طريق الإيمان
سلسلة المعرفة
الحلقة الثانية والعشرون
إثبات أن القرآن من عند الله، وأن محمداً رسول الله
د. محمد سعد التركي
بالرغم من كل عمليات التضليل الهجومية لكل البشر، في كافة الأصعدة الفكرية والعملية والتطبيقية، التضليل بأي فكر غرضه يبعد الناس كافة عن الإيمان بوجود الله، إلا أن فطرة الإنسان في الأجيال المتتابعة غلبت، وتغلب حتماً وتهزم كل محاولات المفكرين المدّعين بعدم وجود الله سبحانه وتعالى، حتى هؤلاء المفكرين غالباً ما هزمتهم وهزمت أفكارهم وإدعاءاتهم الفطرة، فتوجهوا تكراراً وقت الأزمات والفزع إلى صاحب القوة الأعظم خالق السموات والأرض، طالبين النجاة مما عَرَض لهم من سوء.
إلا أننا نقول أن ليس كل من صدّق أو آمن بوجود الله سبحانه وتعالى قد آمن بأن محمد بن عبد الله عبده ورسوله، وصدّق بأن القرآن وما قبله من الكتب السماوية هي منزلة من عند الله، لأن الرسل والكتب السماوية شيء مادي في حاجة إلى دليل عقلي أو نقلي قاطع يثبت علاقتهم بالله، وهذا ما كان من صحابة الرسول محمد r ، قبل أن يكونوا صحابته، وممن أسلم من بعدهم، عندما إدعى محمد بن عبد الله النبوة وادعى أن هناك كتاب يَنزل عليه، فما كان منهم إلا أن يتوثقوا بالعقل من كلامه ومن صدق إدعائه، وهم رجال الفطنة والذكاء والأدب والفراسة، وهم علماء اللغة العربية وأصحابها، وهكذا كان من كل رجل منهم، لم يدخل الإسلام حتى توثق من أمر محمد بن عبد الله، وتوثق من صدق ما ادعاه، فكانوا يمحصون في كل كلمة أو آية تنزل، وكانوا يراقبون أفعال محمد وأقواله، ويتحققون ما إذا كان يسعى وراء هوى أو دنيا أو منصب أو مُلك .
كان رأس الأمر عند قريش وغيرهم من العرب هو الكلام المنزل وهو القرآن، الذي كان من شأنه أن يكون أولاً الرسالة إلى الناس التي تبلغهم أمر دينهم، وثانياً المعجزة التي تثبت أن محمداً نبيٌ مرسل من عند الله، ومن هنا جاءت أعلى درجات التمحيص والإختبار لمحمد، ولما كان يقوله محمد بن عبد الله، إبن قريش وإحدى فتيانها وربيبها، والتمحيص لما كان يدعيه أنه منزل من عند الله .
فهذا محمد الذي يَعلم كل رجل وإمرأة وفتى من قريش هويته، وهوية حديثه، ومقدراته العقلية والنفسية، وقدراته اللغوية والأدبية والإبداعية، شأنه شأن أي رجل منهم أو امرأة أو طفل، هذا هو محمد وقد فاجأهم بكلام لم يعهد العرب كافة في الجزيرة العربية وخارجها مثله، أو على نسقه، كلام إعجازي في البلاغة المتناهية التي يعجز عنها ويعجز عن ما يشابهها العربُ كلهم بإنسهم وجنهم، بما فيهم محمدٌ ربيبهم، فمنذ ولادته وطفولته ونشأته واشتداد عوده ورجولته لم يكن يوماً يحسن شيئاً من الشعر أو النثر، أو يُحسن حفظه أو ترديده، ولم تكن له تلك الميول أو ما شابهها.
ها هو محمد بن عبد الله قد جاء اليوم بحديث في اللغة العربية التي كانت موضع عزتهم، ومداد فخرهم، ومنبر أحاديثهم، وساحة معاركهم الأدبية، جاءهم بهذا الحديث الذي لم يكن العرب الأقحاح وشعراؤهم وأدباؤهم وعلماؤهم آنذاك قادرين على أن يأتوا بحديثٍ كتمامه في التصوير الفني، وإبداعه القصصي، وفي طباقه وجناسه، وتشبيهاته، ومجازات ألفاظه، ورقي إيجازه، وحسن ألفاظه، ووفرتها، وتطابقها مع معانيها، وفي ضرب الأمثال، وتركيب الجمل، والعلم الوفير، وأخبار السابقين والحاضرين، ناهيك عن أنه حديث يضم للفَطِن في طياته فكراً سياسياً وإجتماعياً وإقتصادياً وأخلاقياً، بل وعالمي، بل ويشير إلى وحدة فكر من نوع خاص، ويَعِد بصناعة أمة عظيمة عادلة ذات أخلاق رفيعة، ويَعد بنهضة دَوْلية، دولة ذات قوة وعزة ونصر وإنتشار، أي لم يكن القرآن الذي جاء به مجرد حديث موعظة، أو حديث صلاة وصيام، بل كان يشير إلى مشروع هائل، مشروع دولة عظيمة .
هذا القرآن الذي أعجز بُلغاء وأدباء وفصحاء العرب كافة بنصوصه، أعجز كذلك مفكريهم بفكره، وأعجز كذلك سياسييهم ببعد نظره، وشموليته، ووضوح فكرته، وجاذبيته، وطهارة مطلبه، وبالتالي صلاحيته لأن يكون نواة دولة عظيمة، وكان من المهم معرفة صاحب هذا القرآن ومُوجده، فلم يكن أمام قريش وغيرهم من العرب إلا أحد ثلاثة حقائق، فهو إما من عند محمد، أو هو من عند العرب أو أحد العرب، فالقرآن عربي مبين، أو هو من عند الله سبحانه وتعالى .
أما كون أن هذا القرآن من عند محمد فهو إدعاء باطل، لأن كفار قريش أنفسهم لم يقل أحدهم بذلك، فهم يعرفون محمد وقدرته وفصاحة لسانه، وأسلوب حديثه، بل ولا يتأتى لبشر معجزة لغوية كمعجزة هذا القرآن الذي يتلوه محمد، وأما العرب فلم يدّعِ أحد منهم أنه قال مثل ذلك القول، أو باستطاعته أن يأتي بمثله، بل أجمعوا أن هذا القرآن مُعجز وليس بقول بشر، لعلمهم بمستوى فصاحة اللسان العربي، وعلمهم بمنتهى القوة البلاغية عند العرب كافة، التي هي أقل بكثير من قوة بلاغة القرآن وفصاحته وعلمه .
فإن لم يكن العرب الذين أتوا بالقرآن، ولم يكن محمد بن عبد الله أتى بالقرآن، فمن أتى بالقرآن إذن؟ ، وهنا تتجلى الحقيقة بإجماع العرب كافة آنذاك، المُقرّين لدين محمد أو حتى الرافضين له، أن هذا القرآن إنما هو ليس قول بشر، وبالتالي ليس من عند محمد أو من عند أحد من العرب على الإطلاق، وإنما هو دليل على أنه من عند الله على لسان من أنزله عليه، وهو محمد بن عبد الله . وهذا إثبات قطعي ودليل عقلي قاطع على نبوة سيدنا محمد، وعلى أن هذا القرآن إنما هو كتاب أنزله الله على محمد بن عبد الله الطاهر الصادق الشريف الأمين سيد الخلق أجمعين، أكرمهم خلقاً، وأطهرهم نسباً، وأعفهم فعلاً، وأوسعهم حلماً، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطاهرين المتبعين لدينه والقائمين بحق دعوته، وعلى صحبه أجمعين، ومن إتبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
قال الله تعالى في سورة الفتح 29
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا
وقال الله تعالى في سورة الأعراف 158
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.