج1. ص277.[7]

- سبل الهدى والرشاد. مصدر سابق. ج5 ص309.[8]

- ابن منظور. لسان العرب.ج11 ص252.[9]

الخليل بن أحمد. العين. ج2ص.126. مادة دول. -[10]

- لسان العرب. مصدر سابق. ج11ص252.[11]

- العقيدة والسياسة.ص 118.[12]

محمد كامل ليلة. المبادئ الدستورية العامة والنظم السياسية. ص223-[13]

- محمد يوسف موسى. نظام الحكم في الإسلام. ص17[14]

- صلاح عبد البديع شلبي. إقليم الدولة في الفكر الإسلامي والقانون الدولي. ص4.[15]

-   العقيدة والسياسة. مرجع سابق. ص117.[16]

-   عبد الوهاب خلاف. السياسة الشرعية. ص71.   [17]

-  عبد الكريم زيدان. أحكام الذميين والمستأمنين. ص19.[18]

-العقيدة والسياسة. مرجع سابق. ص 118.[19]

- نفسه. ص 121.[20]

- - أبو الأعلى المودودي. نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور. ص211.[21]

- نفسه. ص211. بتصرف.[22]

- حسن السيد بسيوني. الدولة ونظام الحكم في الإسلام. ص100.[23]

- نفسه. ص39. [24]

- نفسه. ص39.  بتصرف. [25]

- نفسه. ص41-42.[26]

- نفسه. ص41-42. بتصرف.[27]

- العقيدة والسياسة. مرجع السابق. ص121.[28]

- نظام الحكم في الإسلام. مرجع سابق. ص18.  [29]

- نفسه. ص15[30]

-منصور ابراهيم. الأمة والدولة بين الدين والتاريخ. ص32.[31]