"الدولة الفلسطينية في فكر ياسر عرفات"

د.عصام محمد علي عدوان

"الدولة الفلسطينية في فكر ياسر عرفات"

د.عصام محمد علي عدوان

لقد شارك ياسر عرفات في تأسيس حركة التحرير الوطني الفلسطيني – فتح عام 1958م بهدف تحرير الجزء المغتصب من فلسطين عام 1948م، وقد نصت وثائق الحركة على ذلك، مثل: بيان حركتنا، وهيكل البناء الثوري، والنظام الداخلي، والنظام الأساسي، وغيرها. وقال ياسر عرفات عام 1969م: "ثورتنا كانت قبل الخامس من حزيران، والخامس من حزيران شيء طارئ زاد في مسئوليتنا والتبعية الملقاة على أكتافنا. ثق أننا نحن حركة وثورة تحرير الأرض بكاملها، بكل شبر فيها". ولكن سقوط الجزء المتبقي من فلسطين عام 1967م تحت الاحتلال في ظل ضعف عربي مهين، دفع باتجاه طرح فكرة الدولة الديمقراطية على كامل الأرض الفلسطينية، وقد طرحت فتح هذا الهدف في يناير 1968م، ثم أدرجته في المادة (13)من النظامين الداخلي والأساسي، وهو حل لم تلق له إسرائيل والمجتمع الغربي بالاً. وقد اعتبر عرفات أن فكرة الدولة الديمقراطية "أول مشروع حل حضاري يقدَّم، وبرؤيا إنسانية، لحل المشكلة، وأول طرح عربي لها"، وقال من على منبر هيئة الأمم المتحدة في 13/11/1974م:  "فلنعمل معاً على تحقيق الحلم في أن أعود مع شعبي من منفاي لأعيش مع هذا المناضل اليهودي ورفاقه، ومع هذا المناضل الراهب المسيحي وإخوانه في ظل دولة واحدة ديمقراطية... فنحن نشمل في تطلعاتنا كل اليهود الذين يعيشون الآن في فلسطين ويقبلون العيش معنا في سلام ودون تمييز على أرض فلسطين... أدعو اليهود فرداً فرداً... أن نعيش حقاً في إطار السلام العادل في فلسطيننا الديمقراطية".

 وأدى خروج المقاومة الفلسطينية من الأردن عام 1971م إلى تطور فكر ياسر عرفات والثورة الفلسطينية باتجاه إقامة دولة فلسطينية (مؤقتة) على جزء من فلسطين، وخطا في هذا الاتجاه خطوات حثيثة، لكنها ليست واضحة ولا صريحة، وساهمت الضغوط الدولية من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وبعض الأنظمة العربية في جعلها حلاً نهائياً، إلى الدرجة التي دفعت عرفات للتصريح بأنها ستعيش بسلام وأمن ومجردة من السلاح بجانب إسرائيل، وبالرغم من ذلك بقي الحديث عن الدولة الديمقراطية مجرد طموح مستعصي على التنفيذ.

لقد تضافرت عوامل سياسية وعسكرية ودبلوماسية ونفسية في تفكير ياسر عرفات والقيادة الفلسطينية من حوله، دفعت في عام 1974م باتجاه مشروع السلطة الوطنية على أي جزء يتحرر من فلسطين مبرِّراً ذلك بقوله: "لن تصبح ثورة لاجئة أبداً"، مناشداً المجتمع الدولي: "بأن تمكنوا شعبنا من إقامة سلطته الوطنية المستقلة وتأسيس كيانه الوطني على أرضه". ليتطور الحديث بعد ذلك إلى دولة فلسطينية على أي جزء، ثم دولة في الضفة والقطاع، كان ياسر عرفات قد اعتبرها في 5/12/1970م أنها "نغمة مشوهة، ومؤامرة"، وقال في29/6/1973:"إن فكرة طرح الدولة الفلسطينية- وهي طبخة (بحص) [حصى]- لن يخرج منها شيء...إننا لن نتنازل عن شبر واحد من التراب والأرض الفلسطينية"، مؤكداً للأمير فهد الاستعداد للاعتراف بإسرائيل مقابل دولة. وأوضح في 2/5/1976أنها " لن تشكل خطراً على إسرائيل، ولن تكون قادرة على شن حرب تقليدية، ولا حرب عصابات، لأنها ستكون ضعيفة ومشغولة ببحث مشاكلها الخاصة".

واستُخدمت عبارات غامضة للإيهام بأن الحديث عن المبادئ لم يصبه الوهن، فاستخدم تعبير "الدولة الفلسطينية المستقلة فوق التراب الوطني الفلسطيني وعاصمتها القدس الشريف" ليعني لمن شاء أنها دولة على فلسطين التاريخية، ولآخرين بأنها دولة فوق الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967م، وهو بالضبط ما كان يقصده ياسر عرفات، فقد قال في30/11/1978:" إن منظمة التحرير الفلسطينية ستقبل بدولة فلسطينية مستقلة مؤلفة من الضفة الغربية وقطاع غزة مع ممر يصل بينهما، وفي تلك الحال ستتخلى المنظمة عن كل وسائل العنف لتوسيع رقعة تلك الدولة، واحتفظ طبعاً بحق استعمال وسائل غير عنيفة، أي وسائل دبلوماسية وديمقراطية لتحقيق توحيد كل فلسطين فيما بعد، وسنعترف اعترافاً واقعياً بدولة إسرائيل، وسنعيش بسلام مع جميع جيراننا"، وقال في 26/3/2002م:" من اللازم الآن أن يتم الاعتراف بالحل الوسط التاريخي القائم على حل الدولتين – وهو حل تقوم بموجبه دولة فلسطين على 22% من أرض فلسطين التاريخية؛ أي الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة أو الأراضي التي احتلتها إسرائيل نتيجة حرب 5 حزيران(يونيو) 1967. وسيكون بالتالي لدولة إسرائيل حدود محددة على 78% من فلسطين التاريخية أو على خطوط [الهدنة حتى عام] 1967 التي ستشكل حدوداً آمنة ومعترف بها، والتي دعت إليها وباستمرار الأسرة الدولية ووفقاً لقرارات الأمم المتحدة ذات العلاقة، والتي كان آخرها وأكثرها لزوماً قرار مجلس الأمن رقم 1397".

وفي مسعاه إليه تفاعل مع فكرة الكونفدرالية مع الأردن، فقد قال للملك حسين له في اجتماع القمة العربية السابعة في الرباط عام 1974م: "أنا مستعد لإقامة وحدة معك مثل الوحدة التي أقامتها مصر وسوريا وليبيا والسودان، أو مثل الوحدة التي نشأت بين الأردن والعراق، أو مثل أي وحدة تراها موجودة داخل المنطقة العربية أو خارجها، وليكن مثل العلاقة التي قامت بين سوريا ولبنان بعد انتهاء الاستعمار الفرنسي" وأوضح أن المقصود بالوحدة المشار إليها أنها الوحدة الكونفدرالية، مقترباً من الحل الأمريكي المتمثل في مبادرة ريغان، وتفاعل مع فكرة حكومة المنفى حيث أعلن استقلال فلسطين من الجزائر ليتسنى له التعامل مع استحقاق قرار 242، وتفاعل مع فكرة الحكم الذاتي فكان اتفاق أوسلو الذي أوجد السلطة الوطنية الفلسطينية على جزء من الأرض الفلسطينية.لكنه لم يوصلها إلى الدولة الفلسطينية، بل اعتبرها في 22/10/1997م "خطوة أولى نحو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف"، وأشار في  28/9/1998م إلى أنه "كان من المفترض أن يتسلم الفلسطينيون 90% من أرضهم المحتلة[أراضي عام 1967] ليتسنى لهم إقامة دولتهم المستقلة في 4/5/1999م" وبدت المرارة واضحة في خطابه وهو يصف حجم التراجعات التي ألحقتها إسرائيل بالعملية السلمية، وهو يتمنى على العالم أن يضغط على إسرائيل لتنفيذ الالتزامات الواجبة بحقها، في الوقت الذي لم يُبد أي احتمالية لأن يعلن الطرف الفلسطيني عن فشل العملية السلمية والتراجع عن التزاماته تجاه تلك الاتفاقيات.

لقد انتقل ياسر عرفات إلى مثواه الأخير دون أن يحقق حلمه بدولة فلسطينية مستقلة، مخلفاً وراءه تركة ثقيلة، بعد أن تبدلت ظروف وعقليات، أصبح مقبولاً فيها كل ما كان محرماً بالأمس، والمفارقة التي تسترعي الانتباه: أن إسرائيل استطاعت الحصول على اعتراف الفلسطينيين أصحاب الأرض الحقيقيين بها، من خلال اعتراف القيادة الفلسطينية بإسرائيل وسيادتها على أراضي عام 1948، بينما ترفض أن تتيح المجال لقيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة كاملة على أراضي عام 1967م من فلسطين. لقد كانت رؤية خالد الحسن ثاقبة، عندما حذّر من خطورة اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل قبل أن تعترف هي بهم، فضلاً عن أنه ليس من حق أحد، كائناً مَن كان، أن يتنازل عن ذرة تراب واحدة من أرض فلسطين المقدسة، كما قال الحسن، ونقول.