لا مقاومة بلا أمن(4)

لا مقاومة بلا أمن

(4 من 4)

  

د.محمد بسام يوسف

[email protected]

نتابع في هذه الحلقة الأخيرة استعراض نماذج عن "المفاهيم الأمنية" الواردة في بعض النصوص القرآنية الكريمة، لنؤكّد على أن "للعمل الأمني" أصلاً شرعياً قوياً ينبغي أن تأخذ به الحركة الإسلامية أو أي جهةٍ تعمل للإسلام، لاسيما تنظيمات الجهاد والمقاومة الإسلامية، وأن تعمل على تنفيذ روح هذا الأصل الشرعيّ وتعاليمه الأمنية، ثم تقوم بتطوير هذا الجانب المهم من جوانب العمل الإسلامي.. فضلاً عن تربية أبناء الحركة الإسلامية ورجال الجهاد والمقاومة في سبيل الله.. على المفاهيم الأساسية للعمل الأمني الإسلامي، الذي أصبح ركناً أساسياً من أركان البناء الحركي التنظيمي المقاوِم لا يمكن تجاهله أو الاستغناء عنه في أي حالٍ من الأحوال، لأن به يرتبط كل نجاحٍ أو تقدمٍ أو انتصار .

سُليمانُ عليه السلام : عِبَرٌ ودروسٌ أمنيةٌ لا تُنسَى

كما في القصص السابقة، فإن قصة النبيّ سليمان عليه السلام تزخر بالمعاني والعبر الأمنية التي تُعلّمنا وتُعلّم الأجيال إلى يوم الدين، أنّ العمل الأمني الإسلامي، من الأعمال المهمة التي ينبغي للمسلم أن يتقنها ويطوّر أساليبها، لكي يستطيع التعامل مع كل الظروف التي تحيط به أو تطرأ عليه .

وسليمان عليه السلام هو النبي الذي سخّر الله له الجنّ والإنس والحيوان، لعمارة الأرض وإقامة شرع الله سبحانه وتعالى فيها .. فلا عجب إذا عرفنا أنه عليه السلام كان يتعامل مع الطير والنملة، وغير ذلك من مخلوقات الله المسخّرة له بقدرته عزّ وجلّ .

الهدهدُ جنديٌّ مخلصٌ ، وعَينٌ أمنيةٌ لا تخطئ

فقد بادر (الهدهد) إلى الاستطلاع، وجمْع المعلومات، وعندما لاحظ أهميتها وخطورتها، سارع لإخبار قيادته بنتائج مبادرته الخاصة، والقيادة هنا يمثّلها نبيّ الله سليمان عليه السلام، فهو يمثّل أولي الأمر الذين يعملون في سبيل الله، لتحقيق العبودية لربّ السماوات والأرضين وحده، وبالتالي تحقيق الخير والسعادة والعدل للناس في الأرض :

(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ) (النمل:22)

والنبأ هو الخبر الذي يتضمن أمراً هاماً أو خطيراً، ولا بدّ لبناء القرار عليه، أن يكون صحيحاً حقيقياً مُثبَتاً قاطعاً : (بنبأٍ يقين)، لأنّ المسلم لا يبني أموره إلا على اليقين من الأنباء، ولا يتصرف تصرفاً أو يتخذ موقفاً إلا بموجب أخبارٍ صحيحةٍ يقينية .. وهو مبدأ أمني وأخلاقي عظيم !..

فما هو هذا الخبر الخطير الذي حمله الهدهد -العين الساهرة على أمن الدعوة- ؟! :

(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) (النمل:23)  فهناك في بلاد اليمن مملكة تحكمها امرأة هي (بلقيس)، وهم قوم يعبدون غير الله عز وجل !.. وهو أمر خطير وهام لا يمكن تأخير اتّخاذ الموقف بشأنه.. إنهم يعبدون الشمس، وعبادة الشمس تُناقِض كلياً عبادة الله عز وجل الواحد الأحد، ونبيّ الله سليمان هو الإنسان الذي كلّفه ربّ العزة سبحانه وتعالى بتحقيق العبودية له عز وجل وحده في الأرض !..

كيف تعامل سليمان عليه السلام مع هذا النبأ، الذي حمله إليه أحد جنوده (الهدهد) ؟..

لم يهمله، ولم يتخذ أي موقفٍ حتى تثبّت من صحّته وثبوته :

(قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) (النمل:27)!..

وبعد أن تحقّق عليه السلام من صحة النبأ، اتخذ الموقف المناسب، الذي يتضمن تحقيق العبودية لله عز وجل في كل ركنٍ معروفٍ من الأرض آنذاك !.. ثم تؤمن الملكة بلقيس بالله سبحانه وتعالى، ويؤمن قومها، ويتحقق الهدف .. وكل ذلك بفضل الاستثمار الأمثل، لنبأٍ حمله جندي مخلص نابِهٌ هو : الهدهد، بمبادرةٍ ذاتيةٍ منه، تدل على حرصه وأمانته !.. فهل يكون كل منا كالهدهد الحصيف النابه ؟!..

نملةٌ حصيفةٌ تنقذُ أمّةَ النمل !..

كان سليمان عليه السلام قد جمع جنده من الإنس والجنّ والطير، وسار بهذا الجيش العظيم، ولما اقترب من الوادي -وادي النمل- .. شعرت بهم نملة، وعندما تيقّنت أن وجهتهم نحو الوادي الذي تسكن فيه أمّة النمل، سارعت إلى قومها محذِّرةً منبِّهةً :

(حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (النمل:18)!..

فالخطر قادم !.. وهو يقترب، ونتيجته تحطيم أعضائكم بالأرجل وحوافر الدوابّ، ولو من غير قصدٍ منهم، ولا بدّ من الحماية، وقبل ذلك لا بدّ من التحذير والتنبيه إلى الخطر القادم .. وهكذا كان، إذ لجأت أمّة النمل إلى مساكنها الآمنة امتثالاً لتنبيهات (نملة الاستطلاع) التي نقلت الخبر، في الوقت المناسب، من غير تأخيرٍ ولا تسويف، لأنّ تأخير نقل الأخبار الهامة إلى قيادة العمل أو الدعوة أو المقاومة أو الجهاد، قد تكون له عواقب وخيمة !.. فهل نتعلّم ؟!..

إنه الأمن !.. أمن الدعوة ورجالها، وأمن المقاومة ومجاهديها، وأمن البلاد والعباد، وأمن الأمة والشعوب، وأمن العمل والخطط والمخططات، وأمن الحركة والأساليب والوسائل.. حتى تحقيق الأهداف المنشودة، في التحرّر والتحرير وتحقيق منهج الله عز وجل في شؤون الحياة البشرية، ليتحقق العدل والرخاء والاستقلال، وتتحقق الكرامة والعزة والحرية الحقة، ويسود شرع الله عز وجل، فتتحقق عمارة الأرض على المبادئ لا على المصالح، وتتحقق من كل ذلك سعادة الإنسان، فتسود القِيَم الإنسانية بين الناس لا قِيَم الأرباب المزيّفين، ويسود الحق الذي أراده الله عز وجل لبني البشر، لا الباطل الذي تريده أنظمة الخزي والظلم والعار والقوى الكبرى المتحكّمة اليوم في حاضر البشرية ومصيرها، هذه البشرية التي تعاني من الاحتكام للقوة المتغطرسة، لا للحق الأبلج !..

فيا ربّ آتنا من لدنك رحمةً ،

وهيّء لنا من أمرنا رشداً ،

وارزقنا الحكمة وحسن التدبير ،

ونوّر عقولنا وقلوبنا بنور الحق ،

واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه ،

اللهم آمين .. اللهم آمين

تمت