يوميات باحث عربي
يوميات باحث عربي
د.محمد سالم سعد الله
بعد ليالٍ مضنيةٍ ، وأشهرٍ من البحث المتواصل ، توصل ( كمال ) إلى معرفةِ أُسسِ النظريةِ التي حَلُم ـ يوماً ما ـ أن يكون له دورٌ في صياغتها .
وها هو الآن يخطو خطى ، لا يعرف أنّها ستكون غيرَ واثقةٍ ، ويتَقدَم .. ويُقدِم أسسَه لنيل تشجيع زملائه .. وأساتذته ، الذين علّموه معنى أن يكون الإنسانُ مجدداً ، وذا قيمةٍ في الحياة .
قيلَ له :
ـ منْ أنتَ كي تصوغ نظرية ؟! .
ـ ما موقعك في الساحةِ العلميةِ كي تشاركَ المبدعين إبداعهم ؟ .
ـ من الذي سمح لك أن تطرقَ بابَ الإبداع ؟ .
إنّها أيادي التطفل التي تُمدّ لك ولأمثالك ، ليصبحوا عبئاً ثقيلاً على الميدان العلميّ والثقافيّ ، ثمّ يحاولوا إزاحتنا عن مناصبنا العلمية ، ومَن .. ، ومَن .. ، ومَن .. .
وقف ( كمال ) مذهولا مما سمع ، لقد انقلب التبشير بالإبداع إلى نقمة للمبدع ، ومِمنْ ؟ ، إنّهم الذين علّموه حبَّ العلم والمعرفة ، إنّهم الذين أسهموا في إثمار بذرته ، إنّهم من حفظَ لهم المحبة والاحترام ، إنهم القدوة ، إنهم المثال .. ، ولكن .. لا مثال .
وُجِهت إليه تهمة الإبداع غير المشروع :
ـ أنت كمال ؟ .
ـ نعم أنا كمال . ولكن غدوتُ بلا كمال ، أاستحق كلّ هذا .
ـ نعم تستحق .
تستحق لسهر الليالي ، وعدم مراعاة قوانين اللعبة ! .
ـ لا .. لا .. لا .. لا أستحق ذلك ، لأني لست السبب ، إنهم هم السبب ، لقد أوصدوا أبواب المعرفة بوجهي ، كي .. ، كي يبقوا هم ، وأُسحَق أنا .
وهكذا تواردت الأفكار : بين مشفق ومؤنب لكمال ، وهو لا يدري أن تلك الأفكار هي الضمير الذي يحثه على العمل ، والنفس التي تجبره على تركه .
لم يضع كمال أحزانه وأشجانه إلا عند ذلك الأستاذ المفعم بالحيوية والعلمية !! : " ابني كمال ، نحن في حالة ضعـف ، ومعنى ذلك أننا مستهلكـون لا منتجـون ، مستـوردون لا مصـدرون ، يا بني .. ، إعلم أنّ .. " .
كفى .. إنها كلمات كئيبة تحمل لغة الانهزام والتقصير ، انطلقت لغرض النصح والإرشاد !! ، كلمات تخفي عجز قائلها ، كلمات لا تدرك أن الضعف قد ينقلب على مفهومه ، ليغدو للباحث طاقة تشحنه بالرموز والدلالات ، والعمل المتواصل المخلص والجاد .
كانت لهذه الكلمات وقع شديد على كمال ، أشد من واقعة الضعف الذي نعاني منه ، إنها كلمات تئد الإبداع قبل ولادته ، وتؤنب الجهد قبل ثمرته ، تغلف الجهل بأغلفة براقة يركن إليها أنصاف المتعلمين .
وهكذا رجعتُ ، والأنا ( كمال ) لأجد عزائي بين أبحاثي وكتبي ، بين أوراقي وأقلامي ، بين أحزاني وانهزامي ، هل يا ترى أني باحث لا أعلم معنى الكمال ؟ ، أم أنّ الآخر لا يدرك منزلة الكمال ؟ ، لعلي لن أقف على إجابة ، وتتوالى الأيام وتستمر ..